حول دور التراث الثقافي غير المادي في التخفيف من حدة الفقر وتحقيق التنمية المستدامة، تمحورت ورقة بحثية بدراسة حالات من المغرب والصين، استخلاصا للدروس وتسليطا للضوء على الممكنات.

الورقة للباحث فؤاد الغزيزر، من كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية بجامعة الحسن الأول بسطات، وقد وقف فيها عند السياسات العمومية التي تستثمر التراث اللامادي للبلدين في سبيل خلق فرص العمل والحد من انتشار الفقر.

ذكر الباحث بأن أهمية التراث غير المادي دفعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “اليونسكو” إلى الاعتناء به، بعد التوصيات التي قدمت لها سنة 1989، بغرض حماية الثقافات التقليدية للشعوب، في وقت كان ينحصر فيه التراث العالمي أساسا في الجوانب المادية للثقافة، لتتبنى الدول الأعضاء في المنظمة سنة 2003 اتفاقية صون وحماية التراث الثقافي اللامادي التي دخلت حيز التنفيذ عام 2005، ونصت على كون التراث اللامادي “المصدر الرئيسي للتنوع الثقافي”.

وتعرف اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي، هذا التراث بكونه “الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحيانا الأفراد، جزءا من تراثهم الثقافي”، ويتوارث “جيلا عن جيل. تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد بصورة مستمرة، بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها، وينمي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ومن ثم يعزز احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية”.

وأورد الباحث أن التراث غير المادي يلعب “في كل من المغرب والصين دورا فعالا في التنمية السوسيو-اقتصادية، ويتميز بالتنوع والتعدد”، وذلك يسهم في “تنوع ثقافي متعدد المشارب”.

وحول مكانة التراث الثقافي غير المادي في الصين، قال الباحث إن هذه الدولة قد انضمت إلى “معاهدة الثقافة العالمية وحماية التراث الطبيعي” في 12 دجنبر عام 1985، وبدأت ترفع تقارير إلى برنامج التراث العالمي منذ عام 1986. ليصير بحلول دجنبر عام 2001، “دليل التراث العالمي” متضمنا ثمانية وعشرين من الآثار التاريخية والمعالم الشهيرة والمناظر الطبيعية في الصين، من بينها عشرون من أماكن التراث الثقافي، وثلاثة من التراث الطبيعي، وخمسة من التراث الثقافي والطبيعي.

وجاء في الورقة أنه منذ المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي عقد في نونبر 2012، يولي الرئيس الصيني شي جين بينغ أهمية كبيرة لحماية التراث الثقافي، وهو ما لا يرى فيه مجرد حقبة جديدة لحماية الصين تراثها، بل تعزيزا أيضا لزيادة الاستهلاك العام للتراث الثقافي غير المادي، في وضع “لَم يحدث من قبل”.

وعن دور التراث غير المادي في التخفيف من حدة الفقر وتحقيق التنمية المستدامة بالصين، ذكرت الورقة البحثية أن هذا البلد قد اكتشف “طرقا جديدة لحماية تراثه الثقافي في ظل الوضع الجديد للتكامل الثقافي والسياحي”؛ فاستعمل “التراث الثقافي غير المادي في المناطق الريفية الفقيرة للتخفيف من حدة الفقر، وتحقيق دخل مستمر”.

في سبيل تحقيق أهداف هذه السياسة، يزيد المصدر نفسه، عملت الصين على “إنشاء أوراش عمل لتوظيف التراث الثقافي غير المادي للتخفيف من حدة الفقر؛ فعززت تكامل حماية الحرف اليدوية التقليدية وحققت نتائج مهمة”.

وأوردت الورقة مثالا بإدراج “العديد من المناطق السياحية عناصر التراث غير المادي”، عمل بعضها “كعلامات تجارية رائدة”، مضيفة أنه في سنة 2018، أصدر المكتب العام لوزارة الثقافة والسياحة والإدارة الشاملة لمكتب التخفيف من حدة الفقر التابع لمجلس الدولة “إعلانا بشأن دعم إنشاء ورشات عمل لتوظيف التراث الثقافي غير المادي للتخفيف من حدة الفقر”، كما أصدرت وزارة الثقافة والسياحة إعلانا لتنشيط الحرف التقليدية للتخفيف من حدة الفقر، في “نموذج مبتكر”، اقترحت معه، بناء على بحث متعمق، “اختيار مشاريع الحرف التقليدية المناسبة للتسويق”.

وفي سبيل التنزيل، اعتُمد الاستثمار الحكومي في شكل مساعدات، مع إنشاء ورشات عمل لتنشيط وحماية الحرف التقليدية، وإنشاء محطات عمل بشكل تدريجي للتخفيف من حدة الفقر، بالاعتماد على التراث الثقافي غير المادي في مدن المقاطعات والبلدات والقرى الفقيرة.

لهذه الغاية، تشرح الورقة، أن بعض المقاطعات أحصت القرى الفقيرة وشديدة الفقر في مختلف البلدات، لمعرفة وضع كل منها، مع التركيز على حماية التراث الذي تشتهر به تلك المناطق. وهو ما أُنشئت معه “قاعدة بيانات للتراث الثقافي غير المادي”، قصد “بناء مشاريع رئيسية للمساعدة في التخفيف من حدة الفقر”، مع تحسين نظام حماية قوائم التراث الثقافي غير المادي على المستويات الوطنية والإقليمية والبلدية والمحافظة.

وأتاحت هذه الإجراءات للقرويين الصينيين، وفق المصدر نفسه، “العثور على عمل على مقربة منهم، حيث تم تعليمهم ممارسة تلك الحرف اليدوية التي كانت تستخدم للتزيين، سيرا على نهج أسلافهم”، وهو ما بدأت نتائجه تظهر تدريجيا، حيث حظيت تلك المنتجات بترحيب جيد في باقي المدن الصينية، وتم بيعها بمساعدة المؤسسات التنموية الصينية.

وفي سبيل تسويق المنتوجات، أنشئت أيضا “معارض للتخفيف من حدة الفقر من خلال التراث الثقافي غير المادي”، ووضعت نقاط بيعها في المواقع ذات المناظر الخلابة المعروفة، وروج لها من خلال السياحة الثقافية في المناطق الريفية.

وسجلت الورقة أن الغرض الأساسي من التخفيف من حدة الفقر عن طريق التراث الثقافي غير المادي ليس هو زيادة الدخل فقط، بل أيضا “تعبئة الحماس الحقيقي للأسر الفقيرة” حتى “تلعب دورها الفعال في التنمية الجيدة، وتستفيد من التراث الثقافي غير المادي”.

وحول تثمين المغرب للتراث الثقافي غير المادي، قدمت الورقة مثالا بالعناية الملكية الخاصة بهذا التراث المتوجة بإعداد دراسة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول “الرأسمال غير المادي: عامل لخلق الثروة الوطنية وتوزيعها المنصف”، فضلا عن “الإرادة السياسية التي تم تجسيدها على أرض الواقع، من خلال الأوراش الكبرى التي تقودها الحكومة المغربية لترميم وتثمين التراث الثقافي، سواء على مستوى المدن التاريخية أو القرى، والتي تأخذ بعين الاعتبار البعد الإنساني والقيم الثقافية القادرة على خلق مجالات الحياة حضريا وقرويا”.

وقدم الباحث في هذا الإطار مثالا بوضع وزارة السياحة “برامج عملية، ترمي إلى ترميم وتثمين المدن العتيقة، مع الأخذ بعين الاعتبار تحسين ظروف عيش الساكنة المستفيدة، وحماية التراث، مع تقوية الجاذبية الاقتصادية والسياحية”.

وذكّر الباحث بإسهام الصناعة التقليدية كتراث لا مادي في “تنشيط الحركة السياحية”، كما استحضر إسهام “الفنون الشعبية” بـ”قسط مهم في السياحة المغربية؛ فهي اللغة التي تتفاهم بها دون مترجم”، والممارسات التقليدية في مجال إدارة الموارد المائية.

وأكدت الدراسة أهمية تثمين هذه النّظم الموروثة، مع “العمل على نقلها لأجيال اللاحقة؛ لأنّها توفّر حلولا مستدامة للتصدّي للتّحدّيات البيئية والتنموية المتعلّقة بالمياه”.

وأبرز الباحث جانبا آخر من أهمية التراث الثقافي غير المادي، يتمثل في تعزيزه “التلاحم الاجتماعي في زمن التباعد والانكفاء على الذات؛ لأن العديد من الممارسات الاجتماعية، كالاحتفالات وفعاليات إحياء المناسبات، تساهم في تمتين الروابط الاجتماعية للجماعات، وتبرز القواسم المشتركة في الهوية للأفراد الذين يمارسون تلك الأنشطة، كاللباس، والعادات، وتقاليد الزواج والعقيقة والأكل والاحتفال…”.

ومع تعدد التراث غير المادي في كل من المغرب والصين، شددت الورقة البحثية على الدور الفعال الذي يلعبه في “التنمية السوسيو-اقتصادية”، وإسهامه “في تنشيط الحركة السياحية والثقافية، وتشغيل اليد العاملة”.

hespress.com