من بين المتنفّسات التي لجأ إليها المغاربة، خلال أزمة جائحة “كورونا” الرّاهنة، النكت والفكاهة، وهو ما يفكّك حمولاته الباحث في علم الاجتماع منير برقادي.

وورد هذا التحليل في مقال بحثيّ معنون بـ”نكت مغربيّة في ظلّ مرض كورونا: مقاربة تحليليّة”، صدر في كتاب جماعيّ معنون بـ”جائحة كوفيد-19 وآثارها الاجتماعيّة والتّربويّة والنّفسيّة”، عن “منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث”.

ويذكر برقادي أنّ من خصوصيات النكت في زمن “كورونا” تغيّر أشكالها، بفعل ضرورة المكوث في المنزل واحترام شروط السّلامة الصحية، فصارت “كلمات، وعبارات، وصورا، وفيديوهات” ينشرها النّاس على نطاق واسع رقميّا، وتتحدّث عن الجائحة وتمظهراتها، بعدما وجدت أرضيّتها الخصبة في شبكات التّواصل الاجتماعيّ، بحثا عن متنفّس للتّسلية والترفيه، مصداقا للمثل الشّعبيّ القائل: “كثْرَة الهَمّ كَتضَحَّكْ”.

ويوضّح الباحث أنّ النكتة، في مثل هذا السياق الاستثنائي الذي مرّ به المغرب والعالَم، تصير “تعبيرا فكاهيا عن ظرفية اجتماعية قاهرة”، و”وسيطا لتمرير خطاب نقديّ وتساؤليّ حول (…) حدث داخل المجتمع، أو توجيه ملاحظات ورسائل غير مباشرة جريئة، موجَّهَة للمؤسّسات السياسية التي تملك السّلطة، أو توجيه انتقادات على شكل نكت وطرائف فكاهيّة لأشكال السياسات الصحية السائدة في البلد في ظل الجائحة”.

والنكتة إذا ما نظرنا إليها كتعبير اجتماعي، وَفق الكاتب، هي “المتنفّس النقدي الذي يسخَر مِن الواقع الاجتماعيّ الذي تَعُمُّه أزمات أو مشاكل أو أمراض اجتماعيّة وسياسيّة”، وتخفي “الوجه الآخر للواقع الاجتماعيّ، وتفضح بعض مظاهره غير المقبولة”، وتسعى إلى “تغييرها بطريقة فكاهيّة ساخرة”، وهو ما لمسه الباحث في النكت التي رافقت الجائحة بالمغرب.

وتناولت مجموعة من النكت المغربيّة، التي انتقاها برقادي، موضوعات ترتبط بالإجراءات السياسية الصحية، والمعدّات والتّجهيزات الطبية وقدرتها، ووضع الكمّامات، ووضعية الأطقم الطبية، وقرارات الحَجر، وتقييد الحركة في الفضاء العامّ، ومن بينها: “جُوجْ إيلا مشاو ما يْرْجْعُوش: الصّحَّة، وأنا إيلا خْرَجْتْ نْهارْ 10 يونيو”، أي “اثنان إذا ذهبا لا يرجعان: الصّحّة، وأنا إذا خرجت يوم 10 يونيو”.

ويلاحظ الباحث في هذه النكتة “أسلوب كتابتها البسيط”، وتناولها “مسألة الصحة ومسألة انتهاء الاحترازات الوقائيّة، والرّفع النّهائيّ مِن الحَجر الصّحّيّ”، مع انفتاح موضوعها على أكثر مِن تأويل: “فالصّحّة هي رأسمال بشريّ أساسيّ ومُرتَكز لكلّ الأنشطة، وغيابها يعني غياب الممارسات الحياتية الطبيعيّة (…) أما شطرها الثاني فيرتبط برأي الشّخص الذي نسج محتواها، ويعبّر عن رغبته في التّخلّص من قيد الحَجر الصحي، وتفكيره بعد 10 يونيو في الخروج دون رجعة، وكأنّ خروجه من المنزل سيكون نهائيّا”، وهو ما يرى برقادي أنّه يبرهن “على وجود فكرة لا شعوريّة متضمَّنَة في محتوى النكتة”، هي “رغبة التخلّص من أجواء الحَجر الصحي”، والشّوق إلى “الحياة الخارجيّة والطّبيعيّة”.

ومن بين النّكت التي يشرّحها الباحث نكتةٌ “تتناول مسألة تأثير الحَجر الصّحّيّ على الحالة المِهنيّة والاقتصاديّة والقوت اليوميّ للمواطنين”، وتقول: “إذا أحسست بالأعراض التالية: حمى بدون حرارة، مزاج متوتر، لسان ثقيل، فليس بكوفيد 19، بل أنت شخص بْلا مَصروفْ، أو ما يسمّى Pochvide 2020″، أي (جيب فارغ 2020).

ومن بين النّكت التي يقرؤها الباحث نكتٌ تعكس المتاهة التأويلية، التي وجد المغاربة أنفسهم أمامها عند محاولة استيعاب ما يميّز “الحَجر الصحي” عن “حالة الطوارئ الصحية”، فكان من بين ما راج: “لكل مَن يسأل عَن الفرق بين حالة الطوارئ والحجر الصحي، راهْ الفرق بين القْزْبُرْ والمَعدْنوسْ”.

ويذكر الباحث أنّ من السمات المميّزة للنّكتة، كخطاب شعبيّ، قدرتُها على “المراوَغَة وإبلاغ بعض الرّسائل والمعاني بطريقة غير مباشرة”، فتقبع وراء كلماتها “مواقف وآراء وتصوّرات وتمثُّلات لا شعوريّة للأفراد حول مختلف ما يجري في المجتمع”، بـ”قصديّة ملتوية تعكس وضعيّة الأفراد أمام السياسات الصحية التي تنهجها البلاد”، على سبيل المثال لا الحصر.

ومن أمثلة هذه الانتقادات الموجَّهة إلى وزارة الصحة ومرافقها، وفق ما أورده الكاتب، تعليق ساخر يقول: “هذا الفيروس لَن يؤذينا يقينا، لأنّه سيرأف بحالنا حين سيرى وضعيّة مستشفياتنا، وسيرحل نحو الدّول الأوروبيّة التي تملك المستشفيات والتّجهيزات العالية جدا”.

وبعد تحليل محتوى مجموعة من النكت السياسية، يكتب برقادي أنّها تتقاطع في نقد الممارسَة السياسية وتتمايز من حيث استعمالات وتأويلات الأفراد، مع الارتكاز على فكرة هي: “عكس إرادة الأفراد/ المواطِنين مِن التّخلّص مِن الخوف والضّغط الذي تمارِسُه السّلطة عليهم، في ظلّ ما يعاش في هذه الأزمة الصحية مِن عقبَات وتحدّيات ومُشكِلات على المستوى السياسي والصحي والاجتماعيّ والاقتصاديّ”، فوُصِف، على سبيل المثال، “المقدّم” بكونه “الحاكم الحقيقيّ في زمن كورونا”، الذي صارت “زوجتُه أهمّ من زوجة الوزير، فهي الوحيدة التي تخرُج دون ترخيص”.

وتتبّع الباحث التنكيت والسخرية، اللّذَين رافقا تدبير السنة الدراسية، والتدريس عن بعد، والنقاش الحادّ بين التعليمَين العمومي والخصوصي، فكانت البداية عندما طلبت رابطة للتعليم الخاصّ بالدّعم عبر صندوق تدبير الجائحة، إذ انتَشَر تعليق ساخر يقول: “المافيا الإيطالية تدعم الإيطاليّين، والمافيا الرّوسيّة تدعم الروسيّين، والمافيا المغربيّة تطمع في صندوق كورونا”.

ولم يخلُ هذا المشهد الهزليّ من حديث عن توترات البيوت، وهشاشة الحياة الاجتماعيّة اليومية لمجموعة من المغاربة خلال الحَجر الصحي، فانتشرت نكت من قبيل: “ارحموا الأزواج في البيوت فهم أَسرى حرب”، و”زوجة طلبت من زوجها الخروج من البيت، فردّ عليها بأنّ جلوسه في البيت بمرسوم قانون”، أو “جلست يومين في البيت، فخاطَبتني زوجتي اليوم قائلة: فِيك النّوبة في التَّسياق، وغدّا تقول لي جاو فيك الخُطّابْ”، وأخرى تقول: “الفيروس الحقيقي هو الراجْل إذا طرد من العمل وجلس في البيت”.

ويرى الباحث في السوسيولوجيا أنّ هذه النكت الاجتماعية “تعكس على نحو منطقيّ وضعيّة الأسرة المغربيّة في بعض مظاهرها الهشّة، دون تعميم، (…) التي تحياها فئات عريضة في المجتمع”. كما كشف الحَجر، وفق الكاتب، “عن العديد من الحقائق أو المعيقات التي يعيشها الأزواج أو الأسرة، كتوزيع الأدوار بين الرجل والمرأة، والدخل، وأنثوية المرأة، والهيمنة الذكورية، والعادات المنزليّة”.

ويرى برقادي أن المغاربة، من خلال ما نسجوه من نكت، برهنوا بأنّهم “على دراية بما يحصل في المجتمع من تناقضات”، وعبّروا عن “رفضهم للسياسات المتّخذة، بطريقة غير مباشرة عن طريق الهزل والسّخريّة”؛ فكانت جلّ النكت المحلَّلَة “مبطَّنَة برسائل نقديّة موجَّهَة إلى مؤسّسات الدّولة وسُلَطِها”، وتجاوزت “وظيفة الهزل والإضحاك”، لتصير “قناة لتقييم ومساءلة الأزمات السياسية، والمراقبة غير المباشرة للسّلطة، والوقوف على الفضائح والتناقضات السياسية التي تحصل أثناء تدبير هذه الأزمة الصحية”.

hespress.com