علّق عمر بوصبيعات، أخصائي نفسي عصبي وباحث في سلك الدكتوراه تخصص علم النفس، على المندوبية السامية للتخطيط التي نشرت بحثا حول تأثير فيروس كورونا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للأسر، موردا: “معطيات هذا البحث جعلتني أسجل مجموعة من الملاحظات بخصوص طبيعة التداعيات النفسية للحجر الصحي على الأسر”.

تبعا لذلك، أشار الباحث، في مقالة بعنوان: “هل فعلا يعاني المغاربة من اضطرابات نفسية جراء الحجر الصحي”، إلى أنه “لم يتم ذكر أسماء الباحثين الذين أنجزوا هذا البحث حتى يتسنى للقارئ المتخصص التحري عن الصفة السيكولوجية التي أدارت الجانب السيكولوجي منه”

واستطرد: “وإذا افترضنا جدلا أن فريق البحث ضم باحثين بخلفية سيكولوجية، فإننا نتساءل: كيف يمكن الجزم أن 49.4 في المائة من عينة البحث تعاني من القلق؟ مع العلم أن أغلب اضطرابات القلق تحتاج إلى ديمومة الأعراض لمدة طويلة كمعيار للتشخيص، فالرهاب النوعي واضطراب القلق المعمم واضطراب قلق الانفصال كلها اضطرابات تحتاج إلى ديمومة الأعراض لمدة 6 أشهر أو أكثر عند البالغين”.

وأكد المتحدث أن ذلك “لم يتحقق في هذا البحث، على اعتبار أن الحجر الصحي دام فقط 35 يوما عند نهاية البحث، وبالتالي فإن ربط القلق بالحجر الصحي وبأرقام ثابتة يعتبر تعسفا غير مبرر”، مبرزا أنه “بالنسبة لرهاب الأماكن المغلقة فهناك احتمالان في ما يتعلق بالأسر التي عبرت عن أنها تعاني منه؛ إما أن الأسر عبرت عن ذلك الإحساس، ومن ثمة كيف لها أن تسميه رهابا؟ وعلى أي أساس؟ وهل يحق للباحثين هنا تبني هذا الوصف دون قيد أو شرط؟ أم هو استنتاج استنتجه باحثو المندوبية؟”.

وزاد: “هنا نسألهم في ذلك، خصوصا إذا علمنا أن تشخيص اضطراب رهاب الأماكن المغلقة Claustrophobia، الذي يدخل في محور اضطرابات القلق، تحديداً ضمن الرهاب النوعي Specific Phobia، يحتاج إلى استمرارية الأعراض لمدة تتجاوز 6 أشهر كما أشرنا سابقا (DSM-V، 2013)، وهو ما لم يتحقق في هذا البحث”.

وبخصوص اضطرابات النوم، لفتت المقالة إلى أنها “إما تحتاج إلى تشخيص سريري يصل أحيانا إلى القيام بفحوصات عصبية، حينما يتعلق الأمر مثلا باضطرابات النوم ذات الصلة بالتنفس واضطرابات النوم المرتبطة بحركة العين أو حركة الساقين أو تلك المرتبطة بالكوابيس؛ وإما تحتاج إلى تشخيص سريري مع إلزامية التحقق من استمرارية الأعراض لمدة 3 أشهر على الأقل، كالحديث عن اضطراب الأرق واضطراب فرط النعاس والنوم الانتيابي”.

لكن تلك الشروط لم تتحقق في هذا البحث، وفق الأخصائي النفسي العصبي، مردفا: “في حين أن اضطراب وتيرة النوم السركادي هو الوحيد الذي يمكن رصده عن بعد، وذلك على اعتبار أن هذا الاضطراب راجع بالأساس إلى تغير في النظام اليومي للفرد، والذي يؤدي إلى اختلال جدول نومه وعدم تلاؤمه مع البيئة الفيزيائية للفرد (DSM-V، 2013)..إذن على أي أساس وبأية أداة وجد هذا البحث أن 25٪ من عينة البحث تعاني اضطرابات النوم؟”.

واسترسل الباحث: “هذا دون الحديث عن كيفية الفصل بين القلق والخوف والاكتئاب ورهاب الأماكن المغلقة والرهابات الأخرى؛ بمعنى آخر ما المعايير والمحددات التمييزية التي تم اعتمادها لتحديد لكل اضطراب على حدة؟ هل هي معايير المراجعة الحادية عشرة للتصنيف الدولي للأمراض (CIM-11) أم هي معايير الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للاضطرابات الذهنية (DSM-V)؟ أم هي تقديرات المبحوثين أم اجتهادات الباحثين فقط؟”..لذلك، فإن القول إن “فردا يعاني من اضطراب معين ليس بالأمر السهل ولا البسيط، فهو حكم لا يمكن إصداره عبر طرح أسئلة عبر الهاتف وفي مدة عشرة أيام، فتأكيد التشخيص من عدمه يحتاج إلى تقييم معايير التشخيص عن طريق جلسات إكلينيكية معززة باختبارات ومقابلات نفسية؛ وبما أن متن هذا البحث المنشور لا يتضمن منهجية إجرائه، فإن سؤال علمية النتائج يعتبر مشروعا بهذا الخصوص”، بتعبيره.

وسجل صاحب المقال أيضا أن البحث أورد عبارة ‘كـما تعـاني 8% مـن الأسر مـن اضطرابـات نفسـية أخـرى مثـل فـرط الحساسـية والتوتــر العصبــي أو الملــل’ (HCP، 2020، ص. 27) ، لكنه يطرح سؤالا مفاده: “هل يعتبر “فرط الحساسية Hypersensitivity” اضطرابًا نفسيا؟”، ثم أبرز أنه “للإجابة على هذا السؤال عدنا إلى الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للاضطرابات الذهنية، فوجدنا أن الحساسية المفرطة ذكرت 10 مرات: مرة كحالة تُميز الأفراد الذين يعانون من اضطراب معرفي عصبي رئيسي أو خفيف ناتج عن إصابة الدماغ؛ كما وردت 9 مرات بمحور اضطرابات الشخصية باعتبارها ميزة توصيفية للعديد من اضطرابات الشخصية؛ ومن ثمة لم ترد كاضطراب نفسي، بل هي رد فعل مفرط نتيجة تقييم معرفي سلبي تجاه أحداث قد تكون طبيعية؛ إذن لا يمكن الحديث عن اضطراب الحساسية المفرطة”.

وتساءل: “هل يعتبر “التوتر العصبي” اضطرابا كما جاء في البحث؟ فعدنا مرة أخرى للدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للاضطرابات الذهنية، لنجد أن كلمة “العصبية” ذكرت 7 مرات كعرض لاضطراب معين، و3 مرات ضمن المعاجم الإضافية للمفاهيم التقنية والثقافية الملحقة بهذا الدليل؛ وعليه فلا وجود لاضطراب اسمه ‘التوتر العصبي'”.

وأكدت الورقة أن “الوقوف على حقيقة الأرقام التي جاء بها هذا البحث ومدى صدقيتها وخضوعها لأبسط الشروط المنهجية لا يعني بتاتا نفي إمكانية وجود اضطرابات نفسية ناجمة عن الحجر الصحي لدى الأسر المغربية، لكن استنتاج ذلك يتطلب بحثا يخضع للشروط العلمية والمنهجية للدراسة ومن ذوي الاختصاص”، لافتة إلى أنه “بعد كل هذه الاختلالات العلمية التي شابت هذا البحث، يحق لنا أن نتساءل عن سبب هذا الاستسهال الذي تبنته المندوبية السامية للتخطيط في تعاملها مع دراسة الأثر النفسي للحجر الصحي على المواطنين المغاربة؟”.

وشدد الباحث على أنه “ليس شحا في الإمكانيات المادية، فهي متوفرة، ولا نقصا في الموارد البشرية المتخصصة في هذا المجال، فهي موجودة ويمكن الاستعانة بها، بقدر ما يمكن أن يكون هذا الاستسهال ناتجا عن ثقافة عامة تستخف بالاضطراب النفسي عامة، وهي ثقافة يتشارك فيها الأفراد مع بعض المؤسسات؛ فإذا كنا قد نتجاوز استسهال أفراد متفرقين يسعون إلى الكسب المادي أو غيره، أو يفتقدون للمعرفة العلمية، فإننا لن نتجاوز عن مؤسسات رسمية تعتبر مرجعا وطنيا في الأرقام والإحصائيات دون أن نعقب على الموضوع بشيء من التصويب”.

ومضى قائلا: “إن هذا التصويب يستمد مشروعيته من خطورة استثمار أرقام واستنتاجات هذا البحث في ما بعد، فتبنيها هو تضليل للرأي العام عن واقع قد يكون غير موجود، كما أن إمكانية تنزيل مخططات تدخلية بناء على نتائج هذا البحث سيكون بمثابة مضيعة للجهد والوقت والمال، وهي الأمور التي لا نتوفر عليها في هذه المرحلة”.

“كما أن حرصنا على عدم الترويج لثقافة الاستهتار بموضوع الصحة النفسية بحثا وممارسة دون التحلي بالحذر الإبستيمولوجي اللازم هو دافع كبير لهذا التصويب، سواء كان هذا الاستهتار من الأفراد أو من المؤسسات؛ فالصحة النفسية بالمغرب تحتاج إلى وقفة ضبط مؤسساتي تقطع مع كل هذه الممارسات، فردية كانت أو جماعية، وهو ما لن يتحقق دون ترسانة قانونية تؤطر العمل السيكولوجي بالمغرب”، يختم بوصبيعات مقالته.

hespress.com