تفاعلا مع إقرار مجلس وزراء خارجية الدول الإسلامية “وثيقة مكة المكرمة”، ودعوة المؤسسات الوطنية والإقليمية في العالم الإسلامي إلى نشر محتوياتها، عمل المحجوب بنسعيد، الباحث في علوم الاتصال والحوار الثقافي، على إبراز جوانب مهمة من مضمون هذه الوثيقة وتوجهاتها الرئيسة، محاولا توضيح دور الوثيقة في التعريف بالمنظور الإسلامي للحوار والتسامح، وأهميتها في تربية النشء في العالم الإسلامي على قيم الحوار والتسامح والعيش المشترك.
وتناول الباحث، في مقال له بعنوان “الأبعاد الحضارية والعالمية لوثيقة مكة المكرمة”، القيمة المضافة لتلك الوثيقة، وأهميتها ضمن المبادرات الداعية إلى سن التشريعات الرادعة لمروجي الكراهية، والمحرضين على العنف والإرهاب والصدام الحضاري على مستوى العالم الإسلامي والدولي، والتصدي لانتهاك حقوق الإنسان في مفهومها الشامل، ومكافحة الإرهاب والتصدي للأفكار المتطرفة وللغلو والعنف، ومعالجة الانهيار القيمي والأزمات الأخلاقية والاجتماعية والبيئية التي تعاني منها البشرية نتيجة سلبيات العولمة.
وأكد بنسعيد أن “وثيقة مكة المكرمة” تستحق أن تحظى باهتمام المؤسسات الوطنية والإقليمية في العالم الإسلامي، وتعمل على نشر محتوياتها وتنفيذ بنودها، لأنها وثيقة دستورية تحتذى في إرساء قيم التعايش وتحقيق السلم بين مكونات المجتمع الإنساني، وتعلن بداية عهد جديد في التعاون الدولي والإنساني لنشر قيم السلام والأمن والعيش المشترك من منظور إسلامي.
وهذا نص المقال:
في دورته السابعة والأربعين، التي انعقدت بنيامي، عاصمة جمهورية النيجر، يومي 27 و28 نوفمبر 2020، أقر مجلس وزراء خارجية الدول الإسلامية “وثيقة مكة المكرمة”، وأبرز أهمية المبادئ والقيم الواردة فيها، ودعا المؤسسات الوطنية والإقليمية في العالم الإسلامي إلى نشر محتوياتها، باعتبارها تؤكد على أهمية مبادئ التسامح والتفاهم المتبادل بين الشعوب من مختلف الثقافات والأديان. كما رحب المجلس بالدعم الواسع الذي حظيت به “وثيقة مكة المكرمة” في جميع أنحاء العالم بين قادة الأديان المختلفة للرسائل النبيلة التي حملتها في تشجيع التسامح والاعتدال والتفاهم والتعاون المتبادل بين الشعوب والدول.
فما هو مضمون هذه الوثيقة وتوجهاتها الرئيسة؟ وما دورها في التعريف بالمنظور الإسلامي للحوار والتسامح، وأهميتها في تربية النشء في العالم الإسلامي على قيم الحوار والتسامح والعيش المشترك؟
تعد “وثيقة مكة المكرمة” وثيقة علمية رفيعة المستوى صادرة عن أهل الاختصاص والحكماء في مجالات معرفية مختلفة من العالم الإسلامي، وليست توصيات عادية أو انطباعات ظرفية أو تأويلات لجماعات ضالة إقصائية ومتطرفة. كما أنها تمثل صوت الحكمة في العالم الإسلامي، الذي ينبغي أن يستمع إليه الغرب ومن يتهمون الإسلام والمسلمين بما ليس فيهم. وتكتسب هذه الوثيقة مصداقيتها الشرعية والعلمية والفكرية من كونها اعتمدت من طرف 1200عالم ومفكر من مختلف المذاهب والطوائف، شاركوا في المؤتمر الإسلامي، الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة خلال الفترة الممتدة من 27 إلى 29 مايو 2019 حـول “قيم الوسطية والاعتدال في نصوص القرآن والسنة”.
وتمثل الوثيقة قيمة مضافة متميزة عما سبقها من الإعلانات والبيانات ذات الصلة بالموضوع، حيث كانت وثيقة عملية وميدانية ومتفائلة، وليست نائحة وبكائية، واحترمت الآخر، ودافعت عن وجهة نظر إسلامية متبصرة ومتفاعلة مع الأحداث الراهنة، ومع القرارات والإعلانات الدولية ذات الصلة بقضايا الحوار والتعايش بين أتباع الأديان واحترام التنوع الثقافي والديني وحقوق الإنسان. وتضمنت “وثيقة مكة المكرمة” مجموعة من الإجراءات الحضارية، التي تقدم للعالم رؤية إسلامية جديدة، قائمة على الانفتاح على متغيرات العصر، والمساهمة في معالجة القضايا الإنسانية التي تستقطب اهتمامات الأسرة الدولية، والانخراط في صلب الحركة الإنسانية الواعية، التي ترمي إلى تعزيز قيم الحوار والتفاهم والتعايش والوئام والاحترام المتبادل، التي جاء بها الدين الإسلامي، وبشرت بها الديانات السماوية كافة. وتعلن المبادرات التي نصت عليها “وثيقة مكة المكرمة” عن عهد جديد في التعاون الدولي والإنساني لنشر قيم السلام والأمن والعيش المشترك من منظور إسلامي متشبث بثوابته الشرعية، ومنفتح على القيم الإنسانية المشتركة ومبادئ الشرعة الدولية.
كما تؤسس “وثيقة مكة المكرمة” لمرحلة جديدة من العلاقات بين المسلمين وبقية شعوب العالم، تستند إلى رؤية استراتيجية تعتبر الحوار الحضاري أفضل السبل للتفاهم السوي مع الآخر، وتجاوز معوقات التعايش. كما تسعى هذه الرؤية إلى إقناع الأجيال الصاعدة بأن الصراع والصدام يؤدي إلى نشر وترسيخ الكراهية، واستنبات العداء بين الأمم والشعوب، ويحول دون تحقيق مطلب العيش المشترك في أمن وسلام.
لقد كانت “وثيقة مكة المكرمة” شاملة لمجالات متعددة ومتكاملة تمحورت حول سعادة الإنسان واحترام كرامته وحقوقه، حيث دعت إلى سن التشريعات الرادعة لمروجي الكراهية، والمحرضين على العنف والإرهاب والصدام الحضاري على مستوى العالم الإسلامي والدولي، والتصدي لانتهاك حقوق الإنسان في مفهومها الشامل، ومكافحة الإرهاب والتصدي للأفكار المتطرفة وللغلو والعنف، ومعالجة الانهيار القيمي والأزمات الأخلاقية والاجتماعية والبيئية التي تعاني منها البشرية نتيجة سلبيات العولمة، وتعزيز تفاعل العالم الإسلامي مع المجتمع الدولي، من خلال التواصل وبناء جسور المحبة والوئام الإنساني والتصدي للتخويف من الإسلام والصور النمطية المتبادلة والكراهية والتمييز العنصري. كما اعتنت الوثيقة بتكوين الأئمة والدعاة داخل العالم الإسلامي وخارجه للتحدث باسم الإسلام الوسطي المعتدل، والمساهمة في نشر قيم العدل والسلم والعيش المشترك بين أتباع الأديان، وتعزيز التنوع الديني والثقافي في المجتمعات الإنسانية، من خلال إقامة شراكة حضارية إيجابية قوامها الحوار والتفاهم والتعاون والعدل والاحترام المتبادل لخدمة الإنسان وإسعاده.
وأكدت الوثيقة على ضرورة احترام المواطنة الشاملة، والولاء الصادق للوطن، والمحافظة على الأمن، والسلم الاجتماعي، ورعاية حمى المحرمات والمقدسات، والتمكين المشروع للمرأة، والحد من تهميشها وامتهان كرامتها، وتفعيل أدوارها التنموية في العالم الإسلامي، والعناية الصحية والتربوية والتعليمية بالأطفال، وتعزيز هوية الشباب المسلم.
لقد جاءت “وثيقة مكة المكرمة” لتعزز المبادرات الإسلامية لمعالجة ظاهرة الخوف من الإسلام، حيث أعطتها دفعة قوية، وحددت لها آفاقا جديدة، ورسمت خارطة طريق لمقاربة جديدة تتسم بالانتقال من مرحلة التصدي لخطاب الكراهية والتخويف من الإسلام والإساءة إلى الدين الإسلامي ومقدساته من موقع دفاعي إلى تبني استراتيجية شاملة ومندمجة تقطع مع سياسة ردود الأفعال الآنية، وتستند إلى رؤية موضوعية لدور التعريف بالثقافة والحضارة الإسلامية، وتعزيز علاقات الشراكة والتعاون مع المؤسسات الإعلامية والجمعيات المهنية للإعلاميين خارج العالم الإسلامي، والمساهمة في حماية الحقوق المدنية والثقافية للجاليات المسلمة في العالم، ومؤازرتها من خلال تعزيز التشاور والتنسيق مع جمعيات المجتمع المدني الدولية المهتمة بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات، ونبذ التمييز العنصري والكراهية والإساءة للأديان.
لذلك دعا مجلس وزراء خارجية الدول الإسلامية المؤسسات الوطنية والإقليمية في العالم الإسلامي إلى نشر محتويات “وثيقة مكة المكرمة” قصد تنفيذ بنودها، والاستفادة من توجهاتها في المجالات التربوية والثقافية والدينية والحقوقية والاجتماعية والإنسانية. ولعل من بين المؤسسات الوطنية المعنية بهذه المهمة وزارات التربية والثقافة والشباب والشؤون الدينية والمؤسسات التشريعية كالبرلمانات ومجالس الأمة والمجالس الوطنية لحقوق الإنسان. وعلى المستوى الإقليمي يلزم أن تسهم في نشر محتويات “وثيقة مكة المكرمة” كل من منظمة التعاون الإسلامي، ومنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، ومكتب التربية العربي لدول الخليج.
إن نشر محتويات “وثيقة مكة المكرمة” وتنفيذ بنودها عبر أنشطة مستدامة يكتسي أهمية بالغة وطابعا استعجاليا بالنظر إلى مجموعة من المتغيرات والأحداث والمستجدات التي يشهدها العالم الإسلامي والمجتمع الدولي. فحكومات الدول الإسلامية قاطبة أصبحت تستشعر خطر تغلغل الجماعات المتطرفة في الأوساط الاجتماعية، وتواجه بين الفينة والأخرى الأعمال الإرهابية لهذه الجماعات، من خلال العمل على ترسيخ قيم الحوار والوسطية والاعتدال في إطار تنفيذ استراتيجيات وطنية تربوية وثقافية وإعلامية واقتصادية وأمنية واستخباراتية لاستئصال جذور الإرهاب وحماية الشباب من الغلو والتطرف، وحثه على التشبع بقيم المواطنة الصالحة والمساهمة في التنمية المجتمعية.
وتأسيسا على ذلك، تعد “وثيقة مكة المكرمة” خارطة طريق إسلامية جديدة للمؤسسات الحكومية وغير الحكومية في الدول الإسلامية المعنية بقضايا التربية على الحوار والتنوع الثقافي والتعايش بين أتباع الأديان، التي تجد في الوثيقة مبادرات عملية مرتكزة على ثوابت الأمة، ومنفتحة على المبادئ والقيم الإنسانية المشتركة.
في المجال التربوي يجمع الخبراء على أنه يتعين على دول العالم الإسلامي تفعيل دور التعليم الديني في تعزيز قيم السلام والتعايش والمواطنة لدى المتعلمين، وفي تربيتهم منذ نعومة أظفارهم على قبول الاختلاف واحترام الرأي الآخر. ويقتضي ذلك التركيز على التطوير التربوي لمهارات التلاميذ وقدراتهم على الاتصال والاستفسار والاستدلال، وعلى النقاش المفتوح والحوار الذي يغني الأفكار، وعلى اتخاذ المواقف الإيجابية إزاء قضايا الاحترام والتنوّع والتسامح بين الشعوب، الأمر الذي من شأنه تهيئة أجيال المستقبل في العالم الإسلامي للإسهام بفعالية في توطيد ركائز السلم الاجتماعي، وتحقيق الوئام بين جميع الطوائف والأعراق في أوطانهم وخارجها، وسيلتهم إلى ذلك فهمُهم الصحيحُ للإسلام، وتديّـنُهم الوسطيّ المعتدل المبني على عقيدة سليمة.
وعلى الصعيد الدولي، صدرت “وثيقة مكة المكرمة” في وقت مناسب جدا يشهد تصاعدا متناميا لدعوات من داخل الأمم المتحدة، وفي الجمعية العامة، وفي مجلس حقوق الإنسان، من أجل وضع قانون دولي ملزم لردع ومنع انتشار خطاب الكراهية والإساءة للأديان، والحد من التطرف العنيف.
كما أن “وثيقة مكة المكرمة” جاءت معززة وداعمة للاهتمام الدولي بالقضايا الدينية، الذي ظهر خلال السنين الأخيرة داخل الأمم المتحدة، وخاصة داخل جهازين مهمين، هما الجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان، وازدياد الوعي بأهمية مكانة الدين في القانون الدولي لحقوق الإنسان، ومكانته في أجهزة الأمم المتحدة المهتمة بالموضوع. لقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 11 أبريل 2011 على القرار رقم 65/224، الذي يمنع الإساءة للأديان ويحث على الحد من خطاب الكراهية. لكن لم يتم بعد تفعيل هذا القرار، وذلك ما اقترحته “وثيقة مكة المكرمة”، ووضعت أرضيته المناسبة عندما دعت إلى سن التشريعات الرادعة لمروجي الكراهية، والمحرضين على العنف والإرهاب والصدام الحضاري على مستوى العالم الإسلامي والدولي. فالصراع والصدام، حسب “وثيقة مكة المكرمة”، يعمل على تجذير الكراهية واستنبات العداء بين الأمم والشعوب، ويحول دون تحقيق مطلب العيش المشترك، والاندماج الوطني الإيجابي، خاصة في دول التنوع الديني والإثني، كما أنه في عداد المواد الأولية لصناعة العنف والإرهاب.
وشددت “وثيقة مكة المكرمة” على أن الحرية الشخصية لا تسوّغ الاعتداء على القيم الإنسانية ولا تدمير المنظومات الاجتماعية، وأكدت أن هناك فرقا بين الحرية والفوضى، وأن كل حرية يجب أن تقف عند حد القيم وحريات الآخرين، وعند حدود الدستور والنظام، وتراعي الوجدان العام وسكينته المجتمعية.
ومما يبرهن على صواب رؤية الوثيقة حول موضوع الحريات أن الحديث عن حرية التعبير يصبح أكثر تعقيدا وتناقضا حين يتم استحضار الصور النمطية عن الإسلام والمسلمين، والإساءة إلى الأديان بشكل عام في وسائل الإعلام وعلاقتها باحترام حقوق الإنسان.
ولعل نشر الرسوم الكاريكاتورية عن الرسول الكريم في عدد من الصحف الأوروبية من أبرز النماذج التي تجسد خرقا سافرا للقانون الدولي في مجال الإعلام ولمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وللاتفاقيات والقرارات المتفرعة عنه. لقد أكد كثير من فقهاء القانون أن هذه الرسوم تعد تحريضا صريحا على كراهية الإسلام والمسلمين، ولا تتوافق البتة مع مبدإ حرية التعبير، بل تندرج ضمن الأفعال المجرمة في قانون العقوبات. غير أن بعض الأوساط السياسية والإعلامية الغربية أيدت قيام بعض وسائل الإعلام الأوروبية بنشر هذه الرسوم، استناداً إلى مبدإ حرية الرأي والتعبير، رغم أنها مغالطة واهية لا أساس لها انطلاقاً من القواعد القانونية الدولية.
وخلاصة القول فإن “وثيقة مكة المكرمة” تستحق أن تحظى باهتمام المؤسسات الوطنية والإقليمية في العالم الإسلامي، وتعمل على نشر محتوياتها وتنفيذ بنودها، لأنها وثيقة دستورية تحتذى في إرساء قيم التعايش وتحقيق السلم بين مكونات المجتمع الإنساني، وتعلن بداية عهد جديد في التعاون الدولي والإنساني لنشر قيم السلام والأمن والعيش المشترك من منظور إسلامي متشبث بثوابته الشرعية، ومنفتح على القيم الإنسانية المشتركة ومبادئ الشرعية الدولية، المتمثلة في الإعلانات والقوانين والاتفاقيات الصادرة عن الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة. كما أن صدورها في الظروف الدولية الحالية، المتسمة بتنامي خطاب الكراهية والتطرف والتعصب، يؤكد للعالم أن المسلمين لا تمثلهم جماعات محدودة من المتطرفين في أقوالهم وأفعالهم، بل هم جزء من هذا العالم يسعون إلى التواصل مع المجتمع الدولي لتحقيق صالح البشرية، وبناء جسور المحبة والوئام الإنساني، والتصدي لممارسات الظلم والصدام الحضاري.