آباء يتشبثون بخيط التعليم ويعتبرونه المسار الوحيد لرقي وازدهار فلذات أكبادهم وطوق نجاه لمستقبل زاهر لهم؛ هكذا هي غالبية الأسر المغربية، وهذا واحد من أبرز الأسباب التي تجعلها تبعث بأبنائها إلى مدارس خاصة ظنا منها أن ما توفره لهم أفضل مما قد يجدونه في التعليم العمومي.

هسبريس التقت عددا من أولياء الأمور فرضت عليهم الجائحة ظروفا صعبة وفقدوا عملهم، من بينهم عائلة فاطمة الطاهري المقيمة بحي صفيحي بمدينة سلا. ولأن هذه الأسرة كانت تشتغل في القطاع غير المهيكل، فقد تأثرت هي الأخرى بأزمة “كوفيد-19” ولم تستطع كسب مال يوفر لها ولأبنائها عيشا كريما.

آباء فقدوا عملهم

تقول فاطمة في لقائها بهسبريس: “لدي ثلاثة أبناء؛ اثنان منهم يتابعان دراستهما بمدرسة خاصة بمبلغ 1600 درهم، وأنا أقطن فقط في حي صفيحي، أما مهنتي ومهنة زوجي فهي بيع سندويتشات السمك بالقرب من منطقة صناعية حيث نستهدف العاملات بالمعامل هناك”.

وتضيف فاطمة بدموع تملأ عينيها وحرقة بقلبها: “أقطن فقط في حي صفيحي وليس لي طموح أكثر، كل طموحي هو أن يتلقى أبنائي تعليما جيدا وأن لا يكون مصيرهم مثل مصيري ومصير والدهم… نحن نعيش عذابا وقهرا يوميا، أحيانا لا أستطيع النوم ليلا بسبب الألم في يدي جراء تنقية السمك، لكن كل هذا لا يهم، الأهم هو أبنائي”.

فرضت جائحة كورونا ظروفا خاصة غيرت مسارات كثيرين وأفقدت عديدين مصدر رزقهم، فباتوا يبحثون عن مورد رزق يضمنون منه لقمة عيش، وبالتالي لم يعد بإمكانهم أداء مصاريف تمدرس أبنائهم.

تواصل فاطمة قائلة: “من هم في وضعيتي ليس في مقدورهم تعليم أبنائهم في مدارس خاصة، لكن أنا أكافح من أجل هذا الأمر وكل همي هو تعليمهم، ولو لم تكن الظروف التي فرضتها الجائحة لكنت واصلت تدريسهم بالمدرسة الخاصة، لكن اليوم لا أستطيع؛ فلم أعد أجني حتى ما يسد رمق جوعهم”. وتتابع الأم المكافحة: “لو لم تكن ظروف الجائحة، لواصلت حتى آخر لحظة في حياتي”.

ليست هذه الأسرة نموذجا خاصا، بل هي صورة لمجتمع تأثر بوباء أتى على حين غرة وغيّر ملامح عالم بأسره، فكيف لا يكون له انعكاس على قطاع من القطاعات الحيوية؟

من بين الأسر التي التقتها هسبريس عائلة يونس الرحموني، أب لطفلين كانا يتابعان تعليمهما بمدارس خاصة قبل الجائحة، لكن نظرا لتأثر عمل رب الأسرة كممون للحفلات جراء الأزمة، اضطر إلى سحبهم منها واللجوء إلى مدارس عمومية عقب مسار طويل لجأ خلاله إلى القضاء للحصول على انتقال أبنائه.

يقول الرحموني في حديثه مع هسبريس: “منذ بداية الحجر الصحي، لم أجن ولو درهما واحدا؛ فقد توقف عملي بالكامل، والجائحة أثرت على القطاع بامتياز”، ويتابع: “اضطررنا لسحب أبنائنا من المدارس الخصوصية؛ إذ لم نعد نستطيع أن نؤدي ثمنها، لكن حينما أردنا الحصول على الوثائق للقيام بعملية الانتقال رفضت المؤسسة، وهو ما اضطرنا إلى اللجوء إلى القضاء الاستعجالي الذي أنصفنا وأمر بأن نسحب الوثائق”.

توقعات بارتفاع الأرقام

نزوح التلاميذ من المدارس الخصوصية صوب أخرى عمومية لم يؤكده فقط أولياء الأمور، بل حتى أرباب المدارس يؤكدون أن فقدان الشغل بسبب كورونا أدى بعديدين إلى المغادرة.

يقول عبد السلام عمور، رئيس رابطة التعليم الخاص بالمغرب: “في ما يتعلق بانتقال التلاميذ من المدارس الخصوصية صوب العمومية، فالأكيد أن الرقم سيتضاعف عما كان عليه السنة الماضية، لأن القدرة الشرائية للآباء تضررت”.

ويؤكد عمور أن نسبة الآباء الذين تضرروا ولم يستطيعوا أداء حتى مصاريف السنة الماضية كبيرة، ويتابع: “الآن هذه الفئة المتضررة اضطرت أن تسحب أولادها من التعليم الخصوصي وتلجأ إلى التعليم العمومي، وأكيد ستكون نسبة كبيرة، الأرقام التي كانت السنة الماضية محددة في 52 ألفا أؤكد أنها ستتضاعف وستتجاوز مائة ألف حسب التوقعات الحالية”.

أرقام رسمية

وزارة التربية الوطنية ترفض الحديث خلال الوقت الحالي عن هجرة من التعليم الخاص صوب التعليم العمومي، والنموذج من العاصمة الرباط التي إلى حدود ما قبل موعد الدخول المدرسي لم تختلف فيها معدلات الانتقال عما سجلته السنة الماضية، محققة فقط ارتفاعا طفيفا.

يقول محمد آيت وديف، المدير الإقليمي لوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي بالرباط: “هذه السنة لدينا 900 طلب للالتحاق بالسلك الابتدائي و700 طلب للالتحاق بالثانوي بسلكيه الإعدادي والتأهيلي، السنة الماضية كان هناك 870 طلبا في السلك الابتدائي و852 في الثانوي بسلكيه وبالتالي ليس هناك فرق”.

ويتابع قائلا: “ككل سنة في المديرية الإقليمية للرباط هناك إقبال للأسر والتلاميذ على تغيير المؤسسة من التعليم الخصوصي إلى العمومي، دائما كانت هذه المسألة وكانت رغبة الانتقال إلى التعليم العمومي في أسلاكه الثلاثة وبجميع مستوياته”.

ويوضح المسؤول الأكاديمي أن المديرية دأبت على إصدار مذكرة كل سنة موجهة أساسا إلى مؤسسات التعليم الخصوصي ما بين شهري مارس وأبريل من أجل توضيح طريقة الانتقال من المؤسسة الخاصة إلى المؤسسة العمومية، قائلا: “تكون هناك حركية وهكذا نعرف عدد التلاميذ الذين سينتقلون من أجل إعداد الخريطة المدرسية لأنها شيء أساسي بالنسبة لنا في السنة الدراسية”.

وعلى الرغم مما تحدث عنه المسؤول الأكاديمي، فلا يمكن الجزم والإتيان بأرقام دقيقة قبل تجاوز موعد الدخول المدرسي بأسابيع تكون خلالها الفرصة متاحة لحدوث انتقالات أخرى في صفوف التلاميذ. عامل آخر قد يتدخل في هذه الأرقام هو المنطقة السوسيو اقتصادية؛ فإذا كانت الرباط مستقرة نوعا ما، فإن مدنا أخرى قد تختلف فيها النسبة بحسب درجة تأثر أولياء الأمور جراء الجائحة.

ويؤكد المسؤول ذاته أنه “من خلال التواصل مع المؤسسات وتمثيليات الآباء، لم نلمس أن هناك هجرة”، مضيفا: “هناك من يريد تغيير المؤسسة الخصوصية لأنها لم تقدم له خدمة، وكل شخص ومنظوره. وبالتالي، لا يمكن أن نتكلم عن هجرة بقدر ما يمكن أن نقول إن هناك أسبابا ذاتية تدفع الأسر إلى تغيير المؤسسات وفي الاتجاهين معا”.

توقعات مهنيين

هسبريس التقت نزهة نيازي، مديرة مؤسسة محمد بنعبد الله الخصوصية بسلا، التي أكدت هي الأخرى فرضية انتقال التلاميذ من الخاص إلى العام جراء تأثر الآباء بالأزمة، متحدثة أيضا عن عامل آخر سيتدخل في هذا الانتقال هو طبيعة التعليم “حضوري أم عن بعد”، قائلة إن “نسبة التلاميذ الذين أكدوا فعليا أنهم مغادرون إلى حدود الساعة هو 10 بالمائة، ونسبة الذين في حالة انتظار تناهز 45 بالمائة، والسؤال الذي يطرح: هل سيكون هناك تعليم حضوري لأعيد التسجيل؟”.

وتضيف نيازي أن “المشاكل المادية عسيرة جدا لأن عددا من الآباء فقدوا عملهم”، مقدمة أرقاما تهم بحثا قامت به المؤسسة خلال الحجر الصحي، موردة: “غالبا في المنطقة السوسيو اقتصادية نجد، حسب إحصاء باشرناه، أن 60 في المائة من الأمهات هن ربات بيوت، وبالتالي فرد واحد هو من له عائدات مالية شهرية، وما يقارب 25 بالمائة فقط منهم لهم عائدات مالية قارة، أي ما يقارب 75 بالمائة عملهم غير قار، وبالتالي مهددين في أي لحظة إما بعدم العودة إلى العمل أو العودة بشكل متقطع، وهو ما سيزيد من تعميق الهوة بين التلاميذ، فهناك من سيواصل وهناك من سيجد نفسه مجبرا على المغادرة والتوجه إلى اختيارات أخرى”.

من جانبه، يؤكد عمور انقسام التلاميذ الذين قد يرغبون في الانتقال إلى التعليم العمومي إلى أربعة أقسام، قائلا إن “الفئة الأولى تهم الآباء الذي تأثروا بشكل مباشر بجائحة كورونا ولن يستطيعوا مسايرة نفقات أبنائهم بالمؤسسة الخصوصية، فيما الفئة الثانية ترتبط بالتلاميذ الذين سيضطرون إلى الانتقال بسبب إغلاق مدارس خاصة تأثرت هي الأخرى بكورونا”.

وبهذا الخصوص، أكد أن لديه أخبارا بأن “عددا من المؤسسات ستعلن إغلاقها بمجرد افتتاح الدخول المدرسي، وبالتالي سيكون هناك عدد كبير من التلاميذ الذين سيضطرون إلى الالتحاق بالمدرسة العمومية”.

أما الفئة الثالثة التي ذكرها عمور، “فتهم التلاميذ الذين ينتقلون بشكل تلقائي بمجرد الحصول على شهادة المستوى السادس”، مع العلم أن “هناك عددا كبيرا من المؤسسات الخاصة في المدن الصغرى تدرس فقط حتى المستوى السادس ابتدائي، وبالتالي يلتحق تلامذتها بالتعليم العمومي في الإعدادي”.

أما الفئة الرابعة، بحسب عمور دائما، “فهم أولئك الذين ينتظرون التعرف على النموذج التربوي الذي ستتبعه المدرسة”.

عبء على المدرسة العمومية

الأكيد أن نزوح التلاميذ من التعليم الخاص صوب المؤسسات العمومية سيطرح إشكالا وعبئا كبيرا على هذه الأخيرة، التي لن تتحمل الوضع إن ارتفعت الأرقام أكثر فأكثر.

يقول عمور: “السيد وزير التربية الوطنية حينما طلب وتمنى الاستقرار فهو يعرف سبب ذلك، وهو راجع إلى كون المدرسة العمومية لا تستطيع تحمل مزيد من تدفق التلاميذ؛ إذ هناك إكراهات كبرى”.

وسبق أن عبر سعيد أمزازي، وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، عن تخوفه من نزوح التلاميذ من التعليم الخصوصي إلى العمومي، قائلا: “لا يجب أن يكون”.

وأوضح أمزازي خلال مداخلته في اجتماع للجنة الثقافة والتعليم والاتصال بمجلس النواب، أن نزوح التلاميذ من التعليم الخصوصي إلى العمومي يعد إخفاقا للمنظومة التعليمية، “لأن المدارس العمومية لا يمكن لها استقبال الأعداد الكبيرة من التلاميذ الذين يدرسون بالتعليم الخصوصي”.

مراجعة المضامين

الأزمة تفوق مجرد طرح للأرقام وتتعداها إلى المضامين، كثيرون يعتبرون أن كورونا عرت واقع التعليم الخاص بالمغرب، وينادون بضرورة مراجعة شاملة ويطالبون بدفاتر تحملات واضحة.

تقول كوثر المرنيسي، عضو اللجنة التحضيرية للجمعية المغربية لآباء وأولياء أمور تلاميذ التعليم الخصوصي: “ما يقع اليوم هو أن الأسر في ظل الحجر الصحي وحين سماعها لدروس أبنائها عن بعد، اضطرت إلى القيام بوقفة لمراجعة مضامين ما يؤدون مقابله تكاليف شهرية وما من أجله يدفعون المال ليكون أبناؤهم في إطار جيد”.

وتتابع المرنيسي في حديثها مع هسبريس: “هذا ما طرح العديد من التساؤلات، لا نتحدث عن هجرة بقدر ما نتحدث عن كون الأسر احتاجت اليوم أن تقول أنا أتفق أو لا أتفق مع ما اعتدنا تأدية ثمنه”.

وتؤكد المرنيسي أن حيرة وتردد وتوتر الأسر يزداد أكثر فأكثر، وأن “حالة الضبابية لا توجد فقط في المدرسة الخصوصية أو على مستوى الجهات الوصية، وإنما تتعداها إلى المدرسة العمومية والأسر”.

وتنبه المرنيسي إلى أن الجميع يتحرك اليوم بشكل اضطراري، قائلة: “الأسر لا تتوفر على معطيات لازمة من أجل اتخاذ القرار الملائم، وليس بالضرورة إذا غادر أبناؤها المدرسة العمومية فهو تعبير عن عزوف أو اختيار، فجميعنا نتحرك اليوم في إطار اضطراري، وأغلب القرارات التي تتخذ الآن مبنية على الخوف”.

من جانبه، يقول الرحموني: “من خلال مرحلة الدراسة عن بعد اكتشفنا، أنا ومجموعة من الآباء، أننا كنا نضيع مالنا، وظهر لنا الوجه الحقيقي للمؤسسات الخصوصية وعيوبها، ولهذا قررنا، أنا ومجموعة من الآباء يبلغ عددهم تقريبا الثلاثين، أن نلجأ إلى التعليم العمومي عن طريق القضاء”.

من جهتها، تقول نيازي إن “صعوبة تدبير الأزمة الحالية لا بد لها من خطة شمولية، ليس للتعليم الخاص بل بشكل شمولي، سواء حضوريا أو الدراسة عن بعد، على مستوى المناهج وعلى مستوى تكوين الموارد البشرية وتوفير الموارد اللوجستيكية. ومن جانب آخر، خلق دفتر تحملات واضح وصريح يخص المؤسسات الخصوصية”، مؤكدة أنه “من الصعب التدبير بقرارات مفاجئة، ويصعب على المؤسسات تكييف عملها مع قرارات مفاجئة”.

الخريطة المدرسية باتت اليوم مبعثرة؛ الجائحة فرضت سيناريوهات مختلفة، وبعثر عدو خفي كل الحسابات التي كانت قائمة لسنوات، فهل تحمل الأيام القادمة ما لا تحمد عقباه؟

[embedded content]

hespress.com