أكد خبراء في الطب والأسرة والسلوك، أن ظاهرة “المخدر الرقمي” التي يتعرض لها الأطفال والمراهقون عبر الشبكة العنكبوتية، ومنصات السوشيال ميديا المختلفة، عبر ملفات صوتية وموسيقية ملغمة بمحتوى خطير يؤثر على الدماغ، ويسيطر على الحواس، ويؤدي إلى اختلال التركيز وتشويش الذهن مما يترتب عليها مشكلات اجتماعية تلقي بظلالها على مستوى تعامله مع محيطه الأسري وقصوره في التحصيل الدراسي، فضلاً عن اضطرابات جسمانية تؤثر على صحته العصبية وسلامته النفسية.
ولفت الخبراء في إفاداتهم لـ”العربية.نت” إلى أن “المخدر الرقمي” آفة خطيرة تتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى الأسرة ومن بعدها المدرسة، وينبغي على الجهات المعنية والإعلام التوعية بخطرها وتأثيرها بكونها فخا جديدا للإدمان من بوابة المحتوى الرقمي.
تخدير العقل بالموجات
وبحسب المعلومات المتوافرة، فإن “المخدرات الرقمية” عبارة موجات متناغمة بطبقات مختلفة تؤثر على الخلايا العصبية نفس تأثير المخدرات المعروفة بل أشد فكتاً ويصفها البعض بأنها موسيقى تشبه “حبوب الهلوسة”، مخدرة للعقل، يتم سماعها عبر سماعات “استريو” بكل من الأذنين، فتبث ترددات معينة في الأذن اليمنى مثلاً وترددات أقل إلى الأذن اليسرى، وتكون قوة الصوت أقل من 1000 إلى 1500 هيرتز كي تسمع منها الدقات، أما الجانب المخدر من هذه النغمات فيكون عبر تزويد طرفي السماعة بدرجتين مختلفتين من الترددات الصوتية، ويكون الفارق ضئيلاً يقدر من 30 هيرتز.
تعبيرية
مؤشر الإدمان على “يوتيوب”
فيديوهات “موسيقى الهلوسة” تحظى على “يوتيوب” بمشاهدات عالية، فهذا مقطع يحقق 145 ألف مشاهدة، ومقطع آخر بعنوان مخدرات رقمية عالية الجودة بـ80 ألف مشاهدة مع تعليقات لمدمنين من جنسيات عربية.
أرقام مخيفة تحمل مؤشرا على أن انجراف الشباب والمراهقين لهذا الصنف الموسيقي الرائج الذي يؤثر نفسياً على سلوك الأفراد وصحة المجتمعات.
نرصد منها مثلا من قال: “حسيت راسي وصدري بينفجر”، فيما علق آخر بالقول: “استمعت لهذه الأغنية.. نمت على الأغنية.. وشاهدت حلما وكأنني كلمت الجن”، وثالث يقول: “حماسية كثيرة أدخلتني إلى البعد الخامس” ورابع يروج لها بالقول: “ضيفوني على انستغرام ورح تشوفو مخدرات على أصولها”!
برمجة سلوك الطفل
عبر هذا التحقيق الاستقصائي، تفتح “العربية.نت” ملف موسيقى الهلوسة أو “المخدرات الرقمية” وتناقش الأضرار والحلول، مع خبراء ومختصين.
فرات قدوري، أستاذ موسيقى، ومدير مركز فرات قدوري للموسيقى بإمارة الشارقة بالإمارات، يؤكد أن التربية الموسيقية لها دور مؤثر في تأسيس وتحصين وجدان الطفل منذ مرحلة النشء، وتبدأ من البيت من خلال إحاطة الطفل بآلة موسيقية معينة وتغذية وعيه بمقطوعات موسيقية ملهمة قادرة على صياغة ذائقته، فضلا عن كونها تساهم في ترقية سلوكه وتهذيب مزاجه النفسي وتمنحه قدرات ذاتية وتجارب وجدانية يتكئ عليها في جميع مراحله العمرية.
ولفت قدوري إلى أن خطورة المحتوى الموسيقي الرقمي الذي تتم برمجته للتأثير على ذهنية الطفل وانحراف سلوكه، وقال إن المسؤولية يتحملها الآباء حيث يفترض بهم تنشئة طفلهم منذ الصف الأول، على الموسيقى الإيجابية التي تحافظ على هدوئه وذوقه واستقراره المزاجي والذهني وحتى العاطفي.
لوثة وحاجز صدّ
وأشار قدوري إلى أن الطفل العربي مظلوم موسيقياً، فهو لا يحصل على أدنى حقوقه السمعية منذ صغره، على عكس الطفل في أوروبا الذي يلقى رعاية خاصة تلتزم أسرته كجزء من الثقافة المجتمعية في جعله يسمع الموسيقى الكلاسيكية مثل بيتهوفن ومونامور وغيرها منذ نعومة أظافره، ويبتعدون بالطبع عن تعريضه لسماع الموسيقى الصاخبة، ثم يتلقى في المدرسة دروس تذوق الموسيقى.
وينصح قدوري الآباء بحماية أطفالهم من التعرض للمخدرات الرقمية، خاصة عند اكتشافهم شغفا زائدا لديهم تجاه الموسيقى الصاخبة، لهذا يجب توجيه هوايتهم نحو تعلم الموسيقى عبر المعاهد أو الآلات لتفريغ طاقاتهم عليها، معتبراً بأن ذلك يساهم في بناء حاجز صد ضد أي لوثة موسيقية تجنبهم من التعرض إلى أنواع المخدرات الرقمية أو لوثات سمعية قد تؤدي إلى نوع من الإدمان الإلكتروني.
قوة خفية
ومن وجهة نظر الطب النفسي والسلوكي، قال د. علي الحرجان، طبيب نفسي، إن أعراض الإدمان الإلكتروني يمكن اكتشافها بسهولة لدى الأبناء من خلال تصفح الطفل أو المراهق أجهزة الموبايل والآيباد وقضاء وملاحظة وضع سماعات الأذن لوقت طويل وظهور انفعالات غريبة على ملامحه، وإذا افتقده السماعة أو الجهاز تظهر لديه علامات توتر وقلق وعصبية، وهناك علامات أخرى حيث يبرز قصور واضح في دراسته ونشاطاته الرياضية وعلاقاته الأسرية مع أهله، ويكون دائم الانزواء في غرفته، ويسهر كثيراً، ولا يفارقه الجهاز ويتصفحه باستمرار من وقت لآخر، مشيراً إلى أن النصح والإرشاد لا يؤدي إلى نتيحة معهم، وذلك لوقوعهم في فخ قوة خفية تسيطر على سلوكهم وتعمق لديهم هذا الإدمان.
د. علي الحرجان
وفيات ومخاطر عصبية
ولفت الحرجان إلى أنه استقبل في عيادته حالات عديدة من المراهقين لاسيما في السنوات الأخيرة، معتبرا أن “المخدرات الرقمية” باتت تمثل مشكلة كبيرة في الوطن العربي، ذلك لأن الشباب يقضون معظم الوقت في منازلهم، حيث لا توجد لديهم عناصر تسلية أو نشاطات اجتماعية أو رياضية، لهذا يقعون ضحايا هذا النوع من الموسيقى الخطيرة، حيث تكون بمثابة متنفس لهم.
ونفى الحرجان أن يكون المخدر الرقمي، يسبب حالات وفاة، من دون أن يشكك بالطبع في خطورتها النفسية والعصبية والسلوكية على المدمن، لما يترتب عنها من تغذية العنف في وجدانه من خلال الصوت الصاخب والكلمات القاسية في المحتوى، منوها بأن بعض الألعاب الإلكترونية سببت حالات وفيات نتيجة ما تبثه من يأس وإحباط وفشل وكآبة تتسرب إلى نفسية المراهق.
سلوكيات عدوانية
وشدد الحرجان على أن المخدر الرقمي له خطورة كبيرة على الأعصاب، حيث يجعل المدمن في حالة انطواء ودائم الإرهاق، وتسيطر عليه عصبية مفرطة، وأحيانا تظهر لديه سلوكيات عدوانية، ويكون مشوش التركيز والتفكير غير متجاوب مع الآخرين وخجول من الناس ويشكو من الإمساك ويعاني من اضطراب الشهية.
وأشار الحرجان إلى أن الإدمان هو تعوّد تدريجي إلى أن ينغمس الشخص مع هذه الأصوات ويعيش فيها حالة من التفاعل والانسجام تدفعه نحو النشوة والفرح والهوس والانفعال والنشاط الزائد، حيث ينفصل ذهنياً وجسدياً عن الواقع، ويرتبط بهذه الأجواء سواء بسماع المؤثر أو بدون سماعه، حيث يظل ذهنه ملتصقاً بالأثر الذي تتركه تلك الألحان السلبية والانفعالات المشوشة.
تعبيرية
مهدئ نفسي للاكتئاب
واعتبر الحرجان أن إدمان هذا الجو الموسيقي يؤدي إلى إفرازات كيميائية تؤثر على الدماغ وتسبب التهيج الدائم، وتؤدي الى اضطراب الهرمونات الجسدية وتؤثر على سرعة دقات القلب.
أما الموسيقى الجيدة، بحسب الحرجان، فهي شيء راق ومفيد للإنسان ويمكن أن تكون مهدئا وعلاجا نفسيا للاكتئاب، خاصة إذا كانت ضمن ضوابط ووقت محدد وزمن خاص وريتم طبيعي، كما أن لها أيضاً فوائد جسدية ونفسية جمّة من دون إفراط أو استخدام خاطئ.
مراقبة المؤثرات العقلية
أما من الناحية الأكاديمية والقانونية، فقال د. هاشم سرحان، العميد التنفيذي للبرامج العسكرية والأمنية في كلية دبي للطلاب، فإن المخدرات بصفة عامة لها تعريف طبي معتمد من الهيئات الدولية المعنية بالصحة، كما أن لها تعريفاً قانونياً معتمداً من المنظمات الدولية المسؤولة عن مراقبة المؤثرات العقلية.
د. هاشم سرحان
وكذلك الإدمان والاعتماد البدني والنفسي لها تعاريف طبية ولها أعراض انسحابية تظهر على الشخص المدمن في حالة التوقف عن تناولها. وهناك أيضاً أعراض تظهر على المدمن خلال تأثير المادة المخدرة على الجهاز العصبى المركزي.
وأوضح د. هاشم أننا لا نستطيع أن نجزم بأن هناك ظاهرة إدمان على المخدرات الرقمية لأن ذلك يمكن إثباته فقط عن طريق الأبحاث والدراسات العلمية الرصينة.
وأضاف: لا أعتقد أن هناك دراسات علمية تؤكد وجود الظاهرة وحجمها والفئات العمرية المتأثرة بهذه الظاهرة، ومن ناحية أخرى، فإن هناك تهويلا وتضخيما لتأثير ما يسمى “المخدرات الرقمية” وهذا التهويل ليس له أساس طبي أو علمي بأنه يسبب الوفاة أو الجنون أو أن له أعراضاً انسحابية.
الأثر الإيجابي والسلبي للموسيقى
وقالت الاختصاصية الأسرية، د. جميلة سليمان خانجي، مستشار دراسات وبحوث، إن خاصية المخدرات الرقمية تعتمد على نظريات علمية وأبحاث، وقد أثبت أثر الموسيقى على فعالية عمل الدماغ، وفي هذا الشأن توجد مئات الأبحاث الحديثة التي اكتشفت أثر الموسيقى على الدماغ، ومن منطلق تحصصي في مجال الهيمنة الدماغية والأنماط الاستيعابية وأنماط التفكير، وقد وجد هناك عدة اكتشافات في مجال أثر الموسيقى على الدماغ، موضحة أن الموسيقى السريعة تنشط منطقة المخيخ التي لها علاقة بالحركة والتوازن الحركي، وتؤثر على معدل ضربات القلب.
وأضافت: “تم تصميم موسيقى تؤثر على تغيير أنماط موجات الدماغ حيث إن للدماغ طاقة كهربائية تعمل على تغيير حالة التيقظ عند الفرد بنفس الطريقة التي تعمل بها المخدرات التي يتناولها الفرد، والغريب في الأمر أن علماء المسلمين منذ القدم اكتشفوا علاقة السلوك بالموسيقى فكان الأذان لكل صلاة بلحن يختلف عن الثاني في مجال التوقيت سواء الصبح أو الظهر أو العصر وهكذا”.
د. جميلة سليمان خانجي
تصرفات حركية لا إرادية
ولفتت إلى أن الشخص إذا تعرض لهذا النوع من المخدرات الموسيقية قد يأخذ منحى الانعزال، وقد تتسبب في قيامه بحركات لا إرادية متكررة، ففي هذه الحالة يجب أن يكون الفرد واعياً للأثر الإيجابي والسلبي للموسيقى كما يجب أن يتيقظ الأهل للأطفال عندما يفرطون في الحماس وينغمسون في تجربة كل جديد.
وأشارت د. جميلة إلى أن الأثر الإيجابي للموسيقى بشكل مثل موسيقى “موزارت” والتي تحفز وتحسن التفكير المكاني للطلاب، وتحفيزهم على التركيز والتعلم، كما أنه ثبت علمياً أن الموسيقى تساعد على الاسترخاء، وتنشط موجات الدماغ، وتحفز التفكير الخيالي والمهارات الحركية، وأيضاً تم استخدامها في مجال البرمجة اللغوية العصبية لنقل المعلومات من مستوى الوعي إلى اللاوعي.
ضوابط ومواقع محظورة
وزارت “العربية.نت” مقاهي انترنت عشوائية، يقبل عليها الأطفال والمراهقون من أجل تمضية أوقات للتسلية يكون الأهل في الغالب على علم بذلك، من دون أن يدركوا أن تلك المقاهي يمكن أن يتسرب إليها الطفل عبر الألعاب أو ملفات الـ”يوتيوب”، وربما يقع في فخ “المخدرات الرقمية”، لكن محمد حكيم الدين، مدير مقهى انترنت بالإمارات، أعرب عن استغرابه لما يسمى “المخدر الرقمي”، حيث لم يواجه هذا النوع من الملفات.
وأشار إلى أن هناك رقابة مباشرة من قبل إدارة المقاهي حيث تخضع لاشتراطات وضوابط من البلدية على سلوكيات الأطفال، كما أن بعض المواقع المشبوهة محظورة من قبل هيئة تنظيم الاتصالات، ونفى حكيم الدين أن يكون هناك أطفال يسمعون ملفات مخدرة أو ظهرت لديهم سلوكيات غريبة على العكس تماماً فإن كل المراهقين الذين يقصدونه يقضون أوقاتاً اعتيادية مع الألعاب المتعارف عليها.
سماعات أذن وحركات غريبة
وفي المحل ذاته، قال عماد القيسي، أردني، 15 عاماً، إنه لم يسمع من قبل عن “المخدر الرقمي”، لكنه أكد وجود أشخاص يميلون إلى وضع سماعات كبيرة في آذانهم لأوقات طويلة، ويرقصون على إيقاعها بحركات غريبة، معتبراً أن تلك الأغنيات الأجنبية الصاخبة ذات الإيقاع السريع لموسيقيين عالميين معروفين مثل بريتني سبيرز وريانا وسيا وسيلين ديون والليدي غاغا وجنيفر لوبيز وغيرهن، ولفت إلى أن سماعة الموبايل ممنوعة في منزله، ولا يصحب الهاتف إلى المدرسة، ولديه وقت محدد للتصفح على الإنترنت خلال يومه، مشيراً إلى أن أبويه يحرصان على توعيته بمخاطر الإنترنت والمواقع والبرامج حتى صارت لديه دراية وحذر شديدان خاصة من مواقع “السوشيال ميديا”.
الدور التربوي للأسرة
ووفق تعبير إبراهيم سعد السيد، مصري، فإنه سمع عن “المخدر الرقمي” وضرره وتأثيره، لكنه يحرص على حماية أطفاله ليس من هذا النوع من المخدرات، بل إنه يعتبر كل مواقع الإنترنت التي تخرج من نطاق رقابة الأهل تمثل مخدرات ومؤثرات، وقد تؤثر في سلوك الطفل أو تهدد صحته ونفسيته، بالتالي فإنه نظم عملية إدارة المحتوى الذي يسمح لهم بالتعرض له سواء من خلال جهاز التلفاز واختيار وحظر القنوات التي تتضمن محتوى خادشا أو سلبيا، ومروراً بالهاتف الذي يحمله أبناؤه حيث يخضع للتفتيش والمراقبة حتى إن لديه برامج تعقب مواقع مربوط إلى موبايلاتهم، ويعرف الأماكن يتواجدون فيها ليضمن تحركاتهم، ويتابع تصرفاتهم ويشدد في زيارتهم لمدرتسهم لتقييم سلوكهم الدراسي.
وأضاف السيد أن وقوع الطفل في أي فخ إدمان فذلك ليس ذنب الطفل أو المراهق بل إن المسؤولية كاملة تقع على عاتق رب الأسرة بسبب إغفاله وإهماله بالقيام بدوره التربوي.