حقوق الصورة: shutterstock
بقلم إيريكا كلاريتش Erica Klarreich، حاصلة على درجة الدكتوراه في الرياضيات من جامعة ستوني بروك وخريجة برنامج الاتصال العلمي في جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز.
تعود حقوق الرسوم التوضيحية غير الموصوفة إلى لوسي ريدينج-إكاندا Lucy Reading-Ikkanda.
في أذهاننا، يبدو أن الكون يمتد إلى مالانهاية. لكن باستخدام الهندسة، يمكننا استكشاف مجموعةٍ متنوعةٍ من الأشكال ثلاثية الأبعاد التي تقدم بدائل للفضاء اللانهائي “العاديّ”.
عندما تُحدق في سماء الليل، يبدو أنّ الفضاء يمتد إلى مالانهاية في جميع الاتجاهات. هذا هو نموذجنا العقلي للكون، لكنه ليس صحيحاً بالضّرورة. مضت علينا فترةٌ من الماضي، عندما اعتقد الجميع أنّ الأرض مسطحة، لأنّ انحناء كوكبنا كان خفيفاً للغاية لدرجةٍ منعتنا من كشفه في ذلك الوقت وبالتالي كانت فكرة الأرض الكرويّة غير قابلةٍ للقياس.
اليوم، نحن نعلم أنّ شكل الأرض كرويٌّ إلى حدٍ كبير. لكن معظمنا لا يفكر كثيراً بشكل الكون. مثلما استبدل الشكل الكرويّ فكرة الأرض المسطحة، تقدم الأشكال الأخرى ثلاثية الأبعاد بدائل للفضاء اللانهائي “العاديّ”.
يمكننا طرح سؤالين منفصلين ولكن مترابطين حول شكل الكون. الأول عن هندسته: أي القياسات المحلية الدقيقة لأشياء مثل الزوايا والمساحات. والآخر يتعلق بطوبولوجية الكون: أي كيف ترتبط هذه الخصائص المحلية معاً لتنتج شكلاً شاملاً.
تقترح الأدلة الكونية أنّ الجزء الكوني الذي نراه هو سلسٌ ومتجانس، على الأقل بشكلٍ تقريبي. يبدو النسيج المحلي للفضاء متشابهاً إلى حدٍ كبير في كل نقطةٍ وفي كل اتجاهٍ نرصده. تتناسب ثلاث أشكالٍ هندسية فقط مع هذا الوصف: الهندسة المستوية والكرويّة والزائديّة. فلنستكشف هذه الأشكال الهندسية مع بعض الاعتبارات الطوبولوجية وما تشير إليه الأدلة الكونية عن الأشكال التي تصف كوننا على أفضل وجه.
الهندسة المستوية
هذه هي الهندسة التي تعلمناها في المدرسة. على سبيل المثال، يساوي مجموع زوايا المثلث 180 درجة، ومساحة الدائرة هي πr2. أبسط مثالٍ على شكلٍ مستوٍ ثلاثي الأبعاد هو الفضاء اللانهائي العاديّ – أو ما يسميه علماء الرياضيات الفضاء الإقليديّ – لكن هناك أشكالٌ مستويةٌ أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار أيضاً.
يصعب تصور هذه الأشكال، ولكن يمكننا تخيلها من خلال التفكير ببعدين بدلاً من ثلاثة. بالإضافة إلى المستوى الإقليديّ العاديّ، يمكننا إنشاء أشكالٍ مستويةٍ أخرى عن طريق قصّ بعض أجزاء ذلك المستوى ولصق حوافها معاً. على سبيل المثال، لنفترض أننا قمنا بقصّ شكلٍ مستطيلٍ من الورق ولصقنا حوافه المتقابلة. فإذا لصقنا حوافه العلوية والسفلية، سنحصل على أسطوانة:
بعد ذلك، يمكننا لصق الحواف اليُمنى واليُسرى للحصول على شكل كعكة الدونات (أو ما يسميه علماء الرياضيات بالطّارة torus):
الآن، قد تعتقد أنّ “هذا لا يبدو مستوياً بالنسبة لي.” وهذا صحيح. لقد غششنا قليلاً في وصف الطّارة المتسوية. إذا حاولت فعلاً صنع طارةٍ من ورقةٍ مستويةٍ بهذه الطريقة، فستواجه صعوبات. سيكون صنع الأسطوانة أمراً سهلاً، ولكنك لن تنجح في لصق نهايتي الأسطوانة: إذ ستتجعد الورقة على طول الدائرة الداخلية للطّارة، ولن تتمدد بما يكفي على طول الدائرة الخارجية. سيتعين عليك استخدام بعض المواد القابلة للتّمدد بدلاً من الورق. لكن هذا التمدد سيشوه الأطوال والزوايا، وسيغير الشكل الهندسي.
داخل الفضاء العاديّ ثلاثي الأبعاد، لا توجد طريقة لبناء طارةٍ فعليةٍ وسلسة من مواد مستوية دون تشويه شكلها الهندسي المستوي. لكن يمكننا التفكير بشكلٍ تجريديّ حول طبيعة العيش داخل طارةٍ مستوية.
تخيل أنك كائنٌ ثنائي الأبعاد يعيش في كون على شكل طارةٍ مستوية. نظراً لأنّ هندسة هذا الكون تنبع من ورقةٍ مستوية، ستبقى جميع الحقائق الهندسية التي اعتدنا عليها كما هي، على الأقل على نطاقٍ صغير: فمثلاً، مجموع زوايا مثلث سيبقى مساوياً لـ 180 درجة، وهكذا. لكنّ التغييرات التي أجريناها على الطوبولوجيا العالمية للكون، عن طريق قصّ الورقة ولصقها، تعني أنّ تجربة العيش في هذه الطارة ستبدو مختلفةً كثيراً عمّا اعتدنا عليه.
هناك ثلاث مساراتٍ مستقيمة على الطّارة تبدأ وتنتهي من نفس النقطة:
تبدو هذه المسارات منحنيةً على الطّارة المُشوهة، ولكن سكان الطّارة المستوية سيشعرون أنّها مستقيمة. وبما أنّ الضوء ينتقل في مساراتٍ مستقيمة، فإذا نظرت إلى الأمام مباشرةً في إحدى هذه الاتجاهات، فسوف ترى نفسك من الخلف:
على الورقة الأصلية، يبدو الأمر كما لو أنّ الضوء الذي تراه انتقل من خلفك حتى وصل إلى الحافة اليُسرى، ثم ظهر مرةً أخرى من الحافة اليُمنى، كما لو كنت في لعبة فيديو ملفوفة:
للتّفكير بذلك بطريقةٍ أخرى مماثلة، تخيل لو أنّ شعاعاً من الضوء سافر عبر إحدى الحواف الأربعة للورقة، فسيعود للظهور مرةً أخرى في ما يبدو أنه “غرفةٌ” جديدة، ولكنها في الواقع نفس الغرفة، لكن من وجهة نظرٍ مختلفة. عندما تتجول في هذا الكون، يمكنك العبور إلى مجموعةٍ لانهائيةٍ من النسخ من تلك الغرفة الأصلية.
هذا يعني أنه يمكنك أيضاً رؤية عددٍ لانهائي من النسخ المختلفة لنفسك من خلال النظر في اتجاهاتٍ مختلفة. هذا يبدو كتأثير المرايا، باستثناء أن تلك النسخ ليست انعكاسات:
على الشكل الهندسي لكعكة الدونات، يشير ذلك إلى الحلقات المتعددة المختلفة التي يمكن للضوء أن ينتقل عبرها رجوعاً إليك:
بالمثل، يمكننا بناء طارةٍ مستويةٍ ثلاثية الأبعاد عن طريق لصق الأوجه المتعاكسة لمكعبٍ أو صندوق. لا يمكننا تصوّر هذه الفضاء كجسمٍ داخل فضاءٍ لانهائيٍ عاديّ – فهو ببساطةٍ غير ملائم – ولكن يمكننا التفكير بشكلٍ تجريدي في طبيعة الحياة داخله.
مثلما كانت الحياة في الطّارة ثنائية الأبعاد مثل العيش في مجموعةٍ لانهائيةٍ ثنائية الأبعاد من الغرف المستطيلة المتطابقة، تشبه الحياة في طارةٍ ثلاثية الأبعاد العيش في مجموعةٍ لانهائيةٍ ثلاثية الأبعاد من الغرف المكعبة المتطابقة. سترى نسخاً لانهائية من نفسك:
الطّارة ثلاثية الأبعاد هي إحدى العوالم الـ 10 المستوية المختلفة والمحدودة. هناك أيضاً عوالم لانهائية مستوية مثل النظير ثلاثي الأبعاد للاسطوانة اللانهائية. في كلّ واحدٍ من هذه العوالم، هناك مجموعةٌ مختلفة من المرايا لتجربتها.
هل كوننا هو إحدى هذه الأشكال المستوية الأخرى؟
عندما ننظر إلى الفضاء، لا نرى عدداً لانهائياً من النسخ عن أنفسنا. ومع ذلك، من الصعب بشكلٍ مدهشٍ استبعاد هذه الأشكال المستوية. فلإحدى الأسباب، تتمتع جميعها بنفس الهندسة المحلية للفضاء الإقليديّ، لذلك لا يمكن للقياسات المحلية التمييز بينها.
وإذا رأيت نسخةً من نفسك، فإنّ تلك الصورة البعيدة ستظهر حالتك (أو حالة مجرتك، على سبيل المثال) كما كانت في الماضي البعيد، لأنّ الضوء استغرق وقتاً طويلاً للوصول إليك. ربما نحن نرى نُسخاً من أنفسنا لا يمكننا التعرف عليها. وما يزيد الأمر سوءاً، عادةً ما ستكون النسخ المختلفة من نفسك موجودةً على مسافةٍ مختلفةٍ عنك، لذا لن تبدو معظمها متشابهةً لبعضها. وربما هذه النسخ بعيدةٌ جداً لدرجةٍ تمنعنا من رصدها أصلاً.
لتفادي هذه الصعوبات، لا يبحث علماء الفلك عموماً عن نسخٍ من أنفسنا بل عن خصائص متكررة في أبعد شيء يمكننا رصده: إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB) الذي خلّفه الكون بعد فترةٍ قصيرة من الانفجار العظيم. من الناحية العملية، هذا يعني البحث عن أزواجٍ من الدوائر في الخلفية الكونية تحتوي على أنماطٍ متطابقةٍ من البقع الساخنة والباردة، التي تشير إلى أنها نفس الدائرة كما تُرى من اتجاهين مختلفين.
في عام 2015، أجرى علماء الفلك بحثاً مشابهاً باستخدام بياناتٍ من تلسكوب بلانك الفضائي. قاموا بتفصح البيانات بحثاً عن أنواع الدوائر المطابقة التي نتوقع رؤيتها داخل طارةٍ مستوية ثلاثية الأبعاد أو شكلٍ مستوٍ ثلاثي الأبعاد آخر يسمى صفيحة slab، لكنهم فشلوا في العثور عليها. هذا يعني أنه إذا كنا نعيش فعلاً في كونٍ على شكل طارة، فهو على الأرجح كبيرٌ جداً لدرجة أن الأنماط المتكررة تقع خارج إطار الكون المرصود.
الهندسة الكرويّة
إنّ الكرات ثنائية الأبعاد مألوفةٌ لنا جميعاً – على سبيل المثال، سطح الكرة، أو حبة البرتقال، أو كوكب الأرض. لكن ماذا يعني أن يكون كوننا كرةً ثلاثية الأبعاد؟
من الصعب تصوّر كرةٍ ثلاثية الأبعاد، ولكن من السهل تعريف واحدةٍ من خلال تشبيهٍ بسيط. مثلما تُعرّف الكرة ثنائية الأبعاد على أنها مجموعة النقاط الواقعة على مسافةٍ ثابتةٍ من نقطةٍ مركزيةٍ في الفضاء العاديّ ثلاثي الأبعاد، فإنّ الكرة ثلاثية الأبعاد (أو “الكرة الثلاثية”) هي مجموعة النقاط الواقعة على مسافةٍ ثابتةٍ من من نقطةٍ مركزيةٍ في الفضاء رباعي الأبعاد.
ستبدو الحياة في الكرة الثلاثية مختلفةً كثيراً عن الحياة في الفضاء المستوي. للشّعور بذلك، تخيل أنك كائنٌ ثنائي الأبعاد تعيش في كرةٍ ثنائية الأبعاد. تلك الكرة ثنائية الأبعاد هي الكون بأكمله – لا يمكنك رؤية أو الوصول إلى الفضاء ثلاثي الأبعاد المحيط بك. في هذا الكون الكرويّ، ينتقل الضوء على طول أقصر مسارٍ ممكن: أي الدوائر الكبيرة المحيطة بالكون. بالنسبة لك، تبدو هذه الدوائر الكبيرة وكأنها خطوطٌ مستقيمة.
تخيل الآن أنك موجودٌ مع صديقك ثنائي الأبعاد في القطب الشمالي للكرة، ثم تخيل أنّ صديقك بدأ بالمشي. مع انتقال صديقك بعيداً عنك، سيبدأ حجمه المرئي في دائرة نظرك بالتقلّص شيئاً فشيئاً مع ابتعاده، تماماً كما هو الحال في عالمنا العاديّ (على الرغم من أنّ حجمك لن يتقلص بالسرعة التي اعتدنا عليها). ذلك لأنه مع نمو دائرة نظرك، سيشغل صديقك حيزاً فيها ذي نسبةٍ أقل:
لكن بمجرد أن يمرّ صديقك عبر خط الاستواء، سيحدث شيءٌ غريب: سيبدأ حجم صديقك المرئي بالزّيادة كلما ابتعد عنك. ذلك نتيجة زيادة النسبة التي يشغلها في دائرة نظرك:
عندما يصبح صديقك على بُعد 10 أقدامٍ من القطب الجنوبي، سيبدو حجمه مماثلاً لحجمه عندما كان على بُعد 10 أقدامٍ منك:
وعندما يصل صديقك إلى القطب الجنوبي، ستتمكن من رؤيته في كل الاتجاهات، إذ سيملأ كامل الأفق المرئي الخاص بك:
إذا لم يكن هناك أحدٌ في القطب الجنوبي، فترى في أفقك المرئي شيءً أكثر غرابة: نفسك. ذلك لأنّ الضوء المُنبعث منك سيسافر على طول الكرة حتى يعود إليك.
هذا ينطبق مباشرةً على الحياة في الكرة ثلاثية الأبعاد. كلّ نقطةٍ على الكرة الثلاثية لها نقطةٌ مقابلة، وإذا كان هناك شيء عند تلك النقطة، فسنراه كخلفيةٍ كاملة، كما لو أنه غطّى السماء بأكملها. إذا لم يكن هناك أي شيء، فسنرى أنفسنا كالخلفيةٍ بدلاً من ذلك، كما لو تم عرض شكلنا الخارجي على بالون، ثم جرى قلبه من الداخل للخارج ونفخه ليملأ الأفق بأكمله.
في حين أنّ الكرة الثلاثية هي النموذج الأساسي للهندسة الكرويّة، فهي ليست الفضاء الهندسي الكرويّ الوحيد. تماماً مثلما قمنا ببناء فضاءاتٍ مستويةٍ مختلفة عن طريق قصّ أجزاءٍ من الفضاء الإقليديّ ولصقها معاً، يمكننا بناء فضاءاتٍ كروية عن طريق لصق جزءٍ مناسب من الكرة الثلاثية. سيكون لكل من هذه الأشكال المُلتصقة تأثير المرايا الخاص بها، كما هو الحال مع الطّارة، لكن في هذه الأشكال الكرويّة، يوجد عددٌ محدودٍ من الغرف للتنقل عبرها.
هل كوننا كروي؟
حتى أكثر الأشخاص نرجسيةً بيننا لا يرى نفسه كخلفيةٍ لسماء الليل بأكملها. لكن كما هو الحال مع الطّارة المستوية، لا يعني عدم رؤيتنا لظاهرةٍ معينة استحالة وجودها في الحقيقة. قد يكون محيط الكون الكرويّ أكبر من الكون المرصود، مما يجعل الخلفية بعيدةً جداً بحيث لا يمكننا رؤيتها.
لكن على عكس الطّارة، يمكن كشف الكون الكرويّ من خلال القياسات المحلية البحتة. لا تختلف الأشكال الكرويّة عن الفضاء الإقليديّ اللّانهائي في طوبولوجيتها العالمية فحسب، بل أيضاً في هندستها الدقيقة. على سبيل المثال، فلأنّ الخطوط المستقيمة في الهندسة الكرويّة هي عبارةٌ عن دوائر كبيرة، تظهر المثلثات أكثر انتفاخاً من نظيراتها الإقليديّة، ويساوي مجموع زواياها أكثر من 180 درجة:
في الواقع، يُعدّ قياس المثلثات الكونية طريقةً أساسيةً يستخدمها علماء الكونيات لاختبار ما إذا كان الكون مُنحنياً. لكلّ بقعةٍ ساخنةٍ أو باردةٍ في الخلفية الكونية، يقيس العلماء قطرها وبعدها عن الأرض، مما يُشكل الأضلاع الثلاث للمثلث. يمكننا قياس الزاوية التي تشغلها البقعة في سماء الليل – التي هي إحدى الزوايا الثلاث للمثلث. ثم يمكننا التحقق ما إذا كانت أطوال أضلاع المثلث وقيمة زواياه تتوافق مع الهندسة المستوية أو الكرويّة أو الزائديّة (حيث يساوي مجموع زوايا المثلث أقل من 180 درجة).
تشير معظم هذه الاختبارات، إلى جانب قياساتٍ أخرى لانحناء الكون، إلى أنّ الكون مستويٌ أو قريبٌ جداً الاستواء. مع ذلك، اقترحت إحدى فرق البحث مؤخراً أنّ بعض البيانات الصادرة عام 2018 من تلسكوب بلانك الفضائي تشير بدلاً من ذلك إلى أنّ الكون كرويّ، على الرغم من أنّ الباحثين الآخرين عارضوا هذا الدليل باعتباره ضربة حظٍّ إحصائيةٍ على الأرجح.
الهندسة الزائديّة
على عكس الهندسة الكرويّة، الذي تنحني على نفسها إلى الداخل، تنحني الهندسة الزائديّة إلى الخارج، مثل القبعات المرنة والشعاب المرجانية وسروج الأحصنة. يُعتبر الامتداد غير النهائي النموذج الأساسي للهندسة الزائديّة، تماماً مثل الفضاء الإقليديّ المستوي. لكن نظراً لأنّ الهندسة الزائديّة تمتد إلى الخارج بسرعةٍ أكبر بكثير من الهندسة المستوية، فلا توجد طريقةٌ لملائمة حتّى المستوى الزائديّ ثنائي الأبعاد داخل الفضاء الإقليديّ العاديّ ما لم نقم بتشويه هندسته. في الصورة التالية على سبيل المثال، يمكنكم رؤية الشكل المُشوه للمستوى الزائديّ المعروف باسم قرص بوانكاريه Poincaré disk:
من منظورنا، تبدو المثلثات القريبة من الدّائرة المحيطية أصغر بكثير من المثلثات القريبة من المركز، ولكن من منظور الهندسة الزائديّة، تكون جميع المثلثات بنفس المساحة. إذا حاولنا بالفعل جعل المثلثات تمتلك نفس المساحة – ربما باستخدام مادة قابلة للتمدد لصناعة القرص الخاص بنا بزيادة مساحة كلّ مثلثٍ من المركز نحو الخارج – سيبدو القرص مشابهاً للقبعة المرنة وسوف يلتوي أكثر فأكثر أثناء توجهنا نحو الخارج. مع اقترابنا من الحدود الخارجية للدّائرة المحيطية، سيخرج هذا الإلتواء عن السيطرة.
من وجهة نظر الهندسة الزائديّة، فإنّ الدّائرة المحيطية بعيدةٌ لدرجةٍ لانهائية عن أيّ نقطةٍ داخلية، إذ يتعين عليك عبور عددٍ لانهائي من المثلثات للوصول إلى هناك. لذا فإنّ المستوى الزائديّ يمتد إلى مالانهاية في جميع الاتجاهات، تماماً مثل المستوى الإقليديّ. ولكن فيما يتعلق بالهندسة المحلية، تختلف الحياة في المستوى الزائديّ اختلافاً كبيراً عما اعتدنا عليه.
في الهندسة الإقليديّة العاديّة، يتناسب محيط الدائرة تناسباً طردياً مع نصف قطرها، لكن في الهندسة الزائديّة، يزداد المحيط بمعدّلٍ أسّي مع نصف القطر. يمكننا أن نرى هذا التراكم الأسّي في مجموعة المثلثات بالقرب من الحدود الخارجية للقرص الزائديّ.
بسبب هذه الميزة، من السهل أن تضيع في الفضاء الزائديّ، كما يحب أن يقول علماء الرياضيات. إذا ابتعد صديقك عنك في الفضاء الإقليديّ العاديّ، سيتقلص حجمه شيئاً فشيئاً، ولكن ببطء، لأنّ دائرة نظرك لا تنمو بسرعةٍ كبيرة. لكن في الفضاء الزائديّ، تنمو دائرة نظرك بمعدّلٍ أسّي، لذا سيتقلص حجم صديقك المرئي بنفس المعدّل حتى يصبح نقطةً صغيرة. وإذا لم تتبع مسار صديقك بعناية، فسيكون من المستحيل تقريباً معرفة طريقك إليه لاحقاً.
كما أنّ مجموع زوايا المثلث هو أقل من 180 درجة في الهندسة الزائديّة – على سبيل المثال، يبلغ مجموع زوايا المثلثات المكونة لقرص بوانكاريه 165 درجة:
لا تبدو جوانب هذه المثلثات مستقيمة، لكن هذا لأننا ننظر إلى الهندسة الزائديّة من خلال عدسةٍ مشوهة. بالنسبة لسكان قرص بوانكاريه، فإنّ هذه المنحنيات هي خطوطٌ مستقيمة، لأنّ أسرع طريقة للانتقال من النقطة A إلى النقطة B هي أخذ طريقٍ مُختصرٍ نحو المركز:
هناك طريقة طبيعية لعمل هندسةٍ مشابهة ثلاثية الأبعاد لقرص بوانكاريه – ببساطة، قم بصناعة كرةٍ ثلاثية الأبعاد واملأها بأشكالٍ ثلاثية الأبعاد يصغر حجمها مع اقترابها من الكرة الحدودية، مثل المثلثات في قرص بوانكاريه. وكما هو الحال مع الهندستين المستوية والكرويّة، يمكننا عمل مجموعةٍ متنوعةٍ من الفضاءات الزائديّة ثلاثية الأبعاد الأخرى من خلال قصّ جزءٍ مناسبٍ من الكرة الزائديّة ثلاثية الأبعاد ولصق وجوهها معاً.
هل كوننا زائديّ؟
لا يبدو أنّ الهندسة الزائديّة، بمثلثاتها الضيقة ودوائرها النامية بمعدّلٍ أسّي، تتناسب مع هندسة الفضاء في الكون من حولنا. وبالفعل، كما رأينا، يبدو حتى الآن أنّ معظم القياسات الكونية تفضل الكون المستوي.
لكن لا يمكننا استبعاد احتمال أننا نعيش في كونٍ كرويٍّ أو زائديّ، لأنّ القطع الصغيرة من كِلا العالمين تبدو مستويةً تقريباً. على سبيل المثال، تمتلك المثلثات الصغيرة في الهندسة الكرويّة زوايا ذات مجموعٍ يزيد قليلاً فقط عن 180 درجة، والذي يقلّ قليلاً فقط عن 180 درجة في الهندسة الزائديّة.
هذا هو السبب اعتقاد الناس الأوائل أنّ الأرض مسطحة – فعلى المقاييس التي تمكنوا من رصدها، كان انحناء الأرض ضئيلاً جداً لدرجةٍ حالت دون اكتشافه. كلما كبِر الشكل الكرويّ أو الزائديّ، زاد استواء القطع الصغيرة الخاصة به، فإذا كان كوننا ذو شكلٍ كرويٍّ أو زائديٍّ كبيرٍ جداً، فإنّ الجزء الذي يمكننا رصده قد يكون مستوياً جداً بالنسبة لنا لدرجةٍ لا تمنعنا كشف انحنائه إلا عن طريق أدواتٍ دقيقة للغاية لم نخترعها بعد.