لعب المحامون دورا كبيرا في الحياة السياسية المغربية منذ الاستقلال إلى اليوم؛ فصديق الملك الراحل الحسن الثاني الذي عين وزيرا للإعلام والسياحة، ثم وزيرا للداخلية والفلاحة، وبعدها وزيرا للشؤون الخارجية، لم يكن سوى المحامي أحمد رضا اكديرة، الذي أسس جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (الفديك) سنة 1963، وهي الجبهة التي تم استنساخ بعض مبادئها في إطار “حركة لكل الديمقراطيين”.
كما أن نقيب المحامين في الدار البيضاء، وما أدراك ما الدار البيضاء، لثلاث ولايات متتالية، كان هو المحامي المعطي بوعبيد، الذي أسس حزب الاتحاد الدستوري، وله أيضا تاريخ في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وله تاريخه السياسي كوزير للتشغيل وكوزير أول في عهد الحسن الثاني، وفي لجنة التحقيق في أحداث فاس سنة 1991.
وعندما تتحدث عن دور المحامين بالمغرب، فلن يفوتك حتما الحديث عن حزب الاتحاد الاشتراكي، وهو النسخة المعدلة لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث ظل هذا الحزب قلعة للمحامين الكبار، ومنهم على سبيل المثال، عميد سلك المحاماة في طنجة المحامي المعروف داخل أجهزة اتحاد المحامين العرب، المناضل الوطني الراحل عبد الرحمان اليوسفي، زعيم تجربة التناوب التوافقي، وواحد من المؤتمنين على انتقال العرش في المغرب.
وطبعا لا تخفي شجرة اليوسفي، المحامين الاتحاديين الكبار، وعلى رأسهم الزعيم عبد الرحيم بوعبيد، أول سفير للمغرب في باريس، وأحد زعماء مفاوضات الاستقلال، ونائب رئيس الحكومة في حكومة بلافريج وحكومة عبد الله ابراهيم، اللتين توصفان بأنهما أحسن الحكومات في تاريخ المغرب، ولا ينسى المغاربة أن عبد الرحيم بوعبيد هو رفيق الزعيم التاريخي المهدي بنبركة، أستاذ الملك الحسن الثاني في مادة الرياضيات، وزعيم المقاومة المسلحة والمقاومة السياسية، إلى جانب الفقيه البصري.
لكل زمن رجاله، وأخطر ما في الدنيا دموع الرجال، ويقول المثل إننا لا نحتاج إلى المداد لكتابة التاريخ بل إلى دموع. وبين الأمس واليوم، فقدت مهنة المحاماة الكثير من وزنها، كسائر المهن النبيلة في زمننا الحاضر، رغم كثرة الهيئات والتنظيمات. ولا شك أن المسمار الأخير في نعش المهنة سيأتي من إصابتها بظاهرة “الروتين” التي ترمي بصاحبها في غياهب العالم الافتراضي، فيتصور أن له شعبا يقف أمامه، بمجرد ما يضغط على زر “التسجيل” في الكاميرا.
بالأمس القريب، وقف ثلاثة محامين أمام محكمة النقض، وهذا حقهم في إطار حرية التعبير، كما أن من حقهم التعبير عن رأيهم في دولة إسرائيل، ولهم حتى حق اختيار الحرب بدل السلام. لكن شيوخ المهنة، لم يتحدثوا باسم تنظيم معين، بل اختاروا الحديث باسم الشعب المغربي، ورغم أنه لا سبيل لتفويضهم بذلك، فقد كانوا مقتنعين بأنهم يمثلون الشعب، والحقيقة أنهم لا يمثلون حتى الهيئات المهنية التي ينتمون إليها؛ إذ يوجد فيها محامون من أشد أنصار إسرائيل، ولكن شيخ المحامين الأستاذ الجليل عبد الرحمان بنعمرو، ورغم الاحترام الكبير الذي يكنه كثير من المواطنين لتاريخ الرجل، وقف أمام محكمة النقض ليدلي بتصريح شارد، قال فيه: “كلفنا خالد السفياني (زميله في مهنة المحاماة)، وكلفنا أنفسنا، لأن القضية التي كلفنا بها تهم أسرة الدفاع المغربي، وتهم المخلصين المغاربة، وتهم كافة المواطنات والمواطنات، لأن هذه الاتفاقيات التي تمت بين الوفد الإسرائيلي والحكومة المغربية، هي اتفاقيات غير مشروعة وباطلة، لأنها تخالف تطلعات وأهداف الشعب المغربي”.
هكذا تحدث الأستاذ بنعمرو عن الحكومة المغربية، وقسم الشعب إلى مخلصين، غير مخلصين، بعد تكليفه من طرف الأستاذ خالد السفياني، فهل خالد السفياني هو الشعب؟ المسألة لم تقف عند هذا الحد، بل جاء بعده النقيب الأستاذ عبد الرحيم بن بركة، مثل ناطق باسم الثورة، ليدلي بدوره بتصريح باسم الشعب المغربي، حيث قال: “كثير من المغاربة لم يستطيعوا أن يقولوا شيئا في الموضوع، نحن نعبر باسمهم، وباسم جل المغاربة الذين كممت أفواههم في هذا الموضوع، ونتمنى أن يكون القضاء في المستوى”، ويا لها من مفارقة قانونية، عندما يغيب عن رجل القانون أن حديث المحامي باسم “الموكل” يحتاج إلى “توكيل”، والتوكيل الوحيد الموجود في هذه القضية، إن وجد، هو توكيل المحامي خالد السفياني، المعروف بنشاطه ضمن مجموعة العمل الوطنية لمساندة العراق وفلسطين.
ولأن التاريخ لا يرحم، فالمجموعة المذكورة لم تعد تدافع عن العراق، بل اختارت الاقتصار على “العمل من أجل فلسطين” نظرا لسهولة الترويج، ومن سخرية الأقدار أن الأستاذ السفياني الذي يقاضي الحكومة المغربية في شخص رئيسها سعد الدين العثماني، هو نفسه الذي حل بداية العام بمجلس النواب، ضيفا على فريق العدالة والتنمية (يوم الاثنين 3 فبراير 2020)، حيث قال: “إن حزب العدالة والتنمية كان دائما منخرطا من دون حسابات، وفي كل المحطات والأشكال التضامنية مع القضية الفلسطينية”، ولكن حسابات السفياني لم تكن هي حسابات العثماني.
كل ما فعلته مجموعة السفياني اليوم، هو توفيرها للمادة الخام من أجل التنفيس عن مواقع ودول معادية للمغرب، حيث تحدثت عن رفض شعبي للتعاون بين المغرب وإسرائيل، والواقع أن المغرب لم يتخل عن القضية الفلسطينية، كما أنه لم يوقع على صفقة القرن، ولكن لا أحد من شيوخ المحاماة سيذكر ذلك، كما لن يذكر أي واحد منهم أن المغرب حصل على اعتراف أقوى دولة في العالم بمغربية الصحراء، وهي القضية التي يقف وراءها الشعب المغربي بدون استثناء، كما أن الشعب بات “يفهم بالغمزة” وهذا ما لم تفهمه مجموعة الأستاذ السفياني.