لعبت المؤسسة الملكية دورا محوريا في توجيه التحولات التي عرفتها الحركة النسائية بالمغرب بمختلف توجهاتها، وفق ورقة سياسات، تقول إنها قد استوعبت المشهد النسائي المغربي وهيمنت عليه، بعد “انتباه مبكر” إلى أهمية الحراك النسائي، واعتماد إستراتيجيات وأساليب احتواء لـ”رسم مشهد حقوقي واجتماعي جديد يمكن اعتباره خليطا بين “نسوية الدولة” و”الطريق الثالث”.

وتقول ورقة سياسات الباحث إلياس بوزغاية، التي نشرها المعهد المغربي لتحليل السياسات، إن المشهد النسائي المعاصر بالمغرب هو “نتاج لتفاعل التيارات الإيديولوجية في علاقتها مع بعضها البعض، ومع الفاعل الرسمي، الذي برهن على قدرته على إنتاج خليط بين “نسوية الدولة” وتيار “الطريق الثالث””؛ وهو تفاعل أدى “أدوارا مهمة لتحقيق مزيد من التحكم والسيطرة على المشهد النسائي بالمغرب لصالح النظام”.

وعلى الرغم من أن هذا قد يكون مسهما في “تهميش الحركات النسائية ودورها في التعبئة الاجتماعية المباشرة لصالح النساء”، فإنه، وفق الورقة، “حافظ على نوع من التوازن والاستقرار المجتمعي تحت شعار إيجاد “طريق ثالث” يمزج بين التقاليد والحداثة، العلمانية والإسلام، الدين والنسائية”.

ويسير الباحث في إطار تقسيم للحركة النسائية بالمغرب يرى أن جذور عملها المنظم يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، مضيفا أنه إلى حدود سنة 1970 طبعت عملها “تبعية معظم الجمعيات النسائية للأحزاب الوطنية، ومحاولتها الجمع بين النضال ضد الاستعمار ودعم النساء في وضعية صعبة من خلال تقديم المساعدة الاجتماعية ودعم تعليم النساء”، ثم تميزت العشرون سنة اللاحقة بـ”استمرار ارتباط معظم الجمعيات النسائية بأجندات الأحزاب السياسية، خاصة التيار اليساري الذي واكب التحولات العالمية بخصوص ارتفاع منسوب الاهتمام بالقضية النسائية؛ مما شجع على إثارة مطالب نسائية متقدمة”.

وابتداء من فترة 1990 إلى المرحلة الراهنة، تسجل الورقة أن التطورات السابقة أسهمت في “بداية تكاثر الجمعيات النسائية خلال فترة التسعينيات، حيث نجد أن 55.2 في المائة من الجمعيات تم تأسيسها خلال فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات. كما عرفت هذه الفترة تراجعا في الارتباط الوثيق بين الأحزاب وفروعها النسائية من الناحية التنظيمية”، إضافة إلى “ظهور الصحوة الإسلامية وما تبعها من انقسام وتباين في الجسم النسائي بالمغرب”.

ويحصر الباحث الحركات النسائية في ثلاثة تيارات: “علماني” واشتراكي وليبرالي، علما أن التيار اليساري لم يعد يظهر اهتماماته الماركسية اللينينية في نضالاته وخطاباته المعاصرة، ويشمل “جميع الجهود التي تستمد مرجعيتها وأدبياتها من مضامين مواثيق حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية التي تتبناها الأمم المتحدة”، وتيار “إسلامي” يُدخل ضمنه كافة الفاعلين الإسلاميين في المغرب، بما في ذلك الأحزاب والحركات والجمعيات والمؤسسات والشخصيات التي تنطلق من المرجعية الإسلامية في مطالبها النسائية. مع توجه إسلامي ثالث، وهو غير التوجهَين الحزبي والسلفي، يحاول ربط الجسور ورأب الفجوة بين “المرجعية الإسلامية” و”الكونية”.

أمام ثالث التيارات النسائية بالمغرب، وفق الورقة، فهو “التيار التوفيقي” أو “اتجاه الطريق الثالث”، الذي يجد صداه أساسا “من خلال المؤلفات الأكاديمية التي تحاول الحفاظ على مسافة الحياد من كل التيارات السياسية والإيديولوجية السائدة”، واعتُمِد أول مرة “من طرف الباحثة المغربية أسماء المرابط، كمفهوم يحيل على التوفيق بين التطرف النسائي الإسلامي والتطرف النسائي العلماني من خلال التأصيل لعدم التعارض بين القيم الإسلامية والقيم “الكونية” لحقوق الإنسان عبر إعادة قراءة النصوص الدينية من وجهة نظر نسائية”؛ وهو توجه برز خاصة “بعد انجلاء غبار المعارك النسائية التي شهدت شدا وجذبا بين الإسلاميين والعلمانيين ابتداء من سنة 2005″، و”غالبا ما يتخذ من المنابر الفكرية والأكاديمية منصة لإيصال أفكاره”.

ويعرج الباحث على محطات الصدام بين التيارين الأوليين، التي كانت أولى محطاتها الحملة التي أطلقها “اتحاد العمل النسائي” في مارس سنة 1992، لجمع توقيعات أكثر من مليون مواطن ومواطنة في عريضة شعبية يتم رفعها إلى السلطات من أجل الضغط في أفق تغيير مدونة الأحوال الشخصية التي تم إقرارها سنة 1957؛ وهو ما عين إثرَه الملك الحسن الثاني لجنة من العلماء وخبراء القانون لإدخال تعديلات على مدونة الأحوال الشخصية، في شتنبر من سنة 1993، ووافق فقط على النقاط التي كانت موضع إجماع، لتقر التعديلات التي اعتبرتها الناشطات النسائيات “سطحية بحكم أنها لم تمس القضايا الرئيسية؛ بما في ذلك الوصاية الزوجية وتعدد الزوجات والطلاق”.

رغمَ ذلك، تم في هذه المحطة “انتزاع الشرعية من العلماء غير التابعين للقصر وتنبيههم إلى عدم التجرؤ للحديث باسم الإسلام نظرا لاقتصار الأمر على الملك بحكم صفته أميرا للمؤمنين”. كما اعتبرت الناشطات النسائيات ما تم مهما “من أجل إنجاح جهود الإصلاح المستقبلية، بحكم أن التعديلات الطفيفة لها دلالة رمزية؛ تتمثل في أن المدونة لم تعد نصا غير قابل للمس والتغيير”.

بعد ذلك بسنوات، في 1997، سيقدم الوزير محمد سعيد السعدي، عن حزب التقدم والاشتراكية، مشروع قانون سمي بـ”الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”، تضمن توصيات حول تغيير مدونة الأحوال الشخصية؛ وهو “ما أثار حفيظة التيارات الإسلامية والمحافظة مرة أخرى”.

وتسجل الورقة أن هذه الخطة جاءت “في سياق أول حكومة يسارية متحمسة (حكومة التناوب) بقيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي حاول التركيز على إنجاز الإصلاح في منأى عن علماء الدين أو استشارة القصر. ولذلك، لم تكن الخطة موضع ترحيب من طرف العديد من الفرقاء السياسيين”، ويستشهد في هذا السياق بقول بسيمة حقاوي، وزيرة الأسرة والتضامن السابقة عن حزب العدالة والتنمية، إن “المشكل في ذلك الوقت لم يكن الخطة في حد ذاتها، بقدر ما كان في الأسلوب الإقصائي الذي اعتمدته الحكومة برفضها إشراك كل الأطياف فيه”.

ومع فشل الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية بعد تعاظم الحملات الرافضة لها، وفق الورقة، وما عرفته السنوات اللاحقة من نقاشات حادة ومستفيضة حول قضية المرأة في المجتمع المغربي، ظهرت بعض معالم التوافق والتعارض بين التيارين النسويين؛ “فبينما اتفقت جميع النسويات (الإسلاميات والعلمانيات) على أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمرأة يجب أن تتحسن، اختلفن في المنهجية والمرجعية المستخدمة في هذه العملية”.

ومع “احتدام الجدل وتجاهل المحافظين والتقدميين لوجود سلطة دينية في البلاد تجسدها إمارة المؤمنين”، تذكر الورقة أنه “لَم يكن هناك من مخرج سوى التدخل الملكي، وإعمال التحكيم عبر خطاب ملكي يوم 27 أبريل 2001، انتهى بتنصيب أعضاء اللجنة الاستشارية الخاصة بمدونة الأحوال الشخصية، ضمت علماء دين وأكاديميين وخبراء في القانون وناشطات حقوقيات”؛ وهو “ما اعتبر مقاربة تشاركية في إطار التشاور والتوافق والاجتهاد الجماعي توج بإصدار مدونة الأسرة سنة 2004، باعتبارها “ثورة هادئة” جاءت بمكتسبات قانونية مهمة لصالح المرأة”.

وبعدما كان إقرار مدونة الأسرة سنة 2004 “تتويجا لمسار التقاطب الحاد الذي عرفته الساحة النسائية بالمغرب وبداية مسار آخر من التدافع الأقل حدة”، تقول الورقة إن المؤسسة الملكية لعبت “دورا أساسيا في تأطير النقاش حول قضايا المرأة في المغرب”، من خلال “إدخال العنصر الديني باعتبار الملك أميرا للمؤمنين ورئيسا للدولة؛ وهو الشخص الوحيد المخول له دستوريا القيام بمهمة التحكيم بصفته الممثل الأسمى للأمة، كما جاء في خطابه في ذكرى ثورة الملك والشعب سنة 2003”.

جعل هذا مدونة الأسرة تسهم في “إضفاء الشرعية على حكم الملك بخلفية إسلامية”، من خلال رؤية جديدة للقيم الإسلامية لم تعد معها “العلمنة خيارًا للإصلاح”؛ وهو ما بدأت معه الحركات النسائية في تغيير استراتيجيتها، و”تسليط الضوء على الأداة الإسلامية المتأصلة في الاجتهاد، كأساس محتمل للنهوض بحقوق المرأة في بلد مسلم مثل المغرب”. كما شكلت قضية المرأة والتقاطبات الإيديولوجية حولها “مناسبة لبروز أحد أهم الاختصاصات الحصرية لمؤسسة إمارة المؤمنين، وهي رسم حدود الاجتهاد في الدين”.

وهي مستجدات، تذكر الورقة، أنه معها صار من الممكن الحديث عن “تراجع الزخم النسائي المؤدلج، وقدرة الدولة على الجمع بين الدين وحقوق الإنسان”؛ وهو ما لعب فيه السياق الدولي والوطني والاجتهاد “دورا محوريا في تحقيق ثلاثة أهداف لصالح الدولة: إلجام التزمت الإيديولوجي، وإحكام قبضة الدولة على المشهد النسائي، وتحسين صورة المغرب في مجال حقوق المرأة”.

وعن إستراتيجيات هيمنة الدولة على المشهد النسائي، يعدد الباحث بوزغاية أربع إستراتيجيات رئيسية، أولاها: “تأنيث المؤسسة الدينية الرسمية” أو “نسائية الدولة” في إطار مشروع “إعادة هيكلة الحقل الديني” الذي أطلقته الدولة منذ سنة 2004؛ وتم في إطاره “تأنيث المؤسسة الدينية الرسمية”، الذي من بين أوجهه تعزيز الحضور النسائي في باقي مؤسسات الدولة ذات التوجه الديني، وإنشاء معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات؛ وهو ما استمر مع قرار المغرب في يناير 2018 السماح للمرأة بمزاولة مهنة “عدل”، بتعليمات ملكية وفتوى علمية من المجلس العلمي الأعلى.

وثانية الإستراتيجيات، حَسبَ المصدر نفسه، “تصدر المشهد الحقوقي والخدماتي لصالح النساء”، الذي يظهر في بروز دور الدولة، على المستوى الحقوقي، في شخص المؤسسة الملكية، “كفاعل رئيسي في التحكم بمستوى امتثال المغرب للمواثيق الدولية المرتبطة بحقوق المرأة”، وعملها عبر المبادرة الوطني للتنمية البشرية، على الصعيد الخدماتي، للسعي في النهوض بأوضاع المجتمع، وخاصة النساء باعتبارهن من ”الفئات الضعيفة”، مع مجموعة من الصناديق الأخرى المخصصة لتعزيز الخدمات الاجتماعية يشرف عليها أو يعطي انطلاقتها الملك، كان آخرها صندوق جائحة “كورونا” ومشروع قانون الإطار المتعلق بالحماية الاجتماعية المتعلق بتعميم منظومة الحماية الاجتماعية في أفق 2025.

كما يظهر “على الصعيد الأكاديمي”، الذي تلاحظ الورقة فيه “تسابق العديد من المؤسسات والجمعيات للحصول على الرعاية السامية للملك محمد السادس لتنظيم فعالياتهم الثقافية”، لـ”تستمد به صفة الشرعية الرسمية مقابل الانتماء الإيديولوجي المحتمل”؛ وهو نهج تؤكد بمثله الدولة “مرة أخرى، أنها وإن لم تكن متصدرة تماما لكل المبادرات الداعمة لحقوق النساء، فإنها لا تنافس الفاعل الحكومي والمجتمع المدني في هذا المجال فقط وإنما تضبط إيقاع سيره على كل المستويات أيضا”.

ومن الإستراتيجيات أيضا “التحكيم والتوازن في القضايا الخلافية”، وعمل المؤسسة الملكية على “نهج مقاربة تسعى إلى تحقيق نوع من التوازن بين القوى الفاعلة في المجتمع”. ويقدم مثالا حوله بـ”مطالب الحركات النسائية من أجل صياغة الدستور الجديد إبان حراك “الربيع العربي” سنة 2011″، واختلاف مضامين المطالب حسب التوجه؛ وهو ما تضمن معه الدستور إشارة إلى “المساواة بين الجنسين في الفصلين 19 و 164، وعلى أساسهما نص على إحداث هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز. وتمت الإشارة أيضا إلى أهمية الأسرة والحفاظ عليها في الفصلين 32 و 169 من الدستور، وعلى إثر ذلك نص على إحداث المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة” بطريقة أصبح معها “بالإمكان إرضاء كل الأطياف النسائية سواء تحققت المطالب أم لم تتحقق في أرض الواقع”.

هنا تأتي رابعة الإستراتيجيات، وهي بالنسبة إلى الورقة “الحفاظ على سياسة الالتباس والقراءات المفتوحة”؛ فـ”إحداث “هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز” و”المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة” لَم يجد طريقه إلى الواقع على الرغم من مرور حوالي 10 سنوات من إقرار دستور 2011″، الشيء الذي قد يشير إلى “وجود رغبة في ترك الأمر ملتبسا على الفاعلين، خاصة عندما يتعلق الأمر بمواضيع ذات حساسية وصعوبة في التنزيل”.

كما يقدم الباحث مثالا بالفصل التاسع عشر من الدستور الذي يصرح بأن الرجل والمرأة يتمتعان “على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية”، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها”؛ وهو ما يقول إنه فصل يظهر “الالتباس أو ما قد يسميه البعض “تناقضا” بحكم أن المساواة، كما تنص عليها المواثيق الدولية، قد تختلف مع المساواة التي تنص عليها ثوابت المملكة التي من ضمنها الإسلام. وعليه، فإن المُشرع يسكت عما يمكن أن يفيد بصريح العبارة سمو إحدى المرجعيتين على الأخرى، لكي يبقى الغموض والالتباس سيد الموقف”.

وتذكر ورقة السياسات أن الهيمنة الشاملة للدولة على المشهد النسائي المعاصر تقترن “بتوجه عام يشمل كل الفاعلين النسائيين؛ لتجاوز الدوغمائية الإيديولوجية، وتبني منهج توافقي يطلق عليه “الطريق الثالث”؛ وهو ما ساعدت في تشكيله، وفقها، ثلاثة مؤشرات، أولها: “تراجع الصراعات الإيديولوجية لصالح ظهور مساحات أكبر للتوافق” حيث بدأت الدولة ترسي بعد “مدونة الأسرة” معالم “نسوية الدولة” من خلال الحرص على “صنع التوافق والتوازن”، وهو “ما يسعى إليه أنصار التيار التوفيقي”.

وثاني المؤشرات، وفق المصدر نفسه، الذي يؤكد التقاء “نسوية الدولة” مع “الطريق الثالث” هو أن هذا الأخير “لا يتبنى النهج الحركي الإيديولوجي أو التعبئة السياسية كوسيلة من وسائله، وإنما ينحو إلى العكوف على الدراسات اللاهوتية؛ وبالضبط تلك التي تكتشف مدى توافق الدين الإسلامي مع أدبيات الحركة النسائية في محاولة لتجاوز القراءات الذكورية للإسلام، وتجاوز هيمنة النموذج الغربي للنسوية الرافض للدين”.

أما ثالث المؤشرات، كما تذكر ذلك ورقة المعهد المغربي لتحليل السياسات، فهو أن “الطريق الثالث” يحظى “بجاذبية وترحيب، ليس فقط من طرف الدولة، وإنما أيضا من طرف شريحة واسعة من الجيل الناشئ”؛ فهو “تيار تعبر عنه شخصيات ومؤسسات غير مرتبطة بالضرورة بأي جهة سياسية قد تمثل تهديدا أو منافسة للدولة. كما أنه يتوافق مع النظام في هدف تحقيق التوازن بين مطالب التحديث من خلال القوانين “الكونية” ومطالب التمسك بالمرجعية الإسلامية كأساس لأي اجتهاد أو إصلاح”. ويلقى، أيضا، جاذبية “لدى الشباب الذين يبحثون عن التصالح بين قيم الحرية والمساواة والعدالة والقيم الإسلامية السمحة التي تشبعوا بها في تنشئتهم”.

hespress.com