“طاحت الصَّمْعة علّْقوا الحجام”، بمعنى “سقطت الصومعة اشنقوا الحلاق”، ويسمى الحلاق حجاما في المغرب لأنه كان يقوم أيضا بالحجامة، هو مثل مغربي معروف يقال فيمن ذهب ضحية ذنب اقترفه غيره واتُخذ كبش فداء.
قصته، التي يروى أنها جرت في مدينة فاس المغربية، أن حلاقا كان له دكان قرب المسجد، وكان من زبائنه والي المدينة، الذي استدعاه يوما ليحلق له رأسه ويشذب لحيته، فانزلقت موسى الحلاق وجرحت الحاكم جرحا طفيفا، فاستشاط غيظا لكنه لم يقدر على معاقبة الحلاق حالا خوفا على سمعته، وما هي إلا أيام حتى وصل إلى الحاكم خبر سقوط صومعة المسجد، فأمر بشنق الحلاق متهما إياه بالتسبب في إسقاطها، من كثرة الماء الذي يستعمله عند الحلاقة، قبل أن يرميه على حائط الصومعة.
هذا المثل ينطبق على مسلمي فرنسا اليوم وهم يرون تكالب بعض المسؤولين الفرنسيين عليهم، ومنهم وزير الداخلية جيرالد موسى دارمنان، الذي كل ما اتُّهم بمعاداة المسلمين ذكَّرنا بأن جده لأمه كان مسلما، وهو نفسه يحمل اسما مسلما رغم كونه مسيحيا، وكأن هذا تعهد بحسن النية الدائمة لديه، عجبا!
خرج علينا إذن السيد دارمنان في خطوة هروب إلى الأمام فارا من أزمة المظاهرات التي خرجت ضده خصيصا وضد قانون الأمن الشامل عموما، والذي انتقدته الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والعديد من الجمعيات الحقوقية الدولية، وهرب من تفاعل المجتمع الفرنسي وتضامنه مع المنتج الفرنسي المعَنَّف من طرف الشرطة، وخرج كي يبشر الفرنسيين بقرب إغلاق 76 مسجدا “انفصاليا” حسب زعمه.
لكن الغريب في الأمر أن تكون وكالة الأنباء الفرنسية الرسمية “أ ف ب” هي التي تورد الخبر بهذه الصيغة الفاضحة لوزير في الحكومة الفرنسية، تناقلته عنها وسائل الإعلام الفرنسية، وعنوانه الذي نكتفي بترجمته هو كالتالي: “بعد أن أضعفته حالات عنف الشرطة، قام جيرالد دارمنان بهجوم مضاد مساء الأربعاء على أرضية أخرى بإعلانه تحركا هائلا وغير مسبوق ضد الانفصالية، مستهدفًا 76 مسجدا في الأيام المقبلة”. وبذلك تعترف الوكالة ضمنيا أن المراد من استهداف المساجد هو تحويل الرأي العام الفرنسي إلى قضية “الانفصالية الإسلاموية” والتطرف. أسد على المسلمين وفي الحروب نعامة!
وفي تغريدة على منصة “تويتر” يقول لنا الوزير: “يُشتبه الآن في 76 مسجداً بأنها انفصالية. في الأيام المقبلة سيتم إجراء عمليات تفتيش على دور العبادة هذه. إذا تأكدت هذه الشكوك سأطلب إغلاقها”. وهو بهذا التصريح المغازل لليمين المتطرف يتناسى أنه مهما كان، فإن فرنسا دولة ديمقراطية من المفترض أن يحترم مسؤولوها القانون، وهو القانون الذي يحترم قرينة البراءة، ويختزل دور الشرطة في حمل القرائن والأدلة، تاركا للقضاء إصدار الأحكام، ومن ثَمّ فإن قرار الإغلاق يبقى بيده لا بيد وزارة الداخلية، وإلا أصبحت الخصم والحكم في الوقت نفسه!!
الرد على تغريدة الوزير الفرنسي جاء من طرف العديد من النشطاء الحقوقيين الفرنسيين وغيرهم، متهمين إياه باغتصاب الحرية اغتصابا يشبه اغتصابه امرأة مستضعفة جاءت تطلب منه سكنا اجتماعيا فأجبرها على ممارسة الجنس معه، وأخرى جاءت كي يتدخل لها لإلغاء إدانة قضائية فطلب منها الشيء نفسه فاستجابت المسكينة، وقد أغلق التحقيق في القضيتين باعتبار الضحيتين كانتا موافقتين ولم تكونا مجبورتين. خدمة مقابل خدمة!
من حق الحكومة الفرنسية محاربة التطرف، بل لنقل إن هذا من واجبها، لكن وصم المسلمين جميعهم واتخاذ عقاب جماعي في حقهم بغلق المساجد دون التفريق بين مرتادي المسجد من معتدلين ومتطرفين، سيؤدي حتما إلى مزيد من الاحتقان، وسيُفهم خاصة من طرف الشباب وأبناء الجيلين الثاني والثالث من أبناء المهاجرين بمثابة حرب على دينهم وهويتهم قد تفضي إلى ما لا تحمد عقباه.
وهنا قد يسأل سائل وببراءة ساذجة: لماذا لم تُتَخذ العقوبة نفسها عند اكتشاف بعض الرهبان مغتصبي الأطفال، وتغلق الكنائس التي اكتشفت فيها هذه الجرائم بحق أجيال من الأطفال الأبرياء؟
ثم ألا توجد حلول أخرى؟ وحتى لو اتبعنا منطقها المعلن عنه وسرنا على خطى مقاربتها الأمنية، فإننا نجد أنفسنا نتساءل: لماذا لا تقوم الحكومة بمتابعة مسؤولي هذه المساجد إن صح تطرفهم ومخالفتهم للقوانين؟ ولماذا لا تقوم بإقالتهم وإعفائهم من المسؤولية وتكليف أشخاص آخرين “ترضى” عنهم الدولة الفرنسية؟ ولماذا لا تعين موظفين إداريين لمتابعة وتسيير هذه المساجد المشتبه بها؟ ولماذا لا تضع ما شاءت من الكاميرات للمراقبة والمتابعة بكل شفافية واحترام للقانون، أم أنها تدري أن ليس للمسلمين ما يخفون في تدينهم؟.
خلاصة القول، ومع الاستدلال المنطقي الرياضي، هل فعلا تريد الحكومة الفرنسية محاربة التطرف الإسلاموي كما تقول، أم أنها تريد أن تحد من مظاهر التدين الإسلامي المزعج؟ هذا هو السؤال الحقيقي.
إن محاربة “التطرف الإسلاموي” لن تفلح بتطرف علماني من الجهة الأخرى، ولن تنجح بالتسلط على فئة مستضعفة من الشعب الفرنسي، وإنما بمقاربة شاملة كاملة تحترم الحريات وتجعل الناس سواسية كأسنان المشط.