ترى دراسة تاريخية جديدة أن الفعل التضامني بالمغرب، على مستوى الفرد والدولة والمجتمع المدني، ليس محدثا أو مرتبطا بأزمة وحيدة هي جائحة “كورونا”، بل يندرج في نسق تضامني “تجذّر في المجتمع لقرون طويلة، إلى درجة لم تفلح معها كل التطورات التي عرفتها الأنماط الاستهلاكية والنظم الاقتصادية المتطورة، والتحولات المجتمعية الأخرى، في نزع خصوصياته المحلية، المستمدة من الدين والروابط الاجتماعية والخوف على قوة ومركزية الدولة خلال الأزمات”.

جاء هذا في دراسة بعنوان “السلوك التضامني خلال أزمة كورونا – التاريخ مدخلا للفهم والتفسير”، نشرها مركز تكامل للدراسات والأبحاث، وأعدّها سعيد الحاجي، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس.

وينطلق الباحث من أزمة جائحة “كورونا”، التي قال إنها “استطاعت (…) أن تحتكر لنفسها لقب أول أزمة شملت جميع دول العالَم بدون استثناء في القرن الواحد والعشرين”، وأدخلت العالم “فيما يشبه السبات الكونيّ، وحالة الجمود والترقب أمام كائن مجهري لا يعرف الإنسان كيف يحاربه”.

ومع إيقاف الخوف من الفيروسِ الاقتصادَ، تذكر الدراسة أن الأزمة صارت “محركا لعملية تفقير ضخمة وسريعة، نتج عنها فقدان شرائح واسعة مداخيلها، وتحوّل المنتمون إليها من أجراء أو ممارسين لمهن حرّة تدر مدخولا محترما إلى شرائح تنتظر ما ستجود به مخططات الدولة من دعم ومساعدات تضمن لها البقاء في مستوى الحد الأدنى من العيش”.. وهو الأمر الذي دفع الدول إلى تخصيص “ميزانيات هائلة لتقديم المساعدات المالية للأسر المتضرّرة، قصد مساعدتها على ضمان حد أدنى من الاستهلاك “يجنب الدورة الاقتصادية الشلل التام، ما قد يحول الأزمة من اقتصادية إلى اجتماعية؛ تؤدي في النهاية إلى أزمات سياسية مفتوحة على المجهول”.

وفي الدول ذات الاقتصادية المحدودة، التي من بينها المغرب، تزيد الدراسة: “حاولت الدولة بسرعة التدخل للتخفيف من حدة التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية، لكن التدخّل كان محدودا ومرتبطا بفترة معينة فرضت الدولة فيها على الناس عدم العمل والالتزام بالحَجر الصحي، تفاديا لانتشار العدوى”. ورغم تدخل الدولة في المغرب، إلا أن ما يساهم في التخفيف بشكل أكبر من تداعيات الأزمة، وفق الدراسة، “خصوصيات المجتمعات ومدى تجذر ثقافة التضامن داخلها”.

ويصف الباحث هذا التضامن بكونه “غير مؤسساتي، يخضع لمنطق مجتمعي صرف، مستند إما إلى أعراف محلية أو معتقدات دينية، أو تمثل الناس في المجتمع للأواصر العائلية”.

وتقول الدراسة إن دور هذه الآليات التضامنية كان بارزا في المجتمع المغربي خلال أزمة “كورونا”، فـ”رغم تخصيص الدولة مبالغ بسيطة من الدعم لبعض الفئات، إلا أن هناك آليات تضامنية قوية تحركت داخل المجتمع، وكان دورها يوازي دور الدولة في التخفيف من وقع الأزمة على الشرائح الهشّة”؛ وهي، حَسَبَ المصدر ذاته، “بنية سلوكية ممتدّة في الزمن، مازالت ماثلة إلى اليوم في المجتمع المغربي، على الرغم من تطوّر نمط الاستهلاك، وتقلّص حجم الأسرة، وتراجع الروابط الاجتماعية مقارنة مع ما كانت عليه في مراحل زمنية سابقة”.

وفي تفسير تاريخي، تقول الدراسة، في مستوى السلوك التضامني الفردي، إن الأزمات والكوارث الطبيعية أثّرت كثيرا في سلوك الإنسان المغربي عبر التاريخ، ما جعله يطور أساليب مواجهتها حسب ما توفّر لديه من إمكانيات، وتزيد: “رغم أن الجيل الذي يعيش أزمة كورونا الحالية أبعد ما يكون عن آخر الأزمات التي عرفها المغرب في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن 20، إلا أن سلوكه التضامني اتسم بنفس المميّزات التي طبعت السلوك التضامني الفردي في المغرب خلال فترات مختلفة”، دون أن تفلح التطورات المتسارعة “في النيل من بعض الآليات التوقعية للأزمات، مثل آلية الادخار”.

ومع تسجيل “العودة القوية والنشاط البارز لمنظومة التآزر الاجتماعي بين أفراد المجتمع بغض النظر عما تُقدّمه الدولة”، خلال أزمة كورونا، تذكر الدراسة أن العودة إلى “محددات السلوك التضامني الفردي” يتقدمها “المحدد الديني، ثم الروابط العائلية والقبَلية، ثم الروابط الإنسانية التي تجعل سلوك التضامن يتجاوز الدين أو الارتباط العائلي”.

ويذكر الباحث أن الدين، تاريخيا، كان دائما محركا للتضامن بين الأفراد، دون أن يقتصر على الإسلام؛ لأن “السلوك التضامني في المغرب تاريخيا كان يحركه أيضا الدين اليهودي على مستوى المجموعات اليهودية”.

وباستحضار أشكال تضامنية مثل “الوقف”؛ يقول الباحث إن التضامن بين الأفراد تحول إلى “نسق يشتغل بشكل تلقائي ودائم، مع تسجيل حيوية كبيرة في أوقات الأزمات، بشكل حوله إلى عنصر من عناصر استمرارية بنية قديمة ممتدة في المجتمع المغربي إلى اليوم”.

ورغم تحولات مفهوم الأسرة والعائلة في القرن 21 بفعل تطور نمط العيش وتقليص مساحة العائلة الكبيرة المتشابكة القريبة جغرافيا والقائمة على المشترَك، يرى الباحث أن “مفهوم العائلة في الأزمة الحالية سرعان ما يتوسع ليتخذ شكله التقليدي، بسبب الآليات التضامنية التي تمتد لتشمل أفرادا أبعد داخل العائلة الواحدة”. كما يستحضر البحث سلوكيات تضامنية للفرد داخل القبيلة، مثل آلية “التويزة”؛ ليقول إن السلوك التضامني ليس طارئا بل هو “جزء من بنية مجتمعية ثابتة”.

وحول “السلوك التضامني للدولة” تستحضر الدراسة حضورها التاريخي الدائم لدعم الفئات الهشة، مقدمة مثالا بـ”أشكال الدعم التي كانت تقدمها الدولة الموحدية (…) في فترات المجاعات والأوبئة”، وهو ما يكشف عن “سلوك مؤسساتي يمتد لقرون في المغرب”، نابع عن “حرص السلاطين على التقيّد بتعاليم الإسلام التي تحثّ على الإحسان، وضرورة تكريس الدولة لصورتها كحامية وضامنة للاستقرار ومعيشة المواطن خلال الأزمات”.

ويضيف البحث: “بل إن ما تقوم به الدولة حاليا هو ما كانت تقوم به دولة الموحدين، ثم دولة المخزن منذ ظهورها إلى حدود مرحلة الحماية”، وهو ما وصفه الباحث محمد الأمين البزاز بـ “الدور الاجتماعي للمخزن”.. دورٌ لَم يمنعه “التطور الذي عرفته الرأسمالية كنظام اقتصادي”، خاصة أن “حرص الدولة على استقرار المجتمع هو من حِرصها على وجودها كجهاز ونسق للحكم”.

وحول “السلوك التضامني للمؤسسات غير الرسمية” تذكر الدراسة أن فعالية “جمعيات المجتمع المدني” خلال هذه الأزمة لا تقلّ عن دور الدولة والأفراد.

ومع استحضار أن “المجتمع المدني مفهوم عصري”، يعود الدارس إلى الفترات التاريخية التي لم تعرف فيها أوروبا “وجود آليات للوساطة بين الدولة والمجتمع في ما يتعلق بالجانب التضامني”، في وقت كان المغرب يتوفر دائما على هذه الآليات “وعلى رأسها مؤسسة الزوايا باعتبارها مؤسسات غير رسمية، لكنها كانت تضطلع بشكل مستمر بمهام أساسية داخل النسق التضامني، سواء عبر إيواء عابري السبيل وتزويدهم بالمؤونة، أو توزيع الإعانات خلال أوقات الأزمات كالمجاعات والأوبئة وغيرها”.

وتوضح الدراسة أن الزوايا “رغم كونها مؤسسات دينية إسلامية المرجعية، وتختلف عن بعضها على المستوى الطقوسي”، إلا أن ذلك “لم يمنعها من تبني سلوك ديني تضامني لا يميز بين المنتمين إليها والمنتمين إلى زوايا أخرى أو بين المسلم وغير المسلم؛ بدليل استفادة اليهود المغاربة، على سبيل المثال، مما كانت تتيحه الزوايا من مساعدات خلال أوقات الأزمات التي عرفها المغرب”.

هذه الآليات الثلاث التي “تشكّل أسس النسق التضامني الذي ظهر خلال أزمة كورونا الحالية بالمغرب”، يرى المؤرخ أنها “حافظت على جوهرها رغم التغيرات الشكلية الكبيرة التي أصبحت تعرفها الآليات التضامنية، ورغم مأسسة أشكال التضامن الرسمي على طول السنة، مثل مؤسسة محمد الخامس للتضامن”؛ فـ”السلوك التضامني يبقى في جميع الأحوال جزءا من بنية المجتمع المغربي، يظهر بشكل أكثر نشاطا خلال الأزمات”.

hespress.com