تضمّ صورة الثّقب الأسود حلقةً مضيئة من الانبعاثات المحيطة بظلٍّ يتدفّق منه، وتتكون تلك الحلقة من مجموعة من الحلقات المتتإلىة الّتي تتّصل ببعضها بزوايا حادّة على نحوٍ متزايد، وتتوافق مع عدد المدارات الّتي اتّخذتها الفوتونات حول الثّقب الأسود قبل الوصول إلى الرّاصد على كوكب الأرض.حقوق الصّورة: George Wong (UIUC) and Michael Johnson
أثار تليسكوب أفق الحدث Event Horizon Telescope (EHT) في نيسان الماضي حماساً عالميّاً، بعدما كُشِفَ النقاب عن أوّل صورة للثّقب الأسود، ثم نشر فريق من الباحثين حسابات جديدة تتنبّأ بالبنية الأساسيّة المعقّدة والمدهشة داخل ثنايا صور الثّقب الأسود من انحناء الضّوء التثاقليّ الشّديد.
وفي هذا الصّدد، صرّح مايكل جونسون Michael Johnson من مركز الفيزياء الفلكيّة وهارفرد وسميثسونيان CFA قائلاً: “في الواقع، تحتوي صورة الثّقب الأسود على سلسلة حلقات متداخلة”، وأضاف قائلًا: “كلّ حلقة لها نفس قطر سابقتها تقريباً، لكنّها تصبح أكثر حدّة بفعل ضوءها الّذي يدور حول الثّقب الأسود عدّة مرّات قبل وصوله إلى الرّاصد، وبالتقاط تليسكوب أفق الحدث EHT لتلك الصّورة، فقد تمكنّا من إدراك لمحة بسيطة من التّعقيد الكامن والّذي يجب أن يظهر جليّاً في أيّة صورة للثّقب الأسود.”
ولأنّ الثّقوب السّوداء تقوم بأسر الفوتونات العابرة لأفق الحدث، فإنّها تتسبّب بتكوين ظلٍّ لانبعاثاتها المحيطة المشعّة النّاجمة عن الغازات السّاخنة السّاقطة تجاه الثّقب الأسود، وتطوِّق “الحلقة الفوتونيّة Photon ring هذا الظّلّ المتكوِّن من قِبَل الضّوء المركَّز بفعل الجاذبيّة القويّة قُرب الثّقب الأسود، لتحمل الحلقة الفوتونيّة بصمة الثّقب الأسود (حجمه وشكله اللذان يحدّدان كتلته ومعدّل دورانه) لذا، فباستخدام تلك الصّور الملتقطة من قِبَل EHT أصبح لدى باحثي الثّقوب السّوداء أداةٌ جديدة لدراسة هذه الأجرام الاستثنائيّة.
وصرّح دانيل كابيك Daniel Kapec من معهد الدّراسات المتقدّمة، قائلًا: “إنّه لَوقت شيّق ومناسب للغاية للتّفكير بشأن فيزياء الثّقوب السّوداء”. واستطرد قائلاً: “تقدّم نظريّة أينشتاين للنسبيّة العامّة عدداً من التنبّؤات اللّافتة للنّظر حول أصناف الأجسام المرصودة الّتي أصبحت في متناول أيدينا مؤخّراً، وأعتقد أنّه بإمكاننا المُضيّ قُدُماً نحو الكثير من التّطورات في السّنوات القادمة، ومن حيث النّظرية، أرى أنّ التّوافق السّريع بين النّظريّة والتّجربة هو أمر مثمر للغاية على نحوٍ خاص، كما آمل أن نستطيع الاستمرار في عزل ودراسة تنبّؤات كتلك بشكل أكثر شموليّة للنسبيّة العامّة، لتكون هذه التجارب أكثر حساسيّة“.
يلقى الثّقب الأسود بظلّه على الصّورة المكوّنة من المواد المشعّة المحيطة، وذلك بسبب جاذبيّته القويّة للغاية، والّتي يمكنها أن تقوم بأسر وثني الضّوء، هذا الظّلّ محاطٌ بحلقة ضوئيّة مشعّة مكافئة لعدد الفوتونات الّتي تمرّ على مقربة من الثّقب الأسود قبل ابتعادها، والجدير بالذكر أنّ هذه الحلقة هي عبارة عن سلسلة حلقات متتإلىة حادة على نحوٍ متزايد، عدد هذه الحلقات (n-th) يكافيء عدد الفوتونات الّتي تدور حول الثّقب الأسود مقسومة على 2 (n/2) قبل وصولها إلى الرّاصد، ويُظهر هذا الفيديو كيفيّة تكوّن صورة الثّقب الأسود من هذه الحلقات المتتإلىة، إضافة إلى مسار الفوتونات الّتي تشكِّل الصّورة. حقوق الفيديو: Centre for Astrophysics، Harvard & Smithsonian
تجدر الإشارة إلى أنّ الفريق البحثيّ يتكوّن من مجموعة من العلماء في الفلك والفيزياء النّظريّة والفيزياء الفلكيّة، وحول ذلك أشار جورج وونغ George Wong طالب الدّراسات العليا في مجال الفيزياء في جامعة إلىنوي في إربانا شامبين: “من خلال التّعاون بين الخبراء في مختلف المجالات، تمكّنّا من ربط الفهم النظريّ للحلقة الفوتونيّة مع ما تمت ملاحظته بالعمليّات الرّصديّة”. وونغ كان قد طوّر برنامجاً لإنتاج صورٍ ومحاكاةٍ للثّقب الأسود بدقة أعلى من تلك الّتي تمّت حَوسبتها سابقاً، ومن ثمّ تفكيكها إلى سلسلة متوقّعة من الصّور المتتإلىة، وتعليقاً على هذا الأمر قال: “تلك الحسابات الّتي جرت بالطّريقة التّقليديّة في بداية الأمر، مكّنتنا من دفع عملية المحاكاة إلى حدودٍ جديدة“.
إلى جانب ذلك، وجد الباحثون أنّ البنية الأساسيّة لصور الثّقب الأسود تُشكِّل احتمالات جديدة لرصد ثقوبٍ سوداءَ أخرى، وحول ذلك عقّب جونسون قائلاً: “ما فاجأنا حقاً، أنّ هذه الحلقات المتتإلىة المتداخلة دقيقةٌ جدّاً، الأمر الّذي يحول بيننا وبين رؤيتها بالعين المجرّدة في الصّور، وحتّى في الصّور فائقة الدّقّة، إلّا أنّها تمثّل إشارات واضحة وقويّة إلى مصفوفات التليسكوبات الّتي تُدعى (مقاييس التّداخل)، وأضاف قائلاَ: “في حين أنّ التقاط صورٍ لثقب أسود يتطلّب عدّة تليسكوبات موزّعة، إلّا أنّ الحلقات المتتإلىة تتطلّب تلسكوبين بعيدين عن بعضهما فقط لدراستها، فإضافة تليسكوب آخر إلى تليسكوب أفق الحدث سيكون كافياً“.
وفي تصريحه، قال إلىكس لوبساسكا Alex Lupsasca من جمعيّة الزّملاء بجامعة هارفارد: “لطالما كانت فيزياء الثّقوب السّوداء مادّة جميلة ذات آثارٍ نظريّة عميقة، لكنها أصبحت الآن علماً تجريبيّاً أيضاً”. وتابع: “وبصفتي كعالم نظريّ، يسرُّني بالنّهاية أن أجمع بيانات حقيقيّة عن هذه الأجسام الّتي كنّا ندرسها من النّاحية النّظريّة لفترة طويلة.”
نُشرت النّتائج في دوريّة Science Advances.