السبت 17 أكتوبر 2020 – 05:00
سنةِ 1972، كان قدرُ أفواه النساء أن تشقّ صمتَ مرزوكة بزغاريد أمازيغية صاخبة، بعد أن زُفّ إليهن خبر مجيئِه كطفل ينضافُ إلى قبيلة أيت خبّاش، ويجترّ تاريخها العتيد..إنه محمد نوغو، ابن رقية وحماد الأمازيغيين أباً عن جد، الذي سمتهُ جدتهُ محمد بُعَيد ميلاده في فاتح يناير من السنة نفسها..
يلقبهُ الكبيرُ والصغيرُ بموحى منذ أن كان طري العود، نشأ في عائلة متوسطة، تنحدر من المنطقة، قبل أن يكتشفَ الذات بمرزوكة، التي سيلعبُ برمالها ويصطادُ الطيور والفئران و”الورن”، ويربيها ليداعبها ويشعل بريق الطفولة بمنطقة مظلمة بالتهميش تنتمي للمغرب “العميق” و”غير النافع”..منحتهُ مرزوكة حق التعلم، حيث سيذهب إلى المدرسة ليتعلمّ القراءةَ والكتابة، ليراودهُ تلقائياً حلمُ الطب منذُ ذلك الحين، قبل أن يغادرَ كراسي الدراسة خلال الأولى بكالوريا شعبة العلوم.
عاشَ موحى حياةً بسيطةً، لم تسقط في الفقر والعدم كما لم تبلغ الثراء الفاحش، إلى أن وجدَ نفسهُ سنة 1992 يشرفُ على مأوى الجنوب، أحد أكبر الفنادق بمنطقة الحاسي لبيض بمرزوكة، الذي بناهُ والدهُ حماد نوغو سنة 1982.
عاشَ هناءً نفسياً قبلَ أن يعصف الفيضان، الذي ضرب مرزوكة سنة 2006، بتسعين في المائة من المأوى، فأفسدهُ كليةً..أصبحت هذه أكثر الذكريات الراسخة التي تقلبُ مزاج موحى كلما راودته، إذ كلفته جهداً نفسياً ومادياً وبدنياً، يقول بصوت خافتٍ وكأن الحديث عن المسألة يقضّ مضجعهُ.
دماثةُ خلقهِ وانخراطه بكل ما يمكنُ في خدمة رحل المنطقة، سواء بنواحي الطاوس وحتى المعيدر بسيدي علي تافراوت، جعلا الكثير يلقبونهُ بـ”منقذ الرحل” و”صديق الرحل”..وحكايتهُ مع الرحل جعلتهُ يحوز لقب مصور الحياة البرية بالمنطقة.
صديق الرحل..
يحاولُ حميد أيت علي، الفاعل الجمعوي بمنطقة الطاوس بمرزوكة، أن يبدع في وصف موحى نوغو بعد صمتٍ واستعداد، فقال في الأخير: “صعبٌ حقيقةً أن أحيط بشخصية ومجهودات الفاعل الجمعوي موحى نوغو، لكون هذه الشخصية الكاريزمية النادرة قدمت الكثير للعمل الجمعوي بالمنطقة، وخاصة الرحل وأبناء الهوامش؛ حتى لقبه الصغير والكبير بموحى صديق الرحل”.
وأضاف أيت علي وهو يصفُ موحى بحبٍ واضح أنه “يسافر ليل نهار لتفقد الرحل، ويجود عليهم بعطائه وحنانه وابتسامته العفوية، ويعالج مرضاهم وشيوخهم، وحتى دوابهم وماشيتهم نالت من أنامل موحى كل الحنان والرعاية…”.
واستطرد أيت علي، الملقب بأفرزيز، وهو يضع كما العادة حرف الزاي الأمازيغي فوق جبينه في العلم الأمازيغي على ثوب رطب: “حقيقة أصف موحى بالقديس، ومن خير ما أنجبت قبيلة أيت خباش، نعم الإنساني هو، نعم الصديق وسط فيافي أسامر بالجنوب الشرقي، التي يعرفها شبراً شبراً، مسافراً دون خريطة والليل قد أدلى بخيوطه، وكله عزم أن يصل ذلك الراعي الذي توصل برسالة تفيد بأنه مريض يحتاج للراعية…عاشت الإنسانية ودام العطاء والعمل والتضحية”.
حمو أيت القايد، رئيس جمعية المعيدر للثقافة والتنمية، التي تنظمُ قافلةً سنوية يشاركُ فيها موحى، يصفُ صديقهُ وزميلهُ موحى نوغو بـ”القدوة” لجميع الجمعويين الذين يتمتعون بحسنِ نيةٍ ولديهم غيرةٌ على واقع الرحل الفقراء.
وزاد أيت القايد أن موحى “إنسان منظم، يشتغل وفق إطار العمل الجمعوي باجتهاد واضح بالوقت والجهد البالغين”، مضيفاً بافتخار واضح في تموجات صوته: “إنهُ ينشط بشكل شخصي أيضاً، فأحياناً تردنا اتصالات بأن مشاكل بعض الرحل تم حلها من طرفه هو وحده؛ وكذلك يقوم بتنظيم حفلات العقيقة عندما يعلم أن خيمة انضاف إليهم طفل أو طفلة.. ورافقتهُ أنا في عدة مبادرات إنسانية، خارجة عن إطار العمل الجمعوي..كما يحفرُ للرحل الكثير من الآبار لتسهيل عملية سقي الماء”.
ودعا حمو السلطات إلى ضرورة “التنسيق مع أشخاص مثل موحى نوغو، يساهمون من مالهم الخاص في الخفاء ويرفضون الظهور بعد كل عملية تطوعية، ولا يتحدثون عن هذا الفعل نهائياً، إيماناً منهم بأهمية الإحسان وحسن نية تعاملهم مع العمل الخيري لفائدة رحل المنطقة كاملةً”.
مصورُ الحياة البرية..
رافقتُ موحى في خرجات لتصوير الكائنات والطيور التي يحبّ أن يلقبها بـ”البخوش”، لاحظتُ أنه صبورٌ وقد يبقى لما يزيدُ عن ساعات فقط بغية التقاط صورة واحدة بمواصفات يبحثُ عنها بعدسة الآلة الفوتوغرافية.. يردد كل مرة بلسانه الدارج مبتسماً: “هادشي كايبغي الخاطر أودي أ عْلِي”.
يتزوّد موحى بشتى معدات التصوير، كالحامل والمكبر، قبل الولوج إلى البراري؛ قبل كل شيء يتزود بالتقوى، صلى الصبح قبل شروق الشمس فوق أرضٍ رماديةٍ تكادُ تبلغ السواد والهواء يرمينا من كل جانب..يحرصُ أن يرتدي لباسهُ الخاص بعملية التصوير، الذي يجعلُ الكائنات البرية لا تلاحظ الأثر الإنساني ولا تهرب.. إنه لا يريدُ بها شرّا، وإنما يسعى إلى إبرازها. الكثير من الكائنات بفيافي المنطقة لم تألف العينُ مشاهدتها، ولم يتدرب الإدراك على معرفتها من قبل.
موحى محبٌّ للبرية، وهذا كان واضحاً في غضبهِ حينَ وجد النار أضرمت في إحدى الأشجار بجانب بئرٍ بـ”بوريكة”..متمرّسٌ في سياقة سيارته رباعية الدفع، وعندما يرى طائراً أو كائناً مرّ بالأرجاء يلاحقهُ بسرعةٍ، تجعل العراقيل من الأحجار والأشواك وشجر “الطلح” وهضبات الرمالِ نشازاً.. يتعداها بسهولة ليقترب ثم يطفئ المحرك لتبدأ عملية التصوير، في جوّ من المرح.
يحكي حميد أيت علي، صديق موحى، ونحن نتمشى بأراضي مرزوكة، طريفةً حين أراد موحى تعلّم التصوير قبل خمس سنوات، إذ إن العامة كانت تضحك وتستهزئ به وهو يحملُ الآلة، موردا: “يستغربون أن يختار موحى التّصويرَ كشغف في سنٍّ متأخرةٍ، والآن يطلبون منه أن يعلمهم بعد رؤية جمالية الصور التي ينتجها ومدى قدرتها على الإبلاغ والإخبار، فضلاً عن الاحترافية والإبداع”.
وهذا الأمر يؤكدهُ موحى، قائلاً بعربية متباطئةٍ: “تعلم التصوير كان رغبة جامحة تراودني منذ زمان عندما كنتُ أزور خيام الرحل، فأجد نباتات وحشرات كنتُ أصورها في البداية بالهاتف”، واستطرد وعيناهُ تنعكسان في مرآة السيارة وأنا أجلسُ في المقاعد الخلفية: “هكذا تولدت لدي إرادة قوية في اكتشاف جيوغرافيا المنطقة، وتكسير تلك الصورة النمطية التي يحملها سكان الداخل حولها، ومفادها أن الصحراء وفيافي أسامر تشملُ فقط الرمال والإبل والعقارب والأفاعي، في حين أن لدينا كائنات وطيورا لم يرها أحد من قبل أقوم بتصويرها، إلى درجة استغرب البعض واندهشوا هل فعلاً هذا متواجد في خلاء الجنوب الشرقي”.
وأضاف موحى وهو يقود سيارتهُ السوداء رباعية الدفع: “جل الطيور والكائنات موثقة بالعربية الفصحى، وأنا أسعى إلى توثيقها بالدارجة والأمازيغية، لأنها ملكٌ للمنطقة بالدرجة الأولى”.
حليمة بوصاديق، رئيسة الجمعية المغربية لمصوري الحياة البرية، تدلي بشهادة في حق زميلها موحى نوغو، عضو المكتب الوطني للجمعية، قائلةً: “إنهُ يقوم بتغطية احترافية ورائعة لمناطق الجنوب الشرقي، ويرافقُنا نحنُ أيضاً في تلك المناطق لأنه يحفظها جيداً، فهو بمثابة دليل يعرف خبايا الوحيش”، مضيفةً أنه “إنسان أخرج المنطقة للوجود، لاسيما بتوثيق ثروتها الحيوانية عن طريق الصورة، فالكتب تتحدث عن التنوع البيولوجي الذي تتمتع به المنطقة، ولكن لمسة موحى تكمنُ في مطاردة هذا التنوع بالفوتوغرافيا، وهذا يوضح اهتمامه وغيرتهُ على المنطقة”.
وزادت رئيسة الجمعية: “ليس من السهل بمكان تصوير الحياة البرية بمرزوكة والنواحي، لأن الظروف المناخية صعبة، مع حرّ اليوم وقوة الشمس، لأن المناخ صحراوي، وباعتبار الطيور التي نود تصويرها تنشط في البرية في وسط النهار، حيثُ الشمس الحارقة في كبد السماء، ولكن موحى يصبر ويثابر ويشتغل في ظروف قاهرة في الحقيقة، لأنهُ مصور صلبٌ ولا ينضب شغفهُ بالوحيش إطلاقاً”.
وأفادت المتحدثة بهدوءٍ تكشفه نبرة صوتها أن “الدليل على قوة صور موحى التوثيقية أن بعض صوره ستكونُ مشاركة في كتاب بصدد التأليف من طرف مجموعة من المختصين في علم الطيور سيصدر قريباً”، مردفة: “لا نخفي أنه فخر للجمعية يدعمها مادياً ومعنوياً، وبفضله تعرف الإخوان المصورون على الثروة الحيوانية الموجودة في تلك الفيافي؛ لهذا هو يطمح حتى لتغطية الثروة النباتية التي ينبغي توثيقها في الجنوب، حيثُ سيسهر هو والزميل مصطفى الحسيني على ذلك بالجنوب الشرقي”.
موحى رمزٌ للتواضع!
أثارت انتباهي نقطةٌ في شخصية موحى هي التزامه بأخلاق المنطقة واحترام حرمتها..بدا هذا واضحاً عندما أراد أن يقلب وجهةَ السيارة قرب ساقية بحي مولاي اسليمان بالريصاني، فاكتشف أن الأضواء الأمامية ستُسَلط على نساءٍ يجلسن أمام أبواب منازلهن، فاستمر للأمام حتى مكانٍ خال ثم بادر بالعملية.
بأقدامٍ أمازيغية شامخةٍ، ضاربةٍ في أعماق قبيلة أيت خبّاش، يمشي موحى بتواضعٍ قلّ نظيرهُ، ما جعل رفيق دربهِ يوسف أيت باحدو، الملقب ببوسو، يقولُ إنه شخصية متواضعة فريدة من نوعها، مضيفاً بحماسٍ يبدي عمق العلاقة بينهما: “أمضيت كثيراً من الوقت بجانب صديقي موحى في المقعد الأمامي للسيارة وفي الصحراء بشتى أنواع قسوة ظروفها بحثاً عن جمالها اللامنتهي، أدركت أن تواضعه البالغ جعلهُ الإنسان المناسب لنمط عيش الصحراء بصبره وجهده وإصراره وعدم الرضوخ حتى وصوله إلى الهدف”.
صاحبهُ بوسو يعودُ بعد سنوات من الفراق والعمل كل واحد من جهته.. عشية أن شاءت الأقدار أن يلتقي بموحى مرة أخرى للعمل سوياً من أجل الطبيعة ووحيشها وساكنيها، لاسيما الرحلّ في إطار العمل الجمعوي.
يحكي بوسو بثباتٍ: “أروع ما في شخصية صديقي أنه لا يتحدث بتاتاً في مواضيع الماديات ويعشقُ الزهد والبساطة والتواضع، ولا تجد على لسانه حديث فخر حول الماديات نهائياً.. كان يبهرني أنه يستغل الفكرة التي نحن بصدد العمل عليها ويهتم كثيراً بإيجاد الحلول لخدمة الآخرين”.
وزاد أيت باحدو بتمعنٍّ: “تعلمت الكثير من رزانته وأخلاقه الرفيعة، واستمعت إلى كل نصائحه حتى أمسى بمثابة الأخ الأكبر بالنسبة لي، وكنت قد افتقدت لكل هذه المعاملة عندما غبتُ لسنوات”، مردفاً وكأنه تذكر أمراً هاماً: “شيء جميلٌ يتمتعُ به موحى أنه يسكنه منطق الحوار ببرودة، بعيدا كل البعد عن الانفعال أو أي ردّ فعلٍ سلبيٍّ، حتى إن كلفه الأمر يوما شاقاً وكثير المتاعب، فهو صامدٌ وصابر”، ليخلص في الأخير: “شهادةُ حقٍّ أنه يغمره كثير من الحنان تجاه الأطفال والنساء اللائي يعشن في وضعية صعبة، إلى درجة أنه بادر بجمع شمل كثير من العائلات بإنجاز عقود زاوجها.. لا أخفي أحداً أنه الأب الصالح والحنون والصديق لعائلته الكبيرة والصغيرة.. لهُ أفكار مستقيمة في غالبيتها ومعقولة، محافظ ومتدين وفي نفس الوقت منفتح من كل الجوانب.. لا يبقى لي إلا أن أقول ‘الله اكثر متالو'”، والسعادةُ واضحة وكأنهُ أدى الشهادة بأمانة.
محمد أولفقير، أحد أفراد عائلة موحى، يشتغل في المأوى الذي يشرفُ عليهِ الأخير، يقولُ بابتهاج وسرعة تفوح منها ريحُ الامتنان: “إن موحى سندٌ للجميع، وهو حاضنُ للكل، ومتواضع، أتاه الكثير منا تحت الصفر في الخبرة، فرافقنا قليلاً بقليلٍ حتى تعلمنا كل شيء”، مضيفاً: “بتواضعه نحسهُ ليسَ رئيسنا في العمل، بل كأنه أبٌ لنا، وينطبقُ ذلك على كل العاملين، ويمكنك أن تسألهم واحداً واحداً.. ولا يطلبُ منا في المقابل أي شيء سوى احترام الزبائن ووضعهم في مرتبة اعتبارية، إيماناً منه بأن التعامل الجيد مع الشغيلة يدفعهم إلى التعامل الأجود مع الزبائن”، مشيراً بتأكيدٍ إلى أنه “رغم تعامله الجيد يتصفُ بكاريزما واضحة في ملامحه، فالكل يبدي نظير ذلك الاحترام بشكل تلقائي دون أن تحس أنه الرئيس في العمل، فهو يقول لنا حرفيا “أنا متحسبونيش باطرون، أنا غير صاحبكم”.. وهو لا يحب أن يقوم أحد بعمله مكانه، بل يشرف علينا بشكل شخصي ويواكب تطورنا وتحسن أدائنا في العمل بتواضع.”