الثلاثاء 15 شتنبر 2020 – 09:00
بأُزُرِهِنَّ ولُثُمهن السوداء، يتجولن بين القصور بحثاً عن الفتيات اللائي يرغبن في الزواج. هن “الخطَّابات” اللاتي وجدن في مهنة الوساطة في الزواج بتافيلالت سبيلاً للعيش ومورداً للرزق.
ينافسهن الرجال في المهنة التي لطالما ظلت حكراً على النساء في تافيلالت، إلا أن ذلك لم يدفعهن إلى التراجع أو تغيير عملهن الشرعي، كما يصفنهُ كليةً. يتوفرن على ألبومات صور تتضمن صور طالبي الزواج، لتعرضنهم في عملية البتّ في أمور الخِطبةِ. يؤدين دوراً اجتماعياً مهمّاً في الريصاني، يُحصِّلُ بعضهن أموالاً طائلةً، وينقذن الكثيرات من تأخر الزواج الذي يعتبر سُبَّة جارحة وذا أثر نفسي عميق على أغلبية الفتيات في المنطقة، لا سيما داخل العائلات التقليدية والمحافظة.
من هي الخَطَّابة؟
تجيب إحدى النساء باستغراب شديد، وكأن السؤال لا جدوى منه أصلاً، لأن الخطَّابة في الريصاني تُعرف كما يُعرف القمر. تتحدث المرأة بتلعثُمٍ وهي تُحاول أن تخلق جواباً غير مألوف؛ لكنها لم تغادر كون الخطَّابة هي وسيطٌ في عُرفِ المنطقةِ، يلجَأُ إليهِ سواء الرجل أو المرأة للبحث له(ا) عن شريك(ة).
وتضيف المرأة أن الخطَّابة تقوم بدورها بجمع معلومات الفتيات العازبات “وبياناتهن الشخصية” لاقتراحهن على بعض طالبي الزواج حسب طبيعة طلبه ومواصفات الشريكة المنشودة، كما قد يكون العكس في حال الطلب يأتي من الفتاة، وطبعاً تتقاضى الخطَّابة مقابل عملية الوساطة مالاً لكدها وتعبها جراء البحث، الذي قد يستغرق أشهراً”.
خبز “الخَطَّابة”: الكذب
الحاجة فاطمة، التي غزت ملامحها التجاعيد وهي في عقدها السادس، الساكنة بحي مولاي رشيد بالريصاني، تُطلعنا بقلب ممتلئ كيف أن إحدى الخطَّابات باعتها الكثير من الأوهام قبل سنوات عديدة، وهي تحاول تزويج ابنتها، التي بلغت من العمر ستا وعشرين سنة وقتذاك.
“البنت كبرات، كان خاصنا نزوجوها، ولا غادي تبقا لينا هنا بايرة”، تقول الحاجة بنبرات الاستغراب وكأنها تحكي لنا خرافة، قبل أن تضيف بانزعاج أن الخطَّابة لا يمكنُ أن تؤدي وظيفتها دون إضافة أشياء غير واقعية وتستعملها فقط لإنجاح خطة إقناع عائلة الفتاة: “جابت لينا واحد من واد زم، وقالت لينا السيد كايصلي وتابع طريق الله، وملي مشات البنت لقاتو سكايري وكايتكرفص عليها، وراه حنا على باب الطلاق دابا”.
وردّت إحدى الخطَّابات معتبرةً الأمر فقط تحامل على عملهن، وأن الدليل على مصداقية هذا العمل هو التزام العديد من العائلات معها لتزَوِّج أبناءهم بكاملهم، ولا يتزوج أي أحد منهم دون علمها ومباركتها أو على الأقل اللجوء إلى التفاصيل التي قد تأتي بها، “كاين لي زوجت ليه خْمسْ بناتْ فقصر حنَّابو”، تؤكد المتحدثة بثقة بالغة. ثم أردفت، ولثامها يغطي الجزء السفلي من وجهها ولا تبدو سوى عينيها السوداوين وحواجبها الفاحمة، “أنها هي فقط تنقل ما يقول لها من طلبها أولاً لتبحث له عن الشريك، وهي لا تكذب ولا تجمل أي شيء، وإنما هي لسان صاحب الطلب سواء الذكر أو الأنثى. وأنا ما عندي سوق لا تزوجو ومالقاوش داكشي، حيت راه هاد الزواج لي كا يكون هاكا نتا وزهرك”.
المهنة التي تدِرُّ ذهبا!
في تافيلالت، يُمكنُ للخطابة أن تجني مالاً من مهنة الوساطة التي تقوم بها، وتغدقُ عليها العطايا والهبات من كل الجهات المعنية بعملية الخِطبة أو الخُطوبة.
عمر الجزار، داكن البشرة وأصلع الرأس، يصفُ الخطابة بـ”المنشار”، ويعتبرها مستفيدة من بداية العملية إلى نهايتها، “شوف الخطَّابة كاتخلص، وتحضر للخطوبة، وتحضر للعرس وتاكل وتشد الفلوس وكاين لي يعطيها تا الذهب”.
ويضيف بسخرية ورائحة اللحم تصدر من وزرته البيضاء المليئة بالدماء: “الخطَّابة بحال المنشار طالع واكل نازل واكل”.
وضرب لي المثل بإحدى الخطابات النشيطات في تافيلالت، التي أصبحت من علية القوم في الريصاني، كما يقول عمر، وتمكنت من شراء شقة وتستفيد من سفريات لا يتمكن من الاستفادة منها أي كان، معتبراً ذلك راجعٌ إلى الذكاء في العمل والاحترافية “علاش هاديك تخدم معايا ولا معاك، والله وماك ان شي واحد الضربة ديالو زينة لا شدات معاه ولا شافت ليه” ينطق عمر حاملاً سكينه ليقطع بعض اللحم.
حْليمة الخطَّابة، التي تنحدر من قصر السيفة بالريصاني، تحكي لنا بوضوح ودون تحفظ أن الأتعاب يتم الاتفاق عليها منذ البدء، وقبل حتى مباشرة عملية البحث، “هادشي ما فيه عيب، لي بغات واحد كايمشي لفرنسا تخلص مية ولا مية وعشرين ألف، ولي بغاتو موظف ستين ألف، ولي بغاتو كيما كان ثلاثين ولا عشرين ألف” تقول مستعملة أصابعها لضبط العملية الحسابية.
وتزيد أن هذه الأتعاب تلزمها هي وحدها وليست معممة على كل الخطَّابات؛ لأن “كل واحد وشنو بغا، كاين حتى لي كايخدم فابور في سبيل الله”، حسب ما أوردت.
أسرة الفتاة تدفعُ أكثر؟
في تكريس للمجتمع الأبوي الذكوري بتافيلالت، حيثُ إن الفتاة التي طال أمد انتظارها للزواج تشكل حرجاً وعبئاً على بعض العائلات ذات التفكير المحافظ، لذا ينبغي تسريحها لكي لا تصبح صفة “البايرة” ملازمة لابنتهم، ما يجعلهم يدفعون أقصى ما يمكن فقط لإيجاد زوج لابنتهم، دون معرفة العواقب من تزويجها شخص لا تعرف عنه أي شيء في غالب الأحيان.
“شدات 50 ألف فديك التزويجة، ووالله ماتستاهلها” هكذا تعلقُ الحاجة فاطمة بأسف شديد وبندم واضحٍ على ما دفعتهُ للخطابة بغية تزويج ابنتها.
وتضيف المتحدثة ذاتها أنه جرت العادة في تافيلالت أن تدفع عائلة الأسرة أكثر، ويتصاعدُ الثمن حسب سن الفتاة، وهل هي عزباء أم مطلقة أم أرملة… وبحسب كذلك نوع الفرصة المتاحة من قبل الخطَّابة، بمعنى هل الزوج المحتمل جيد وله سمعة حسنة ومن نسب مرموق وحالته المادية والاجتماعية مريحة أم “هو مزلوط وكايقلب غير فين يجلي عودو”، حسب قول الحاجة فاطمة التي تسعى من خلاله إلى التهكم.
وردت حليمة الخطَّابة بارتياح أنها لا ترى حرجاً أن تدفع الفتاة أكثر من الذكر؛ لأنها في الريصاني أكثر حاجة إلى الزواج.
وفي جواب لها عن سؤال حول الفتيات اللائي لا يستطعن دفع ثمن عملية الوساطة، أضافت حليمة بافتخار “أنها لطالما ساهمت في زواج الكثير من الفقيرات في المنطقة دون أن تتقاضى أي مقابل”، على حد تعبيرها.
وتقول رانية، التي ولدت وترعرعت في الريصاني، والتي تتابعُ دراستها الجامعية في إسبانيا الآن، إنها لن تقبل أن تتزوج بفعل الوساطة، ولن ترضى أن يدفع والداها مالاً مقابل زواجها؛ لأن في ذلك إهانة لها ولعائلتها.
وجوابا عن استفسار بشأن مسألة “البايرات”، ردت الشابة بليونةٍ، معتبرةً أن التصالح مع هذه الأوصاف هو السبب في كل ما يحدث للفتيات اللاتي فشلن في زواجهن الذي كان نتيجة وساطة، ولا يعلمن شيئاً عن الزوج؛ وهو، حسب رانية، لا يعدو “أن يكون شبيها بقانون العرض والطلب داخل السوق واعتبار البعض في الريصاني أن المرأة سلعة يجب تصريفها عندما تبلغ الست عشرة سنة وما فوق”.
كورونا.. مزعج الخطّابات
وتعربُ الخطابة حْليمة بعينيها الجاحظتين عن قلقها بسبب ركود عمل الخطابات، نظراً للظرفية الصحية التي تعيشها المنطقة والعالم بأسره جراء تفشّي وباء كورونا ومنع إجراءات الزواج وغيرها.
وقالت بنوع من المرح بلكنتها الفيلالية: “هاد كورونا خلانا يخليه بالخلا”؛ ولكنها أكدت في الوقت ذاته أنها استفادت، على غرار نساء أخريات خطابات من الريصاني، من عروض للخطبة “عن بُعد”، عبر الهاتف وعقدت صفقات مع عائلات ستزور المنطقة مباشرة فور انتهاء حالة الطوارئ الصحية، لإتمام العمل والسهر على مقابلة العائلتين.
وختمت الخطابة ذاتها بقولها الضارب في عمق اللهجة المحلية: “كنقولو واك الله يمشي هاد الوبا، وتولي ليام الزينة”.