الأحد 13 شتنبر 2020 – 00:28
دعا محمد الخضراوي، قاض بمحكمة النقض، إلى سن قانون الإخصاء الكيميائي لمعاقبة المجرمين مغتصبي الأطفال، مبرزا أهمية وجود نص قانوني يخول للقضاة معاقبة أصحاب الرغبات المريضة “التي يتبرأ من وصفها حتى الحيوانات”.
واستدل الخضراوي، في مقال خص به هسبريس، بدول توصف بالديمقراطية والمتحضرة تلجأ محاكمها إلى تشريع عقوبة الإخصاء الكيميائي عن طريق إعطاء المحكوم عليه في جرائم اغتصاب الأطفال حقنا تقضي على رغباته الجنسية مدة زمنية معينة.
وفيما يلي نص المقال:
تساؤلات بريئة حول قانون الإخصاء
لا شك أن قضايا اغتصاب الأطفال أثارت تداعيات اجتماعية وحقوقية وقانونية غير مسبوقة وفتحت العديد من النقاشات في كل الأوساط، وأفرزت الكثير من الآراء المختلفة في مرجعياتها وتصوراتها، لكنها في الآن نفسه أكدت لنا الصحة النفسية والأمن الروحي لهذا الوطن الذي نفتخر بالانتماء إليه والذي يعيش فينا أكثر مما نعيش فيه، حيث وقع التحام تلقائي فطري وإدانة ورفض جماعي لكل حالات الدنس والاستباحة لبراءة أطفالنا.
رجعت إلى بعض الحفريات القديمة وإلى ليالي التاريخ الأولى لأجد أن مصر القديمة، كما جاء في كتاب “تاريخ التعذيب” لبيرنهاردت هروود: “كانت تعاقب كل من يغتصب امرأة حرة ببتر أعضائه الجنسية، بحيث لا يبقى في مقدوره أن يرتكب جريمة مشابهة ويدب الرعب في قلوب الآخرين من هذه العقوبة المخيفة”.
قلت لنفسي سأتهم بالمغالاة وبالعقلية القروسطية التي لا تتلاءم مع مجتمعنا المعاصر، وفي أحسن الأحوال سيعتبر الأمر مجرد ردة فعل غاضبة وليس رأي عقل وتبصر ونظر في المآل والمقاصد.
فبدأت أقلب دفاتري وأفتش في صفحات الأنترنيت عما يهدئ من ردة فعلي العاطفية المتجذرة في التشنج البعيدة عن التحضر والفكر الحقوقي، لأكتشف الوقائع المتعقلة المعاصرة التالية:
وجدت أن هناك فعلا قانونا ينظم عقوبة الإخصاء الكيميائي عن طريق إعطاء المحكوم عليه في جرائم اغتصاب الأطفال، بشروط معينة، حقنا تعمل على منع هرمون التستترون، وتقضي على رغباته الجنسية مدة زمنية معينة، مع تفاصيل طبية أخرى كثيرة.
قانون تبنته دول توصف عادة بالعراقة في التحضر البعيدة عن ثقافة مدن الملح، كما في وصف الأديب الراحل عبد الرحمان منيف، ككندا وألمانيا والدانمارك والنرويج وبلجيكا والتشيك وبولندا، وحتى بعض الولايات الأمريكية كولاية كاليفورنيا وفلوريدا وجورجيا وتكساس ولويزيانا ومونتانا.
كما وجدت أن مجلس الدوما بروسيا صادق على مشروع قانون يقضي بتشديد العقوبات الخاصة بجرائم الاعتداء الجنسي لتصل إلى السجن مدى الحياة والإخصاء الكيميائي.
وهنا تنفست الصعداء، فلن تقوم هذه الدول على الأقل لتعطينا دروسا في القيم الكونية وفي حقوق المتهم الطبيعية إذا ما فكرنا في مماثلة تشريعاتنا بتشريعاتها والغيرة على أعراض أبنائنا كما غاروا على أبنائهم.
قد يسارع البعض إلى القول إن السياقات تختلف، وإنه لا يمكن مقارنة وضعنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بوضع هذه الدول… لكنه في نظري الألم نفسه وزنزانة العذاب ذاته التي سيعيش فيها الطفل الضحية، سواء كان مغربيا أو مقيما في صحراء كالآهاري بزيمبابوي أو في أصقاع القطب الشمالي المتجمد أو في غابات الأمازون أو في ناطحات تايمز سكوير بنيويورك أو في إحدى حارات بومباي، هو نفسه ذلك الإحساس بالعجز وافتقاد الأمان والرغبة في الانتقام… إنها مبررات تصطدم بكونية الكرامة وعولمة الأنسنة ووحدة حقوق “المجني عليه”.
لقد سألت نفسي كثيرا، هل دولة مثل كوريا الجنوبية بتقاليدها وحضارتها المتجذرة في التاريخ ومستقبلها الاقتصادي القوي أقل منا تمدنا وأكثر منا همجية عندما نفذ قضاؤها قبل سنوات على المسمى “بيو” حكما بالإخصاء الكيميائي لمدة ثلاث سنوات وبالسجن أيضا لمدة 15 سنة سجنا إضافة إلى إجباره على ارتداء سوار إلكتروني يسمح بتعقب أثره في كل لحظة على مدى عشرين عاما بعد نفاد سنوات سجنه؟
هل البرلمان التركي استهان بالتحديات الموضوعة أمامه أوروبيا وعالميا وبكل الانتقادات الموجهة إليه وهو يناقش ما أصبح يطلق عليه إعلاميا بقانون الإخصاء من قبيل عدم المساواة في العقاب بين الرجل والمرأة؟
أم إن هؤلاء المجرمين هم مرضى في حاجة إلى العلاج وليس العقاب؟
لماذا دولة كقيرغيستان، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا، صادق برلمانها قبل سنوات على إجراء عملية إخصاء كيميائي لكل من يعتدي جنسيا على الأطفال، وذلك رغم أن أطباءها حذروا من أن المنظومة الصحية المتهالكة داخل البلاد التي تعاني من الفقر ليست مهيأة لمثل هذه العلاجات المتخصصة؟
ثم سألت نفسي هل كانت محامية الطفل الفرنسي Ennis، الضحية ذي الثماني سنوات، متجاوزة أو تبحث عن الدعاية الرخيصة لنفسها عندما طلبت من القضاء الفرنسي إخضاع المجرم Evrard، الذي سبقت إدانته مرات متعددة من أجل اعتداءات جنسية على الأطفال، للإخصاء الكيميائي وراسلت من أجل ذلك أيضا الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي؟
أسئلة كثيرة وأمثلة أكثر تتزاحم في ذهني لكي أجد ما أبرر به لنفسي وحتى لا أتوقف على هذه المغالاة، وأنّى لي ذلك فقد ناقشت ما راودتني به نفسي مجموعة من المؤسسات التشريعية والمنابر الإعلامية وعدد من المتخصصين من أطباء وعلماء نفس وقانونيين وحقوقيين، وانتصر في الأخير قانون الإخصاء الكيميائي وفلسفة الردع وضمانات عدم التكرار.
لن أزج بنفسي في حديث تقني له أهله حول شروط التطبيق ونطاقه، لكن كل ما وسوست به نفسي هو المطالبة بوقفة للتأمل والتفكير في نظامنا العقابي وفي سياستنا الجنائية المستقبلية تكريسا لمجتمع المواطنة والكرامة وحماية لحقوق الأجيال القادمة، وحتى أتحرر من أسر الخوف على براءة وطهارة عدنان وزينب وتليتماس وعبد السلام وأطفال آخرين من أبناء هذا الوطن.