لا يزال مطلب إلغاء عقوبة الإعدام يثير السّجال وسط الحقوقيين المغاربة، خاصة مع خروج خطة العمل الوطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى حيز الوجود، التي أقرت باعتبارها إحدى النقط الخلافية، مما يؤكد وجود تقاطب كبير بين التيارين داخل أطياف المجتمع المغربي؛ التيار الذي يمكن وصفه بالمحافظ الداعي إلى الإبقاء عليها، والتيار الحداثي المطالب بإلغائها.
وسجّل المركز المغربي لحقوق الإنسان، في مذكرة له عقب الانتهاء من تنفيذ مشروع شراكة عقدها المركز ذاته مع وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان خلال موسم 2019 ـ 2020 حول موضوع “إلغاء عقوبة الإعدام بين الرفض والتأييد”، أن “موضوع الإعدام خلق سجالا حول سبل تحقيق العدالة، والعدالة هي مفهوم نسبي غير مطلق، ويختلف من مجتمع إلى آخر، وتتطلب قضاء حرا ومستقلا، كما تتطلب مناخا اجتماعيا وإعلاميا وثقافيا يتيح تحقيقها أو تصويب انحرافاتها وكشف عوراتها”.
ومن بين مسوغات الطرح الداعي إلى الإبقاء على عقوبة الإعدام في القانون الجنائي المغربي أن قرار الإبقاء هو قرار سياسي بالدرجة الأولى، يضعه المشرع لاعتبارات سياسية مجتمعية في أزمنة معينة بحيث تتحكم في توجيهه الظرفيات المختلفة. قضاة النيابة العامة لا يلجؤون الى المطالبة بالحكم بعقوبة الإعدام إلا في حالات نادرة واستثنائية، متأثرين بالحوارات الاجتماعية التي تصاحب اقتراف الجرائم المعنية بالحكم.
وأقرّ الدّاعون إلى الإبقاء على عقوبة الإعدام بأنّ “المجتمع المغربي لم يقتنع بعد بإلغاء عقوبة الإعدام؛ بل ما زالت بعض الجرائم المقترفة بين الفينة والأخرى تشكل قضية رأي عام وطني، مما يدفع العديد من الأصوات إلى المطالبة ليس فقط بالإبقاء على عقوبة الإعدام، بل بتنفيذ عقوبة الإعدام في حق الجناة”.
وزادت المذكرة أنّ المغرب لم يصادق بعد على البروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وهذا بحد ذاته مؤشر على وجود تحفظ كبير على إلغائها. القاعدة هي العفو والاستثناء هو تنفيذ العقوبة. وأبرزت الوثيقة أنّ “القوانين السارية في أغلب الدول حاليا، التي تعتمد عقوبة الإعدام ضمن قانونها الجنائي، غير موضوعية، حيث ما زالت تعطي حق العفو لرئيس الدولة؛ في حين تنعقد الأحقية في العفو لذوي الضحية، وفق مقتضيات الفقه الإسلامي”.
وقالت المذكرة، التي استندت على مجموعة من آراء الباحثين والفاعلين، إن “العقوبة أزلية منذ التاريخ القديم، بما في ذلك الرسالات السماوية. التحولات التي عرفتها الأمم المتحدة، وتوجهها نحو اعتماد خيار إلغاء عقوبة الإعدام يرتبط بالإملاءات التي فرضتها بعض القوى العظمى على الدول الضعيفة، بصرف النظر عن خصوصياتها وقيمها الداخلية”.
واعتبرت الوثيقة ذاتها أن النموذج القضائي المغربي يراعي مجموعة من القواعد، بما في ذلك عدم استصدار حكم الإعدام إلا بعد استيفاء مجموعة من الشروط واكتمال القناعة التامة لدى قضاة الحكم بوجود ما يبرر استصداره في حق الشخص المدان.
ودعت المذكرة الصادرة عن المركز المغربي لحقوق الإنسان إلى ضرورة تقليص الجرائم الموجبة لعقوبة الإعدام بدل إلغائها بصفة نهائية، حماية للمجتمع من الجرائم البشعة.
وأوردت الوثيقة أن “عقوبة الإعدام تعتبر ردعا عاما، والمغرب قام بتقليص الجرائم الموجبة للإعدام، ضمن مقاربة أنسنة الأحكام. يجب تحقيق توازن بين الردع الواجب لحماية المجتمع، واحترام مبادئ حقوق الإنسان الكونية.
أمّا مسوغات الطرح القاضي بإلغاء عقوبة الإعدام من القانون الجنائي المغربي فهي مرتبطة بـ”المصلحة العامة”، بحيث تقتضي جعل الموضوع نقاشا حقوقيا وقانونيا، يستحضر مدى أهمية هذه العقوبة من عدمها في تحقيق الردع العام والخاص بشأن الجريمة على ضوء التجارب المعاشة، كما أنه يجب أن يتم بعيدا عن الظرفيات اللحظية المؤثرة فيه. لا يمكن البتة تطبيق عقوبة الإعدام بعيدا عن استحضار ظروف الحياة الصعبة، المسببة لارتكاب جرائم يندى لها الجبين”.
ويقرّ المدافعون عن إلغاء عقوبة الإعدام بأنّه “وجب العمل على معالجة الأسباب والمسببات في ارتكاب تلك الجرائم بدل الارتكان إلى عقوبة الإعدام، حيث إن التاريخ برهن في مرات عديدة أن عقوبة الإعدام استغلت استغلالا سياسيا. الأخذ بالثأر يحيل إلى نموذج لبيئة متخلفة. وبالتالي، فإلغاء أو تطبيق عقوبة الإعدام يجب أن يخرج من رحم نقاش صحي يأخذ بعين الاعتبار البيئة الحاضنة؛ وذلك بفهم أسباب الجريمة ومعالجتها والعناية بالإنسان أولا وأخيرا”.
وشدّدت المذكرة على أن “العقوبات الصادرة عن القضاة تقدير بشري في نهاية المطاف، وبالتالي، لا بد أن تحتمل الخطأ. لذلك، من بين المؤاخذات الخطيرة على عقوبة الإعدام أن الأحكام الصادرة في حق مشتبه بهم، يتبين فيما بعد أنها بنيت على قرائن خاطئة، ليصبح الخطأ غير قابل للتصحيح في حالة تنفيذ العقوبة. يجب التوفيق بين جميع المنظومات المجتمعية المتداخلة من صحة وتعليم وأمن ومجتمع مدني، لتفادي ارتكاب الجرائم الموجبة لعقوبة الإعدام”.
واعتبر الحقوقيون أن “عقوبة الإعدام مخصصة فقط للفقراء وهي غير منصفة، إذ لا بد من استحضار جوانب عديدة فهي بالتالي لا تحقق العدالة وليست بالضرورة عقوبة رادعة ولا تحقق الأمن. نسبة المطالبين بالإبقاء على عقوبة الإعدام في القانون الجنائي ليست معيارا موضوعيا في صواب العقوبة من عدمه. فالتجربة الفرنسية في عهد فرانسوا ميتران أثبتت ذلك، حين قررت حكومة هذا الأخير إلغاء العقوبة من القانون الجنائي الفرنسي؛ في حين أجمعت استطلاعات الرأي بأن 60 في المائة من المواطنين الفرنسيين كانوا مع الإبقاء على العقوبة”.
وأقرّت المذكرة ذاته بأن “الاتحاد الأوروبي سبق أن قرّر وضع إلغاء عقوبة الإعدام من القانون الجنائي للدول ضمن شروط الانضمام لعضويته. عقوبة الإعدام لم تكن رادعة ولا زجرية إزاء الجريمة؛ بل إن الدراسات العلمية جميعها لم تتبث مساهمة عقوبة الإعدام في تقليص الجرائم البشعة في أيّ مجتمع. عقوبة الإعدام والإجهاض والقتل الرحيم كلها قتل للنفوس، لا ينبغي اعتمادها كلية في القوانين”.
وشدّدت المذكرة على أن الإشكالية القائمة في المجتمع المغربي لا تتعلق فقط بتشديد العقوبات الزجرية، بقدر ما تتعلق بتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية، كفيلة بارتقاء المجتمع، كالتعليم والصحة وغيرهما؛ مما يساهم في تقليص الهوة وتحقيق الردع الاجتماعي للجرائم البشعة، التي تتغذى من الفقر والفاقة والبؤس والحرمان، والفوارق الاجتماعية الواسعة”.
ويستخلص، على ضوء مسوغات كل من الطرفيْن، أن الخلاف لا يزال محتدما، على نحو تتساوى بمقتضاه نسبة المؤيدين لعقوبة الإعدام قياسا مع نسبة المطالبين بإلغائه من القانون الجنائي المغربي.
ودعا المركز المغربي لحقوق الإنسان إلى “ضرورة الحد التدريجي من الحكم بعقوبة الإعدام، بمعنى حصر واختزال الجرائم الموجبة لعقوبة الإعدام، مع ضرورة اعتماد إجماع عدد من القضاة للحكم بها”. كما دعا إلى ضرورة إلغاء حكم الإعدام بالنسبة للمعارضين السياسيين، وعدم الانتقائية في تفعيل عقوبة الإعدام خلال إصدار الأحكام. ويبقى المطلب الحقوقي الاستشرافي قائما، والمتمثل في حث الدولة المغربية بضرورة انضمام إلى البروتوكول الاختياري الثاني للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية المتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام، بما يكفل إلغاء عقوبة الإعدام من القانون الجنائي المغربي قائما؛ لكون العقوبة تمس أقدس حق، ألا وهو الحق في الحياة، مع الحث على إيجاد أحكام بديلة، كفيلة بتحقيق الردع المنشود.