أثارت بعض مضامين تقرير المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة حول الحالة الدينية لسنتَي 2018 و2019، جدلا واسعا حتى قبل أن ينشر ويوزع في المكتبات، بالنظر إلى ما تم فهمه بشأن رصد تراجع حالة التدين في المجتمع، مقابل زيادة جرعة الإقبال على الحياة من طرف الشباب المغربي.
وتعامل متابعون ومعلقون على ما راج بشأن التقرير المذكور بنوع من القسوة إزاء وسائل الإعلام، حيث انهال البعض عليها بالانتقاد والتقريع، كأنها هي من أصدرت التقرير مثار السجال، بينما كانت مجرد ناقل لأحد ملخصاته فقط.
واتهم معلقون وسائل إعلام مغربية بأنها تنفث السموم وسط المغاربة وتعادي الدين والتدين، بل انبرى خطيب مسجد في بلد أوروبي متحدثا من فوق المنبر عما أسماه “كذب وتضليل هسبريس”، لكونها نشرت خبرا عن التقرير بعنوان يشير إلى تراجع تدين المغاربة، رغم أنها لم تُبد رأيها في تراجع أو حتى زيادة التدين، بل نقل صحافيها جزءا من التقرير كان بالإمكان إثارة نقاش علمي مفيد حوله عوض إلقاء الاتهامات على عواهنها.
وفي سياق هذا النقاش الذي تفتحه حول الملف، اتصلت جريدة هسبريس بالدكتور عبد الكريم القلالي، أستاذ العقيدة والفكر والأديان بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، الذي قال إن “إطلاق القول وإصدار الأحكام المطلقة يحتاج إلى دراسات موضوعية متأنية دقيقة لها ضوابطها وشروطها العلمية المعروفة عند أهل الاختصاص”.
وأبرز القلالي أن إصدار مثل هذه الأحكام (تراجع التدين) في مجتمع ما، “يحتاج إلى دراسات موضوعية ميدانية شاملة لمختلف فئات المجتمع”، متسائلا: “حتى لو اخترنا عينة معينة، هل يمكن إصدار حكم من خلالها على حال التدين في المجتمع؟ فمن هي العينة المختارة؟ وكيف اختيرت؟ ثم ما هي مؤشرات التدين التي اعتمدت؟”.
ووصف الأستاذ الجامعي إطلاق الأحكام وادعاء تراجع التدين في المجتمع المغربي بأنه “نوع من التجني والتحامل على مجتمع عُرف بعراقة تدينه ماضيا وحاضرا، والتدين عريق أصيل فيه”.
ولفت القلالي إلى أنه “ينبغي التفطن إلى أن التدين أمر سري يرجع إلى علاقة العبد بخالقه، لا سيما إذا علمنا أن حالة الفرد في التدين تختلف من يوم إلى آخر، بل بين ساعة وأخرى للفرد نفسه، كما دلت على ذلك الكثير من النصوص، وكما هو معروف في قصة حنظلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الأخبار الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه ارتباطا بتغير الأحوال النفسية للعبد وأفعاله”.
واستطرد المتحدث بأن “مسألة التدين سر من الأسرار يصعب إطلاق الحكم فيها على فرد، فضلا عن مجتمع”، وقال: “أمِرْنا أن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، لكن ذلك الحكم لا يعني تتبع حياة الناس وأحوالهم لكونه أمرا غير مفيد، بل المفيد حث الناس على فعل الخيرات ونشر قيم الخير والتعاون بين أفراد المجتمع، وحسن الظن بالناس”.
وفي الشق الذي أثاره تقرير المركز البحثي بشأن الإقبال على الحياة، سجل القلالي أن “الحديث عن الحياة في مقابل التدين كأن بينهما تباينا هو أمر غير سليم، بل التدين هو الحياة، وكلما تدين الفرد أكثر اقترب من الحياة الطيبة الطبيعية أكثر، والتدين يكسب الاطمئنان والسعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة”.
الباحث في الشأن الديني زاد بأن الرؤية الإسلامية للحياة تتميز باعتبارها حياة ممتدة غير مقتصرة على مرحلة زمنية قصيرة، حيث يقول الله تعالى: “وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون”.
وتابع القلالي بأن “المطلوبَ السعيُ للحياتين كما تدل على ذلك النصوص عند جمعها وفق منهج أهل التفسير”، موردا أنه “إذا تتبعنا النصوص في كلام اللطيف الخبير، سنجد التصريح بأن ترك التدين يؤدي إلى ضيق في الحياة، بدليل قول الله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)”.
واسترسل أستاذ العقيدة والفكر والأديان بأن الحياة الحقة أو “الطيبة”، بتعبير القرآن الكريم، هي التي تكون مقترنة بالتدين، كما في قوله تعالى: “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة”.
ولاحظ القلالي أن “إسناد الإحياء إلى ضمير الجلالة هو تشريف لهذه الحياة ولصاحبها؛ فمانح تلك الحياة هو الله، وسبب منحها الأعمال الصالحة التي هي مظهر من مظاهر التدين والتقرب إلى واهب الحياة والسعادة”.
وكان رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة امحمد الهلالي قد اعتبر، في مقال منشور له، أن “الإقرار بتراجع التدين، أو تنكب الشباب عن التدين، يبقى خلاصة متسرعة تعوزها المعطيات العلمية”، على حد تعبيره.