كشفت دراسة ميدانية حديثة أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وما واكبها من نشوء عدد كبير من جمعيات المجتمع المدني، ولّدت نوعا من علاقة التنازع على المستوى المحلي بين الفاعل الجمعوي والفاعل السياسي، بعد أن صار العمل الجمعوي ملجأ للأفراد الذين فقدوا الثقة في الأحزاب السياسية وفي تنظيماتها الموازية.
الدراسة التي أنجزها الباحث مصطفى المناصفي، حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة فيرساي بفرنسا ويعمل أستاذا باحثا في جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، ونشرها المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، تفيد بأن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مكّنت من استقطاب جزء من النخبة المحلية إلى العمل المدني، ما شكّل بديلا للأحزاب السياسية في تأطير المواطنين وفي استقطاب النشيطين منهم.
وانطلاقا من الاستنتاجات التي خلصت إليها الدراسة الموسومة بعنوان: “جمعيات المجتمع المدني وممثلو السلطات العمومية في المغرب: مدينتا الرباط والدار البيضاء نموذجا”، فإنّ الفاعلين الجدد في مجال تدبير الشأن المحلي، المنتمين إلى جمعيات المجتمع المدني، خلقوا نوعا من القطيعة بين التنظيمات الجمعوية والتنظيمات الحزبية، خصوصا على مستوى الخطاب، وفي مجالات متعلقة بإدماج الشباب وفلسفة التنمية والنوع الاجتماعي.
واستنادا إلى المصدر نفسه، فإن الآليات التشاركية التي تمخضت عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي جرى إطلاقها سنة 2005، أفضت إلى خلق فضاء جديد أمام الفاعل الجمعوي من أجل التهيئة والانخراط في العمل المدني، كما أن هذه الآليات تعد بمثابة أداة للمساهمة في صنع القرار على المستوى المحلي، حيث منحت لفاعلين جدد كالنساء والشباب فرصة جديدة للمشاركة في صنع القرار المحلي؛ ومن ثم، برزت نخبة جمعوية مستقلة عن الأحزاب السياسية وتنظيماتها الموازية.
وفي الوقت الذي تحاول فيه الأحزاب السياسية المغربية تحسين صورتها لدى الرأي العام، وجلب تعاطف الأفراد وتوسيع دائرة الانخراط فيها، تبيّن الدراسة أن التقارب بين جمعيات المجتمع المدني والسلطات العمومية في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أدى إلى رغبة الفاعل الجمعوي في الاستمرار كفاعل مدني والابتعاد عن الانخراط في العمل الحزبي والسياسي.
وبحسب الاستنتاجات التي توصّل إليها الباحث مصطفى المناصفي في دراسته، فإن الفاعل الجمعوي يفسّر رغبته في الابتعاد عن العمل الحزبي والسياسي بكون العمل المدني يمنحه حرية أكبر عكس العمل الحزبي، إضافة إلى الاستقلالية في التسيير واتخاذ القرارات، وتمتع المنخرط بفرصة القيادة، عكس العمل الحزبي والسياسي الذي يُلزم المناضل الحزبي بضرورة تتبع التوجهات الكبرى لقادة الأحزاب، حتى وإن كان المنخرط فيها لا يتفق مع هذه التوجهات.
وبينما يسجّل انخراط المواطنين في الأحزاب السياسية المغربية ضعفا كبيرا جدا، خاصة في أوساط الشباب، تفيد الدراسة بأن موقف الفاعل الجمعوي من العمل الحزب يُظهر أن العمل الجمعوي “أضحى ملجأ للمواطنين الذين لم يستطيعوا تحقيق مسار سياسي، كما يوضح غياب الثقة في الأحزاب السياسية، وعدم قدرة هذه الأخيرة على تجديد نخبها”.
وبخصوص علاقة المجتمع المدني مع ممثلي السلطات العمومية، كشفت الدراسة أن سياسة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بينت أن هناك رغبة لدى السلطات التنفيذية في إشراك المواطنين المستهدفين بهذه السياسية، خاصة أولئك المنظمين في إطار قانوني، غير أن هذه الرغبة تختلف من عمالة إلى أخرى، “لأن ذلك مرتبط بمزاج رجال السلطة، ومدى رغبتهم واستيعابهم للمشاركة المواطنة”.