البشير واكين واحد من أهم الممثلين المغاربة الذين احترفوا التمثيل وعشقوه منذ نعومة أظافره، عُرف بمشاركته في عدد كبير من الأعمال الفنية بين أفلام تلفزيونية، وسينمائية، وسيتكومات، ومسلسلات… داخل المغرب وخارجه، وطبع الشاشة المغربية بطابعه الخاص.

في هذه الدراسة التحليلية، سنحاول أن نتتبَّع مسار انتقال واكين من الكوميديا إلى الدراما، مركزين على تحليل واحد من أقوى الأعمال التي شارك فيها ووسمها بأسلوبه التمثيلي القوي؛ وأقصد بذلك مسلسل قضية العمر.

البشير واكين.. من الكوميديا إلى الدراما

بمجرد ذكر اسم الممثل البشير واكين، تقفز إلى الذهن عناوين مجموعة من الأعمال؛ مثل: مبارك ومسعود، وعائلة محترمة جدا، ودار الورثة… وغيرها كثير. وهي أعمال في مجملها كوميدية، تعتمد على الإضحاك من خلال المواقف، والحوارات، والتلميحات. لهذا، فقد ترسَّخ في ذهن المشاهد المغربي أن واكين ممثل كوميدي؛ غير أن الواقع يَشِي بغير هذا، فقد بدأ التحول في المسار الفني لهذا المبدع منذ الفيلم السينمائي “السيمفونية المغربية” (من إخراج كمال كمال سنة 2006).

جسَّد واكين في هذا الفيلم دور كنابري يسمى “بيس”، لا علاقة له بعالم الموسيقى الحقيقية؛ ولكنه بحسه الفني النقي استطاع المشاركة في تلك السيمفونية التي كان يطمح إلى تأديتها حفْنَة ممَّن كان يُنْظَر إليهم بوصفهم مشردين ومهمشين. ابتدأ دور واكين في هذا الفيلم كوميديا؛ غير أنه تطور وانتهى دراميا، فكان ذلك بمثابة الإعلان عن خروج موهبة درامية من معطف واكين، تنضاف إلى مؤهلاته الكوميدية.

سيتدعَّم هذا التحول من خلال تجسيده لشخصية “رضوان” في الفيلم التلفزيوني “الركراكية” (من إخراج كمال كمال سنة 2009)، حيث سيفرض عليه أَخَوَا فتاة يحبها أن يتزوج بها تحت طائلة التهديد والضرب والجرح؛ غير أنه سيعيش وضعا مأساويا عندما سيصاب بمرض خطير في الكبد، سيجعله طريح الفراش، وسيجبر زوجته على الخروج إلى العمل ومجابهة الواقع الأليم. تمثلت قوة تجسيد دور “رضوان” في قدرة واكين على تطويع تعابير وجهه للتّعبير عن المأساة التي تُعانيها الشخصية؛ وهو ما جعلها محل تعاطف المتلقي.

ولا ننسى مشاركته المتميزة، قبل هذا وذاك، في مسلسل “جنان الكرمة” (من إخراج فريدة بورقية سنة 2001)، في تأديته لدور “علال التدلاوي” المخبول الحكيم في الآن نفسه؛ غير أن النقلة النوعية، في نظري، كانت من خلال مشاركته المتميزة والوازنة في مسلسل “قضية العمر” (من إخراج مراد الخودي سنة 2019)، والذي جسد فيه دور “ميلود”، اليد اليمنى لرجل الأعمال “ناصر البرهومي”. شخصية أبان من خلالها الممثل عن مهارة في الأداء، وحرفية في التشخيص، وقدرة غير عادية على الاندماج في دور درامي صرف. فمن يتابع حلقات المسلسل سيُساوره لا محالة سؤال: هل البشير واكين، الممثل الكوميدي، هو الذي يجسد هذا الدور المُغرق في الدرامية؟ وهنا مكمن قوة حضوره في هذا المسلسل.

وبالنظر إلى أهمية هذا الدور ومحوريته في المسار الفني للمثل، فسنفرد له باقي مكونات هذا التحليل، حتى نتعمق في فهم الشخصية، ونقترب من الكيفية التي تمكَّن عبرها الممثل من الخروج من عباءة الكوميدية لارتداء بذلة الدراما.

شخصية “ميلود” في مسلسل قضية العمر :

  1. رمزية الاسم: “ميلود”

على الرغم من الاختلاف حول دلالات اسم “ميلود”، بين من يقول إنها مشتقة من “ميلوديا” اليونانية بمعنى “الغناء”، ومن يراها ترتبط بالمولد النبوي الشريف، ومن يعتبرها مرادفا لكلمة “صغير”، فإنني أراه ـــ تبعا لسياق المسلسل وسيرورة أحداثه ـــ يرتبط أكثر بمعنى “الميلاد”؛ أو الولادة الجديدة.

لا نتحدث هنا، بطبيعة الحال، عن الولادة الطبيعية، بل عن الولادة الرمزية؛ فـ “ميلود” الشخصية الروائية/ الفنية لم تجد لنفسها موقعا في العالم إلا بفضل “ناصر البرهومي” الذي انتشلها من الضياع، ومن عالم الإجرام السفلي. آنذاك، أطلق “ميلود” صرخته الأولى في عالم الكبار؛ عالم رجال الأعمال والمال. وكأنه بذلك خرج من العالم السفلي المظلم (تحت الأرض)، إلى عالم علوي منير (عالم “ناصر البرهومي”)، فاعتبر نفسه محظوظا لذلك.

وما دام اسم “ميلود” يرتبط بالميلاد؛ فهو يقتضي مظاهر الفرح والسرور والأمل والتطلع إلى غد مشرق؛ غير أن مسار الأحداث يجعلنا نفهم أن “ميلود” الشخصية كان طيلة المسلسل على النقيض من كل هذه الصفات؛ فقلَّما نراه مبتسما، كما أنه لا يرى في الحياة إلا شيئين اثنين في الظاهر: خدمة سيده، ومراكمة المال لتأمين نفسه من المجهول.

وعلى هذا الأساس، يكون “ميلود” هو الابن الرمزي لشخصية “ناصر البرهومي”؛ غير أنه ــــ كما سنرى ــــ لم يكن ابنا بارًّا.

2. مسار تطور الشخصية:

بتحليلنا لمسار تطور شخصية “ميلود” يمكن أن نميز فيها بين مستويات عديدة متمايزة ومتداخلة في الآن نفسه. شخصية يمكن أن نصفها بالتالي: شخصية تحاكي “جبل الجليد العائم”.

أ‌- على المستوى الظاهري: “الخادم الوفي”

منذ أول ظهور لشخصية “ميلود” رفقة “ناصر البرهومي”، فهمنا أنه بمثابة ظله الذي يأتمر بأوامره، ويسهر على تنفيذ كل ما يصدر عنه. نموذج نمطي للخادم الوفي لرجل أعمال غني؛ بحيث إنه لا يترك فرصة تمر بدون أن يعطي لسيده الانطباع بأنه ليس خادما فقط، بل إنه جزء منه، عنصر لا يمكن البتة الاستغناء عنه أو التفكير ـــ مجرد التفكير ـــ في العيش بدونه. وقد برز هذا بالملموس في مناسبات عديدة؛ فهو سائقه الخاص على الدوام، ومنفذ قراراته، ومراقب أعماله، بل إنه الهواء الذي يتنفَّسه كما قال “ميلود” ذاته عندما واجه “ياسمين”، زوجه البرهومي، في اللحظات ما قبل الأخيرة من حياته. “ميلود”، إذن، عنصر مهم وضروري بالنسبة إلى كل رجل أعمال من طينة “البرهومي”؛ لاسيما إذا كان وفيا، موثوقا فيه، ولا يرقى إليه الشك بتاتا.

ب‌- على المستوى الباطني: “السيد الخائن”

“ميلود” لم يكن “خادما وفيا” إلا على المستوى الظاهري العياني؛ وكأن هذا الجانب الظاهري من شخصيته هو بمثابة الجزء البارز من جبل الجليد العائم؛ وهو جزء كما هو معلوم يماثل الجبل في شكله، غير أن جذوره الممتدة أسفل سطح الماء تجعل ما يوجد فوق سطحه وكأنه مجرد حصاة أو حجرة. ما يخفيه الماء من جبل الجليد العائم هو أضعاف مضاعفة من حجمه الحقيقي؛ و”ميلود” يحاكي هذا الجبل.

كانت لـ “ميلود حياتان: الأولى ظاهرية، ولكن الثانية خفية أوقفها على عض اليد التي امتدت إليه، ونهش لحمها بذريعة حماية مستقبله. لقد استغل “ميلود” ثقة “البرهومي” العمياء فيه من أجل أن يطلق يده في شركته وينهب كل ما استطاع أن يصل إليه، لاسيما على مستوى تغيير مواد البناء الأصلية بأخرى مغشوشة، وما يماثل هذا من أعمال السرقة والنهب.

على الرغم من أن “البرهومي” كان بالنسبة إلى “ميلود” بمثابة الأب الرمزي الذي أخرجه من الفقر والضياع إلى عالم الغنى والنفوذ، فإنه لم يسلم من خيانته له. ويمكن تفسير هذه الخيانة من الناحية النفسية بسببين اثنين: أولهما رغبته في تأمين مستقبله ومراكمة الأموال بأي طريقة حتى لا يجد نفسه في يوم من الأيام في الوضعية نفسها التي كان فيها قبل أن ينتشله “البرهومي” من الشارع. ويكمن السبب الثاني، وهذا هو الأهم في نظري، في أن “ميلود” يُضْمِر حقدا على كل من جعلتهم الطبيعة يولدون وفي أفواههم معالق من ذهب؛ وعلى رأسهم “البرهومي”. لا ننسى أن “ميلودا” كان ينهب سيده في الخفاء للاغتناء ولكن بطريقة واعية، وعن سبق الإصرار؛ بَيْد أنه كان يحاول الانتقام منه بطريقة غير واعية، ومن خلاله من كل من جَنَّبَهم القدر نفس ما عاناه عندما كان يعيش في الشارع.

لهذا السبب لم يُكَوِّن “ميلود” عائلة؛ ربما لأنه كان ناقما على أبويه، وربما لأنه لم يشأ أن يرتبط في حياته بأي شخص آخر غير شخصه هو. لكنه رغم ذلك كان واعيا بأهمية الابن في حياة الإنسان؛ ربما لأنه جسَّد هذا الدور في وقت ما، غير أنه لم يدم طويلا مادام كان ضائعا في الشارع قبل لقائه بسيده “البرهومي”.

كان “ميلود”، إذن، خائنا، ولكنه كان سيِّدا أيضا؛ سيدا على كل من يشتغلون تحت إمرته ويوظفهم في نفس الوقت لتنفيذ أوامر “البرهومي”، ولكن أوامره هو أيضا، وعلى رأسهم مستخدَم الشركة الفاسد “الحُسين”.

3. نهاية الشخصية:

اكتشف “البرهومي” خيانة يده اليمنى “ميلود”، فدبِّر له ما يمكن أن نطلق عليه وصف “شرَّ قِتلة”: سقاه سما شديدا لم يمهله كثيرا من الوقت قبل أن يغادر عالمنا.

كانت نهاية ميلود نهاية درامية بكل ما في الكلمة من معنى؛ فقد تجسدت فيه في اللحظة التي علم فيها أنه سُمِّم كل صفات البطل التراجيدي (بالمعنى الأرسطي للكلمة)؛ حيث أبان عن قوة تحمل كبيرة، وثبات عجيب، وصمود أغرب. وليس هذا فحسب، بل إنه غادر فيلا “البرهومي” ـــ على الرغم من حالته المزرية ـــ واستقل سيارته لأنه لم يشأ أن يراه أحد في لحظة ضعف؛ هو الذي كان يحلم بالقوة، ويطمح إليها ويعيشها في كل لحظات حياته منذ ميلاده الرمزي على يد “البرهومي”. وما أكسب الشخصية زخما أكبر أنها كانت على وعي تام ـــ كما قالت ـــ أن الجلاد يموت عادة بنفس الطريقة التي اعتاد أن يقتل بها ضحاياه.

لم يكن “ميلود” مستعدا للخروج من ملعب الحياة في منتصف الطريق، غير أنه في الوقت نفسه كان لا يزال متشبعا بما يحسه أي شخص ضائع: الإحساس بأنه ليس لديه شيء ليخسره، لذلك يغامر ويقامر؛ فإن ربح أقبل أكثر على ما يقوم به، وإن فشل فهو يُسلِّم بذلك ويستسلم؛ وهذا كان حال “ميلود“.

4. رمزية اللون الأسود في شخصية “ميلود”

لا مِراء في أن كل ما يرتبط بشخصية “ميلود” ينطلي باللون الأسود؛ ومن ذلك مثلا:

أ‌- اللباس:

كان للملابس دور محوري في تحديد طبيعة شخصية “ميلود”؛ فقد ارتبط طيلة حلقات المسلسل بملابس سوداء، أو على الأقل داكنة اللون. والجميع يعلم أن الأسود يرمز إلى الغموض، والعنف، والشر، والخبث، والعالم السفلي…

بل إن طبيعة ملابس “ميلود” التي تكون في الغالب رسمية (بذلة وربطة العنق) تؤشر رفقة اللون الأسود على أنه محترف في مجاله (وأقصد طبعا في الأعمال المتعلقة بالجانب المظلم من حياة البرهومي، خاصة الصفقات المشبوهة والتلاعبات….)..

كان اللباس الأسود الداكن اختيارا موفقا، زادت من قيمته النظارات السوداء (دليل القوة، والغموض، والعملية)؛ حتى إنها جعلته عاملا فاعلا وليس مجرد أكسسوار.

ب‌- الماضي، الحاضر، المستقبل:

انطبعت حياة “ميلود كلها باللون الأسود بالغموض والعنف والخروج عن القانون. كان ماضيه مظلما أسود، وحاضره انطبع بالعيش في ظل “البرهومي” دون القدرة على تجاوزه إلا في الخفاء؛ أي في السواد عندما يقوم بسرقته؛ بل إن نهاية “ميلود” كانت سوداء بامتياز: كان يرتدي لباسا داكن اللون، ويجلس مع سيده في غرفة المكتب في الليل، كما كان يشرب قهوة سوداء. وعندما غادر الفيلا، استقل سيارته السوداء التي كانت شاهدة على لحظاته الاخيرة عندما سقط رأسه على مِقْوَدها… الأسود.

لم يعرف “ميلود” في حياته غير الأسود، باستثناء محطتين اثنتين أساسيتين: عندما اصطبغت عيناه بلون أحمر دموي من أثر السم الذي سقاه إياه “البرهومي”، وعندما غُطِّيَ بثوب أبيض في المشرحة بعد مصرعه… لقد عرف الأبيض، ولكن بعد فوات الأوان.

5. الحوار الدرامي:

خضع “ميلود” لعملية تحول شاملة على يد “البرهومي”، بعد انتشله من العالم السفلي. وقد انعكس ذلك على السجل اللغوي الذي طبع كلامه طيلة حلقات المسلسل. كانت الاختيارات المعجمية لحوارات “ميلود” موفَّقة ومتماهية مع شخص عملي لا يتحدث إلا بمقدار ما يخدم الهدف الذي يروم تحقيقه، حيث إن المتلقي لا يحس بتصنعها أو مغايرتها لما يجري في الواقع. وهذه نقطة لصالح الحوار، لأن المتلقي بمجرد إحساسه بالتصنع فيما يراه يخرج من سياق التماهي مع العمل الدرامي (بالمعنى الأرسطي لمصطلح التماهي أو التطهير CATHARSIS)، ليدخل في مجال مفهوم المسافة النقدية (البريختي)، والمتلقي المغربي ـــ كما هو معلوم ـــ يميل إلى التماهي أكثر من ميله إلى غير ذلك.

أحيانا كان ميلود يتفوه بكلام قد ندخله في باب الحِكَم؛ لاسيما في بعض حواراته مع “البرهومي”، أو “ياسمين”، غير أننا قد نرد ذلك إلى خبرته الحياتية في هذه الدنيا التي عركته وعركها، ففهم كيف تشتغل بعض إوالياتها، لكنه لم يستفد منها للأسف؛ فكان مصيره مظلما.

6. تقمص الممثل البشير واكين لشخصية “ميلود”

تفوق البشير واكين على نفسه في تأديته لهذا الدور؛ حيث استطاع أن ينقل إلى المتلقي شخصية مركبة، متعددة المستويات النفسية، شخصية قاسية غالبا، حنونة أحيانا، بألمعية وبحرفية في الأداء.

لا يختلف اثنان في أن تجسيد مثل هذه الأدوار ليس بالأمر الهين؛ فالممثل مجبر على أن يعيش شخصيات عديدة في شخصية واحدة، وأن يُظهر عكس ما يبطن، وأن يؤدي عمله الظاهري، وفي الوقت نفسه أن يجد سبيلا ووقتا لإنجاز عمله الآخر/ عمله المظلم الذي لا يخصه إلا هو.

ليس هذا فحسب، بل إن طبيعة شخصية “ميلود” تقتضي من مُجَسِّدِها أن يكون قادرا على أن يبدو للمتلقي باردا في تعابيره، وجامدا في ملامحه في لحظات تأديته لمهامه، وأن يُبدي الطاعة والخنوع أمام سيده، وأن يكون غولا مع من يعملون تحت إمرته في عالم يأكل فيه القوي الضعيف، وأن يكون حنونا في بعض اللحظات النادرة التي يبرز فيها الجنب الإنساني خجولا من خلف القناع الحديدي الذي يغلف شخصيته.

على هذا الأساس، وظف البشير واكين خبراته التي راكمها على مدى سنوات طوال لتقديم دور ألمعي لا ريب أنه حظي بإعجاب كل من تابعه.

hespress.com