يتساءل الإعلامي عبد العزيز كوكاس عن الطريقة الأنسب لتحويل أزمة كورونا إلى مختبر تتفاعل فيه كل الإرادات والطاقات من أجل السير نحو الأمام، وأن تتعاون كل الأذرع من أجل مستقبل أفضل.

ويرى كوكاس، في مقال جديد له، أنه لم يعد ممكنا إعادة إنتاج السياسات العمومية السابقة، مردفا بأن النموذج التنموي الذي نترقبه “قد نعتبره ميتا حتى قبل إعلان ميلاده، ولو أننا لا نريد أن نشتم المستقبل”.

إن الحوار بين كافة الفرقاء، من وجهة نظر الكاتب، ضروري من أجل تعاقد اجتماعي وسياسي جديد يعي الإكراهات غير المسبوقة التي أحدثها فيروس “كورونا” بالمغرب، مضيفا أننا “مازلنا لا نعرف ما ينتظرنا مع مختلف أشكال التحوير والتطور التي بدأ يتخذها الفيروس الفتاك، للانتقال من الانتظارية التي تسم ردود فعل الطبقة السياسية والاقتصادية إلى ساحة الفعل الخلاق لإبداع الحلول، وتحرير طاقات النخب السياسية وخروجها من حالة الارتباك والغموض”.

وهذا نص المقال:

في مسرحيته “حالة طوارئ” أورد ألبير كامي على لسان إحدى شخصياتها: “لا مصيبة ليس لها جانب طيب، حتى الحروب ذاتها هي في بعض وجوهها نعمة”، هذا حال المملكة اليوم ونحن في دائرة الجائحة التي لا ندري متى يرفع الله شرها عنا.

لقد وقفنا على الكثير من أوجه النقص والتخلف، لأن الفيروس عرّى الكثير من أوراق التوت التي كنا مقتنعين بأنها تحجب سوءاتنا، لقد قصف ما كنا نتدثر به.

وما دام في كل مصيبة جانب طيب فإن دروس “كورونا” عديدة، وعلينا أن نخلق من مختلف أوجه الأزمة التي وقفنا على حقيقتها مع فيروس كوني كشف العديد من جوانب النقص والضعف فينا؛ فالمجتمعات الحيوية ليست هي تلك التي تخلو من الأزمات، بل تلك التي تجعل من الأزمة محركا للتقدم والسير إلى الأمام بخطوات ثابتة لكي لا يتكرر ما حدث في السابق..

كيف نحول اللحظة إلى مختبر تتفاعل فيه كل الإرادات والطاقات من أجل السير نحو الأمام، وتتعاون كل الأذرع من أجل مستقبل أفضل.

لم يعد ممكنا إعادة إنتاج السياسات العمومية السابقة نفسها، والنموذج التنموي الذي نترقبه قد نعتبره ميتا حتى قبل الإعلان عن ميلاده، ولو أننا لا نريد أن نشتم المستقبل.

إن الحوار بين كافة الفرقاء ضروري من أجل تعاقد اجتماعي وسياسي جديد يعي الإكراهات غير المسبوقة التي أحدثها فيروس “كورونا” على المغرب، وما زلنا لا نعرف ما ينتظرنا مع مختلف أشكال التحوير والتطور التي بدأ يتخذها الفيروس الفتاك، للانتقال من الانتظارية التي تسم ردود أفعال الطبقة السياسية والاقتصادية إلى ساحة الفعل الخلاق لإبداع الحلول، وتحرير طاقات النخب السياسية وخروجها من حالة الارتباك والغموض، وليس فيه أي إضعاف لهيبة الدولة بل هو شد من عضدها باعتبارها اللحمة التي تجمعنا، ولا يمكن أن نهدم سقف البيت الذي نتعايش داخله..

لقد كسبنا مع “كورونا” عنصرا إيجابيا يعتبر الدينامو الأساسي في أي تغيير، يتمثل في استعادة المواطن لعنصر الثقة في مؤسسات الدولة.

لقد منحت الجائحة بعدا غير مسبوق يذكرنا بما حدث بعد الاستقلال وأثناء المسيرة الخضراء؛ ذلك الشعور الجماعي بوجود دولة ترعى حاجيات المغاربة، ومؤسسات لا يؤمن سوى بخطابها وبحقائقها وهي أيضا ترعاه… لكن هناك وجهان لهذه العملة، يجب الحذر من اختزال مؤسسات الدولة في المؤسسات الأمنية والصحية رغم المجهود الجبار الذي قامت به وما زالت، بل يهم كل مكونات النظام السياسي من برلمان ومؤسسات منتخبة وإعلام وأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وهذا ما يجب الالتفات إليه.

من جهة، على الأحزاب أن تعتبر أن الكوارث والأزمات الكبرى هي جزء من مهامها أيضا، تفكيرا وممارسة.. إن الثقة وحدها لا تكفي، بل يجب استثمارها عبر فتح أفق جديد لجيل مغاير من المغاربة.

هناك الكثير من الطاقات والكفاءات المغربية تحتاج إلى الصقل وإلى التجربة، وليفسح لها المجال للإبداع، ووعي النخبة بأهمية فعلها في الساحة من أجل رفع التحديات المطروحة على المغرب اليوم.. فلا بد أن يفرز المجتمع المغربي، بنخبه وطبقته السياسية وصناع القرار، نوعا من المضادات الحيوية ضد أمراض إهدار الفرص الضائعة التي أصبحت كأنها قدر مغربي. اليوم، لم يعد ممكنا أن نضيع فرصة الإقلاع من قلب الأزمة الخانقة، خاصة أن نجاح المغرب حتى اليوم في التعاطي مع الجائحة كان في عموم مظاهره إيجابيا وجلب انتباه المحيط الإقليمي والدولي؛ لكن العبرة بالنهايات أيضا.

إن السياسة الفعالة تُصنع داخل المؤسسات المعنية بها أساسا وليس خارجها؛ وهو ما يفرض قيام المؤسسات المنتخبة بسد الفراغ الذي تركته في زمن الجائحة، والذي ملأته مؤسسات أخرى، فهذا الاختلاط في الأدوار والوظائف لم يعد مقبولا، ولا يساهم في ترسيخ الثقة لدى المواطنين لتعزيز المشاركة السياسية أساس أي ممارسة ديمقراطية حقيقية.

كما يجب على الوسائط السياسية مقاومة تيار الانتهازيات والبراغماتيات غير النبيلة والمصطفين في طابور التزكيات والأعيان الذي أصبحوا حصان طروادة العملية الانتخابية حتى أفقدوها طعمها، والعمل عن قرب في كل حي ومدشر سيكون مفيدا للغاية في إعادة اللحمة بين المجتمع ومختلف الوسائط.

أكبر عناصر الأزمة التي عرتها جائحة “كوفيد 19” هي المواطن المغربي؛ فقد مللنا تكرار أن لا تنمية خارج الإنسان محورها ورافدها، إذ وقفنا على الكثير من جوانب النقص، خصاص وجهل وفقر فظيع، أوقفتنا الجائحة على وجود مغارب عديدة تعيش في ذات الكيان الوطني: هناك مغرب الأثرياء، ومغرب النخب المتوسطة، ثم مغرب الفئات المسحوقة، وبينهم اللامبالون والمهمشون والمقصيون من دائرة الاهتمام في جل السياسات العمومية… لا يمكن أن نرفع تحدي مغرب ما بعد “كورونا” بذات الرأسمال البشري، الذي اكتشفنا مختلف جوانب الاختلالات والنقص الذي تعتريه..

للأزمة المرتبطة بالمواطن المغربي جانبان: هناك الجانب الاقتصادي والاجتماعي، حيث أبانت الجائحة أن التفاوتات المجالية في المجتمع المغربي فادحة، وأنه لم يعد مقبولا أن تتحمل الفئة العريضة من المغاربة لوحدها ضرائب التنمية فيما تستفرد فئة قليلة بمنافع هذه التنمية، هذا هو المعنى الأساسي للإنصاف والعدل، ورفع الحكرة.. فاتساع الفروقات الطبقية في المجتمع أصبح يكتسي طابع العنف المادي والرمزي المتزايد بيننا..

وستزيد الجائحة من تعميق هذه الفروقات إذا استمررنا في السياسات السابقة نفسها. تكفي الإشارة إلى أن ما يقارب مليون مغربي، حسب إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط، فقدوا الشغل أثناء هذه الجائحة ويصعب عودتهم إلى سوق العمل خلال وقت قريب، وهذا سيحد من بعد التضامن الأسروي الذي كان يخفف الكثير من العبء على الدولة ويمتص التصدعات الممكنة في المجتمع المغربي.

في سياق ما أفرزته “كورونا” مع انكفاء الدول وانعزالها، نجح المغرب في إدارة الأزمة الصحية- بدون سند أو دعم خارجي- برغم كل الأعطاب والانتقادات الموجهة إلى نظامنا الصحي في الخروج بأقل الخسائر الممكنة..

وفجأة، تحررت الطاقات وبدأت الاختراعات على بساطتها وقلة مختبرات البحث والتصنيع، فكانت كلفة الحماية والوقاية وإجراء التحاليل والعلاج أقل مقارنة مع دول مجاورة بل حتى في دول متقدمة جدا، وأبرزت الأطر الصحية برغم وضعها الاجتماعي عن حسها الوطني وقدمت تضحيات جسيمة. ومع انطلاق مسلسل التلقيح الذي تم توفيره في ظرف قياسي لم تنجح حتى دول كبرى وأكثر ثراء في توفيره وبالمجان، هو تجسيد ذكي يجب التنويه والافتخار به، فما الذي ينقصنا لاستثمار هذا العنصر الإيجابي في إعادة الاعتبار إلى الصحة وإلى مختلف عامليها، وتحويل العديد من منتجاتنا على طريق الحرير الصحي اليوم اتجاه إفريقيا خاصة.

أبرزت جائحة “كورونا” الحاجة إلى طبقة وسطى متماسكة وغير منهكة اقتصاديا، وفي وضع من يصارع فقط من أجل عدم الانحدار إلى القاع الاجتماعي. لقد تفككت أواصر الطبقة الوسطى التي تعتبر القاطرة الأساسية لأي تحديث أو تطوير للمملكة، وتم إنهاكها وإغراقها في نوع من الإجهاد الاقتصادي، في الوقت الذي قدمت هذه الطبقة نموذجا إيجابيا في مختلف المجالات خلال الجائحة، بسلوكها المدني وبتضحياتها وبحسها التضامني، ومعها يجب تشجيع النماذج الإيجابية للنجاح، لا نماذج الفشل ونماذج الاغتناء السريع بلا جهد ولا استحقاق.. هذا سبيلنا لإعادة الاعتبار إلى بعد القيم في السياسة.

ثم هناك الجانب الثقافي المرتبط أساسا بانهيار التعليم، بما يطرح على جل الفاعلين السياسيين مسألة ذات بعد أخلاقي وحضاري، لا يمكن الاستمرار في الصمت على ما يعرفه التعليم في المغرب.

لقد شهدت المملكة ثورة على مستوى البنيات التحتية العملاقة، وتغير وجه مدن عديدة عما كانت عليه؛ لكن مع ذلك لم ينعكس هذا التغيير على كل الفئات الاجتماعية..

إن الرافعة الأساسية للتنمية والتطور تظل هي الإنسان الذي لم يتم الاستثمار فيه بالشكل الذي يصنع مواطنا مغربيا جديدا.. وهذا يجب أن يؤدي بنا إلى مراجعة سياسياتنا العمومية السابقة ما دام رئيس الدولة نفسه اعترف بفشل النموذج التنموي السابق.

وهنا، نتساءل عن غياب تقييم السياسات العمومية، وهو أحد أعطابنا الأساسية. لقد أنجزنا تقرير الخمسينية، الذي كان خطوة جبارة ساهمت فيها نخب نيرة من المغرب، لكن أين نحن من هذا التقييم؟ إن البعد النقدي الذي اتسم به تقرير الخمسينية كان يمكن أن يفتح أمامنا طريقا سالكا نحو “مغرب آخر ممكن”…

hespress.com