سلّط عبد العالي كابيح، أستاذ في جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، الضوء على الأزمة التعليمية في المغرب، موردا أن “مشاريع الإصلاح الزبدية التي ابتلي بها التعليم في بلادنا من طرف عموم السياسيين، نجد أنها ولدت عبثية إلى حد ما، وأحيانا محاطة بجدران من التعتيم المسلح، لا يرى المرء معها وفق أي آليات تم وضع هذا الإصلاح، ولا لأي استراتيجية تم إخضاعه، حتى صار حالنا ونحن ننتظر النتائج من حال من ينتظر زلزالا، لا يمكن تجنبه ولا التحكم في كوارثه”.

وأوضح كابيح، في مقال تحت عنوان “قراءات في واقعنا التعليمي: التربية قبل التعليم”، أنه “يجب إعادة هيكلة مدارس الدولة وفق استراتيجية طويلة المدى تركز على البعد التربوي لأن الجودة في التربية ستعطيك حتما جودة في التعليم بالنهاية. ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن الكادر التربوي المقتصر في تكوينه على سنتين بعد البكالوريا يظل عاجزا ومفتقرا للحد المطلوب من الرشد الفكري والنضج الأكاديمي. وعليه، وجب إعادة هيكلة مسالك التكوين عند الكادر التربوي وفق برنامج بيداغوجي أكاديمي”.

إليكم المقالة:

من صاحب هذه المؤسسة التعليمية الخاصة؟ الجواب: طبيب! السؤال واقعي مر، والجواب واقع مرير يعكس مدى العبث الأخلاقي الذي وصلت إليه منظومة التعليم ببلادنا. لم يكن الناس يدركون يوم فتح المزاد لبيع التعليم إلى المرتزقة الخواص أن الأمر سيغدو ورما سرطانيا سيتلف جهاز المناعة عند الأمة، ولم يكن الناس يدركون يوم فتح ذلك المزاد اللعين أن رحى رهيبة شغلت وستطحن الأرزاق والضمائر لتجعل الناس يمعنون أيما إمعان في الشقاء.

كلما وقف المرء بالتأمل في أزمات منظومتنا المجتمعية يزيد الاعتقاد أن الأزمة الأخلاقية هي أزمة الأزمات، ضربت بجذورها في منظومة التعليم، وباعتبار هذه الأخيرة رأس العين سال الكدر إلى باقي المنظومات من صحة وأمن ورياضة وثقافة… حتى أضحى مجتمعنا بيئة، وصار الإخفاق قاعدة، فيما النجاح محض استثناء، مجهضة للكفاءات.

يزداد المرء إحباطا عندما يقف على حقيقة أن العبث السياسي بالتعليم هو أحد مصائبه الكبرى، فعندما يعجز السياسي على إدراك حقيقة أن التعليم هو أمن قومي، ويتجرأ على إخضاعه لمنطق الصفقات والبيع والشراء، فثم واحدة من التجليات الكبرى لأزمة التعليم الأخلاقية.

وبالوقوف على مشاريع الإصلاح الزبدية التي ابتلي بها التعليم في بلادنا من طرف عموم السياسيين، نجد أنها ولدت عبثية إلى حد ما، وأحيانا محاطة بجدران من التعتيم المسلح، لا يرى المرء معها وفق أي آليات تم وضع هذا الإصلاح، ولا لأي استراتيجية تم إخضاعه، حتى صار حالنا ونحن ننتظر النتائج من حال من ينتظر زلزالا، لا يمكن تجنبه ولا التحكم في كوارثه، وأقصى ما يستطيع المرء معه هو أن يسأل الله اللطف منه.

من تجليات النزيف الأخلاقي الذي أحدثه التعليم الخاص أن غاب الضمير المهني عند الطبيب في منظومة الصحة حتى صار الطبيب يجهز في ربع ساعة (مدة الكشف) على عشر الدخل الشهري المتوسط (500 درهم) لمريضه، لينهي صاحب أنبل مهنة يوما واحدا بدخل يفوق دخلا شهريا للمواطن، وقد حجبت عنه حقيقة أن الأموال التي أوتيها على علم عنده (كم يخيل له) إنما هي من آلام وأنين الناس، وهي عقاب لا يحس به، فأعظم العقاب أن لا يحس المعاقب بالعقوبة، بل وأعظم من ذلك أن يفرح المعاقب بالعقوبة كآكل مال الربا، وكجامع أموالا على حساب آلام الناس… ولئن جاز لنا وصف حال أطبائنا الذين كثر جشعهم على كثرة أخطائهم دون حسيب أو رقيب، فلن نجد أدق من قول: طبيب في الجنة وطبيبان في النار.

من تجليات العبث بمنظومة التعليم في بلادنا أن صار المغرب يعود من تظاهرات الرياضة العالمية بخفي حنين، دون أن يستوعب حقيقة أن الرياضة المدرسية الملازمة والمتلازمة مع العملية التعليمية التربوية هي السر في صناعة نجوم الرياضة عند الدول الكبرى التي باحترامها للجانب الأخلاقي في نظامها التعليمي جعلت من النظام الرياضي المدرسي جزءا مفصليا من منظومة التعليم، ورأت في الرياضة المدرسية أذكى استثمار لصناعة النجوم والكفاءات.

إنّ ترك المواطن فريسة في أرض مفتوحة لوحوش التعليم الخاص، ووحوش العقار، ووحوش الأبناك، ووحوش المصحات الطبية، لهو جريمة أخلاقية بالغة التعقيد، تسير بالمواطن نحو إتلاف جهاز مناعته الأخلاقية، وبالمحصلة إتلاف ضميره المهني الوظيفي، باعتباره الشفرة التي تحول دون تحول هذا المواطن من فريسة تترصد إلى وحش جديد ينضاف إلى الطيف الواسع من ضواري ووحوش وخفافيش الظلام.

هذا التشخيص لمنظومتنا التربوية التعليمية أشبه بما يكون بجسم ضرير موغل في السقم، يعاني نزيفا أخلاقيا تزداد حدته باستفحال أورام التعليم الخاص التي لا يمكن إيقافها إلا بجرعات كيميائية إن لم يكن البتر. وعليه، فإن معادلة إصلاح التعليم تبدأ بإيقاف الكدر الأخلاقي من بؤره التي هي أوكار التعليم الخاص، وإعادة الاعتبار والهيبة لمدارس الدولة الموغلة في الهجرة والتهميش والتحقير حتى غدت تبدو كئيبة بألف مبرر.

طبيا، إيقاف نزيف يستلزم عملية جراحية مؤلمة مستعجلة إلى درجة لا يستشار معها المريض ولا أهله. من هنا، تأتي توصياتنا العملية العلمية بخارطة طريق تنتشل سفينة تعليمنا من عاصفة أبحرت بها وسط محيط الخوصصة اللاأخلاقية الهادر… ليعلم المواطن قليل الدخل قبل ميسور الحال أن إحياء روح مدارس الدولة الميتة سريريا وإعادة الهبة لها والثقة فيها قد أصبح فاتورة شهرية وجب عليه أداؤها لقطع الطريق على من يرون أن العجز عقل ويقولون إن التعليم قطاع غير منتج ينهك ميزانية الدولة، دون أن يفطنوا إلى حقيقة الدمار الأخلاقي الذي يحدثه التعليم الخاص، هو أكبر منهك لميزانية الدولة التي أصبحت بسبب بعده الربحوي تحارب على جبهات عدة: جبهة الإجرام، جبهة المخدرات، جبهة الرشوة، جبهة حرب الطرقات، جبهة الأمية، جبهة الأطباء منعدمي الضمير المهني، مافيا العقار، واللائحة طويلة.

ثانيا، عمليا وحسابيا تستطيع فاتورة شهرية قدرها 300 درهم يدفعها المواطن عن كل ابن ولج مدارس الدولة، مع مراعاة الفئات المعوزة، أن تكون عصا موسى التي تعيد الروح إلى مدارس الدولة الميتة سريريا، مع العلم أن نسبة كبيرة من المواطنين تدفع أضعافا مضاعفة للتعليم الخاص، ومع التأكيد على استعداد هؤلاء لدفع أكثر من 300 درهم لتعليم الدولة شرط أن يستوفي معايير الجودة.

تخصص 50% من هذه الفاتورة لإصلاح البنية التحتية للمؤسسات التعليمية، توضع بأياد بيضاء متورعة عن نهب وتبذير المال العام (وهذه جبهة أخرى تنهك الدولة بسبب التسيب الأخلاقي) لتستثمر في جزء مفصلي من العملية التعليمية ألا وهو البنية الرياضية للمدارس، باعتبارها البيئة التي تحفز على التحصيل وترفع مستوى التفوق، والبيئة الحاضنة للمواهب الرياضية الخام لتهيئ لصناعة النجوم. وفي أقل تقدير، فإن الرياضة المدرسية تسمو لك بروح المواطنة لدى المواطن فتبعده عن فكر المخدرات والإجرام، وعن فكر التطرف وتطرف الفكر، ولن يجد المرء أجمل من تشبيه الاستثمار في الرياضة المدرسية بزرع شجرة زيتون، عندما تبدأ في العطاء والغلة تخرج من حبها زيتا بكرا عالي الجودة، وتخرج من الجفت زيتا ثانيا جيد الجودة، وما تبقى من عجينة تخرجه لك مواد نظافة وتجميل، وحتى ما تبقى من فضلات الفضلات يأتيك سمادا وحطبا طبيعيين صديقين للبيئة.

إذا بحثنا في سر الدول المتألقة أولمبيا سنجده كامنا في احترام هذه الدول لمادتها الخام من الناشئة التي وفرت لها مدارس تعليمية مجهزة بمجمعات رياضية من العيار الأولمبي، يلج إليها الجميع وفق برنامج بيداغوجي تربوي يسمو بفكر المواطنة، ويصقل المواهب التي إذا ما وصلت إلى مستوى المنافسة العالمية لم تجد في نفسها عقدة الملاعب ذات الطراز الأولمبي.

من هنا تأتي التوصية بثورة في البنية الرياضية المدرسية نقطع من خلالها مع النموذج الكلاسيكي البائس لبنيتنا الرياضية المدرسية المقتصرة على أرضيات مزفتة لا سبيل معها لحضانة المواهب، تتدافع عليها الأجيال مجبرة لا بطلة. عمليا تقتضي الثورة في البنية الرياضية المدرسية تخصيص مجمع رياضي لكل ثلاث مؤسسات تعليمية، يضم هذا المجمع مسبحا وملاعب تنس ومضامير ألعاب القوة وملاعب لمختلف الرياضات الجماعية، ليشكل هذا في مرحلة أولية النواة والعش الرياضي الأنسب لتفريخ المواهب تحت حضانة الأم الدولة، وبعيدا عن تطفل المربيات من علب التعليم الخاص.

تعليمنا المنهار ليس أشبه إليه من عربة متهالكة يجرها حصان اهتر وهرم، ولن يكون من الحكمة وقد صار ليعلم المواطن والدولة أن التغيير ضرورة قصوى أن نصلح العربة ونترك الحصان. هنا يأتي الشق الأصعب في معادلة الإصلاح، فأنت تستطيع أن تضخ كل الموارد المادية والبشرية لإصلاح منظومة ما، لكن إذا غاب الضمير المهني للكادر صارت مواردك أشبه بماء تسكبه على رمل، تماما كما حصل مع البرنامج الاستعجالي العبثي الذي رصدت له أرقام فلكية، وفي النهاية جاءت النتيجة صفرا على اليسار.

إصلاح وتحفيز الضمير المهني للكادر التربوي لا يتأتى إلا بالوقوف على الأوتار التي صار يحلو لهذا الأخير العزف عليها كلما سئل عن السبب الذي جعله يساهم بكثير من المسؤولية الأخلاقية في الاستهتار بمدارس الدولة، وفي تهميشها وتحقيرها، وبالمحصلة في تنفير المواطن منها، هما وتران: وتر الراتب الشهري الهزيل، ووتر ظاهرة عدم الانضباط لدى فئة كبيرة من تلاميذ مدارس الدولة كنتيجة طبيعية لتقزيم السلطة المعنوية للمعلم والأستاذ. هذان المشكلان على اختلاف طبيعتيهما مادي صرف وتربوي محض، يتطلب حلهما العمل على أربعة محاور أساسية:

أولا: رفع الراتب الشهري للكادر من خلال 50% المتبقية من الفاتورة الشهرية للمواطن، وبما يتناسب مع تكاليف المعيشة.

ثانيا: يبقى الاستثمار في البنية الرياضية أحسن مقاربة للقضاء على مشكل عدم الانضباط لدى تلاميذ مدارس الدولة، وضبط سلوكياتهم وإبعادهم عن فكر العنف وعنف الفكر كظاهرة فرضت نفسها على مجتمعنا.

ثالثا: إعادة ضبط وهيكلة المقررات المدرسية وفق قاعدة التربية قبل التعليم؛ إذ يلاحظ بكل إحباط أن المستويات التعليمية الأولية والابتدائية تعج بمقررات تعليمية صرفة تفوق بكثير الطاقة الاستيعابية لدى الناشئة التي تنتظر منك التربية والتوجيه قبل التعليم.

وهنا يجدر بنا التنويه بالأنظمة التعليمية لدى الدول الراقية كألمانيا، حيث تخصص السنة الابتدائية الأولى لتربية التلميذ على ضبط طريقة الجلوس، تعليمه حسن الإنصات، تعليمه التعبير عن نفسه وأحلامه عن طريق الرسم، تعليمه السباحة، استعمال الموسيقى لتثبيت السلوكيات الراقية في فكره: الصدق، الأمانة، الثقة في النفس، احترام إشارات المرور، احترام القانون والنظام.

رابعا: إن البعد الربحوي لمدارس المرتزقة الخواص لهو أكبر عدو للتربية والتعليم، ومثل من يستجدي من هذه العلب التعليمية جودة في التربية. وعليه، فإن الثورة التعليمية التي نحتاج تبدأ عمليا بإيقاف المد الرهيب لمدارس الخواص، والتعليم كمثل باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.

يجب إعادة هيكلة مدارس الدولة وفق استراتيجية طويلة المدى تركز على البعد التربوي لأن الجودة في التربية ستعطيك حتما جودة في التعليم بالنهاية. ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن الكادر التربوي المقتصر في تكوينه على سنتين بعد البكالوريا يظل عاجزا ومفتقرا للحد المطلوب من الرشد الفكري والنضج الأكاديمي. وعليه، وجب إعادة هيكلة مسالك التكوين عند الكادر التربوي وفق برنامج بيداغوجي أكاديمي، كما هو الحال عند الدول المتألقة والمتطورة تعليميا، حيث يتطلب امتهان مهنة التعليم خمس سنوات جامعية تنتهي ببحث ومشروع أكاديمي للتخرج، بهذا بقيت هذه الدول وفية لمثلها الذي آمنت به كون الدول القوية تصنع في أقسام المدارس.

وتبقى أهم حلقة في مسلسل الإصلاح هو أن تلتقي إرادة الدولة مع إرادة المواطن نحو ثورة تعليمية مكينة تحترم السنة الكونية الأزلية:﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ صدق الله العظيم.

ختاما، لا ينفع تهشيم الأضواء الحمراء ولا سب صفارات الإنذار عندما تخطف الأبصار والأسماع في برج قيادة سفينة تتقاذفها العواصف ويتشاجر داخلها الركاب، وإنما ينفع التشمير عن العقول لاكتشاف وعلاج الخلل، وهو بالتأكيد ليس موجودا لا في “اللمبة” الحمراء ولا في صفارات الإنذار.

hespress.com