ها هو ذا عام آخر من أعوام البشرية 2020 عام جائحة كورونا الرّهيب قد هوىَ وانزوىَ ومضيَ لحال سبيله، لينساب كالسّيل العارم العرمرم، والأتيّ المنهمر الضّائع في طيّات الزّمن، وثنايا النّسيان، وثبج السّنين، وفي معارج طباق السّماوات، ومدارج سديم الفضاءات السّرمديّة الأثيريّة، اللاّنهائية، واللاّمنتهية، واللاّمتناهية لينضمّ إلى سلسلة عقود الأعوام المُنصرمة التي ولّت، وانقضت، وذهبت بدون رجعة. لقد حال الحوْل ودار الزّمان، وتوارىَ، وتوارت معه أحزاننا، وأتراحنا، وهمومنا، وأشجاننا وبعض أفراحنا وكثير من مآسينا، وها نحن نستقبل في ذات الوقت عامًا جديدا ما زالت أيامه ولياليه في غياهب المجهول..!
الجائحة الجارحة اللعينة
عالمنا المُعاصر أصبح اليومَ عالماً صغيراً ومحدوداً، لقد أصبح في حجم “منديل” الجيب الصّغير كما يُقال في الأمثال، ولكنّ مشاكله غدتْ كبيرةً لا عدّ، ولا حدّ، ولا حصر لها. تُرى هل فتحتَ المذياعَ، أو رأيتَ المشوافَ، أو مررتَ بحسابات التواصل الاجتماعية خلال العام الفارط وسمعت حديثاً غير وباء كورونا أو كوفيد19 اللعين الذي أصبح يملأ علينا حياتنا في كلّ لحظة وحين، والذي ضاعف من “مكابدتنا” و”معاناتنا” في هذه الحياة الدنيا، لم تحمل إلينا هذه الوسائلُ جميعُها خلال الشهور الأخيرة -كما ترى- خبراً سارّاً يُفرحُ القلبَ، ويُثلج الصّدر سوى الحديث عن الأمراض الفتّاكة، والإصابات المؤكّدة، والمعاناة الشديدة، والموت الزّؤام، والمشافي المُكتظّة، والعنايات المركّزة الرّهيبة، والكمامات الواقية من كلّ نوع، والتباعد الجسدي، والحجْر الصحيّ، وغسل الأيدي والوجوه والألبسة والمأكولات من أيّ صنف دون انقطاع.. نظرا لتفاقم هذا الوباء الهالك، والفيروس القاتل، الفاتك الذي انتشر بيننا انتشارَ النّار في الهشيم.. ولا من مُعالجٍ أو مُداوٍ، أو وَاقٍ، أو مُواسٍ، أو تطعيم في الأفق القريب مضمون النتائج؟ هذا غيض من فيض من الأخبار التي أصبحت تملأ حياتنا منذ ظهور هذا الوباء الخطير الذي يفتك بنا، وبأحبابنا، وأصدقائنا، وبمعارفنا، وأقربائنا، وذوينا، الذين أصبح يُزجّ بالعديد منهم في عناكب الإنعاشات، أو يلحدُونهم في غياهب المقابر النائية المجهولة التي لا نعرف ولا نسمع عنها شيئا البتّة، هذا الوباء المُفزع جعلنا نحثّ الخُطىَ، ونفرّ من أقرب وأحبّ الناس إلينا فرارَنا من الأسد، لقد ملأت هذه الجائحة حياتنا رعبا وفزعا وهلعاً وقلقا، وضيما ونكدا، وريبة ورهبة وخوفا مقيما.. ومواكبةً مع هذه الآفة النازلة التي ألمّت بنا أمسىَ كلّ ما ينتهي إلينا من أخبار هذه الأيام كذلك هي ذات صلة بالفواجع الطبيعية، والحوادث المؤلمة، أو جرائم الإنسان، وويلات حروبه، وفتكه بأخيه الإنسان، ناهيك عن أخبار العنصرية المقيتة، والقتل، والتقتيل، والتقاتل الأرعن، وأخبار المحاكم، والمظالم، والتعنّت والتنكيل، والحزازات، والمواجهات، والمناوشات، والمشاكسات، وتفاقم البِطالة، وتضخّم العَطَالة، وتصدّع الاقتصادات وانكسارها، وكساد التجارات، وتكاثر الفيضانات في البلدان النائية عنّا، وقيظ القحط ووطيس الجفاف في الديار القريبة منّا . ومع ذلك ما فتئنا نرفع أكفّنا إلى السّماء نرجوها أمرا في قرارة أنفسنا لنقول ملء فينا: اشتدّي أزمةُ تنفرجي، قد آذَنَ لَيلُكِ بالبَلَجِ..!
ساعة الصّفر
في انتظار ساعة الصّفر رأينا الوجوه وهي باشّة هاشّة ضاحكة، ورأينا القلوب وهي تخفق سعادة وهناءة وحبورا، وتلمح الأيدي وهي تمتدّ في شجون نحو أخرى لتصافحها مهنّئة إياها بانسياب حقبة من الزّمان وزوالها وبزوغ أخرى. كلّ المدن والحواضر الكبرى تسبح في ثبج فضاء أثيري بهيج، وأضواء النيّون انتشرت في كل مكان، واستمرّ الظلام الدامس مطبقا في أماكن أخرى، الكثيرون منّا يجهلونها، القليلون منا يعرفونها..عاقرت الكؤوس بعضها بعضا، وانفرجت الأشداق من القهقهات، وزاغت العيون، وتاهت العقول، والكلّ سينتظر ساعة الصفر، الكلّ يرقب منتصف الليل، حيث تنطفئ الأضواء في كل مكان، ويكون العناق تلو العناق الصادق الزائف. والدّفء الزائد يتحوّل إلى نار كاوية، وتدور الصّحون، وتمتلئ البطون بالطعام المزّ، والشراب المرّ، والحديث ذو شجون، يفرحون، يمرحون، يصيحون، ويهللون لهؤلاء الذين يلفّهم البرد القارس الزمهرير، ويغطيهم الثلج الصقيع المتكاثف، ويمزّق أوصالهم الطّوى، ويغلفهم البؤس، وتسكنهم الكآبة، هناك دائما فائض، هناك دائما زيادة، هناك دائما تضخّم، ولكن دائما ثمة بالمقابل عوز وخصاصة وفاقة واحتياج، وقبض من ريح، وحصاد من هشيم، ولفحة من برد لاسع، هناك كذلك شموع وقناديل على غرار شموع رأس السنة وقناديلها الخافتة، غير أنهّا تنقصها الزخارف والألوان.
تعاقب الليل والنهار
قديما كانت الأسطورة تقول: إنّ البدائيين كانوا يبكون غياب الشمس، وينتحبون سدول الليل، ذلك أنّ الليل يسرق منهم الضياء والدفء، ويطويهم تحت جبّته العملاقة الحالكة، ويبتلع كل شيء.. والآن ترى الناس يهللون لمقدم الليل، ويضجرون من انصرام النهار، ذلك أنّ الليل ساكن هادئ حالم سماوي لا قيظ فيه ولا حرّ ولا قرّ، أين الحرّ والقرّ وهناك العديد من المدفآت والمراوح التي بمقدورهم التحكّم في حرارتها أو بردها حسبما شاؤوا وأرادوا، إنهم محقّون في ذك لا ريب، النهار ليس لهم، إنّه للكادحين العسفاء الذين يعملون في الحقول، والمصانع، والمقالع، والمعادن، والمعامل، أمّا الليل فهو ملك لهم. أفرأيت إذن كيف انقلبت الآية…؟ أفرأيت الآن كيف أنّ الناس يتشاءمون من غياب النهار وأفول الشمس ويهللون لمقدم الليل..؟ لقد كان “بودلير” يكره الليل، لأنه كانت تزيد فيه عليه وتتفاقم آلامه المبرحة، كانت تتراءى له فيه هوّة عميقة، سحيقة، حالكة لا قعر ولا قاع لها أودت به في آخر المطاف إلى التّوى، ثمّ في جنحه حاق به الرّدى، فقد كان يشمّ فيه رائحة أشجار سرو القبور، وهو معذور على كل حال، فهو فنّان معنّى ومعذب وعليل لا يشاطر الناس شغفهم بالليل، إنه نقيضهم على آخر الخط، وهو يعي جيّدا ما يقوله ويعنيه. وهذا “طاغور” العظيم في “انتقام الطبيعة” نراه يؤكد أنّ انشطار الليل والنهار لا يهمّه، ولا انقسام الشهور والأعوام، فعنده تيار الزمن قد توقف، يرقص الزّمن على أمواجه، والقشّ والأغصان، هو وحيد في هذا الكهف المظلم، منغمر في نفسه، منهمك في ذاته، والليل الأبدي ساكن كبحيرة جبل تخاف عمقها نفسه، الماء ينضح ويرشق ويقطر من الشقوق الناتئة، وفي البرك والترع تعوم الضفادع العتيقة، هو حبيس ينشد ترتيلة اللاّشيء… إنه حرّ.
رحى الحرب وثفالها
الكلّ يصيح، ويرقص طربا، ويمرح جذلا بفرحة مقدم العام الجديد، منتشيا ومغتسلا بغمرة انسياب الزّمن وزواله واندثاره، فتنضح عنه أدران العام الآفل ومآسيه، ويستبشر بها خيرا في استقبال العهد القادم المهرول المجهول، ترى ماذا يحمل تحت جناحيه وأعطافه..؟ وماذا يخفي في طيّاته وثناياه..؟ الكلّ ينشد السعادة في عالم مشحون بالشقاء، البشرية ما زالت بخير، قلّت الحروب وهدأت، وخبا أوارُها بعد أن أعركتهم عرك الرّحى بثفالها، وثقالها، ما عدا في أماكن بعينها من العالم، حيث لا بدّ أن تظل فيها رحى الحرب الممقوتة تدور، وتدور إلى أجل غير معلوم، عادت، وزادت، وتضاعفت، واستشرت الفتن والقلاقل والثورات في تلك البقعة النائية من العالم حيث القوم الذين وهموا بالنصر يحتسون نخب العام الجديد في جماجم بشرية، أنا وأنت وهو والآخرون يعرفون أين تقع هذه الأرض الطيبة.. إنها حيث يتسلل إليها الصيّادون بفخاخ البشر، وحشيتهم أحدّ من أنياب الذئاب، وكبرياؤهم أشدّ عمى من الآجام المظلمة، لننسى أو لنتناسى قليلا.. هكذا يقولون كفانا تذمّرا وتنطّعا وشكوى، فلنعانق، ولنعاقر ولنحتف، ولنمح من ذاكرتنا كل شيء، ولو إلى حين، ولنجعل بيننا وبين الأحزان والأشجان برزخا واسعا، ويمّا عميقا.
ويشبّ في قلبي حريق!
الشاعر البدين (جسما) والرقيق (إحساسا) الذي يضيع من قدمه الطّريق… ويشبّ في قلبه حريق عندما وضع يوما عمّته وجبّته من على رأسه وبدنه وضع معهما كلّ همومه وأحزانه، وأتته الجرأة، وجهر بحقيقة الموقف الفادح، فقد صاح ذات يوم والخلاّن يمرحون ويصيحون مهنّئين إيّاه: كلّ سنة وأنت طيّب يا سّي كامل.. صحّ النّوم فصاح، فيهم منشدا مغتمّا كئيبا حزينا :
عدت يا يوم مولدي / عدت يا أيّها الشقيّ
الصّبا ضاع من يدي /وغزا الشيب مفرقيّ
كامل الشناوي كان صادقا مع نفسه ومع خلاّنه لحظة تقييمه ليوم مولده فقد خالف الناس في عرفهم، إنّه يتوجّس من هذا اليوم خيفة وهلعا ورهبة لأنّه يعرف مدى فداحة الموقف بالنسبة له وللآخرين، فهو لم يخف وجهه في الرمال كما فعل غيره، بل إنه رفع رأسه واشرأبّ بعنقه عاليا ليدين الزمن الذي لا يتوقّف عن الدّوران حتى يصادف اليوم الذي زجّ به في هذا العالم المشحون بشتّى ضروب العنف والعنت والشقاء والمعاناة دون استشارته. ولئن قرن الكلام هنا بعيد ميلاد شخص، فذلك لأنّ له ارتباطا وثيقا به، وفيه معنى متقارب جدّا بالنسبة لانقضاء عام وقدوم آخر، هذا العام في الواقع هو بمثابة عيد ميلاد للبشر، لهؤلاء الذين لا يتأخرون ولا يتمادون في الاحتفال والاحتفاء به جماعة في كل مكان، ففيه ترتفع الأهازيج، وتعلو أصوات الشدو والغناء، صلة هذه المعاني بالألم والحزن والأسى والشجن أقرب منها إلى الفرح والمرح والسعادة والحبور، ومع ذلك تراهم يتمادون في لامبالاتهم، ويتظاهرون بأنّهم سعداء… وقد يكون صنيعهم هذا من باب الانتقام واغتنام الفرص وعملا بنصيحة “الخيّام” في هذا القبيل:
أن تمتّع بيومك، قبل غدك، فمن أدراك أنك راءٍ هذا الغد المجهول. أو من باب:
الماضي فات والمؤمّل غيب/ولك السّاعة التي أنت فيها
إنّه كلام يتناثر في الفضاء ،تماما كما تناثر في القديم كلام من شيّد في أخيلته مدنا فاضلة ،وأقام فيها صروحا وقصورا ،ولكن ظلت العدالة فيها طائرا كسير الحناحين يحلق بالكاد حولها لا يشمّ سوى رائحة الظلم والعنت في كل مكان، واليوم لم يعد ثمة أناس من هذا النوع،فقد أصبحوا في عرف الآخرين شبيهين بالمجانين الذين يفنون أعمارهم في الأوهام والخيالات والترّهات التي لا طائل تحتها .بل ربما كان هؤلاء هم الذين يعانون أكثر من غيرهم مختلف ضروب البؤس والتعاسة والنكد والحرمان ،بعد أن كسدت أسواق الفكر الخلاّق، ونشطت حركات التقاليع الرخيصة في دنيا الفنون والجنون والمجون من كل ضرب،ربما كان هؤلاء أكثر حظا من أولئك في الحياة الرغدة.
شُجيْرات الصّنوبر المُهانة
البشرية غزا الشيب مفرقها كذلك مثل شاعرنا المكلوم، وأضاعت عمرها في ويلات التقاتل والتطاحن والتشاكس، والتناوش والمواجهة والعداوة والبغضاء. لعلّ هذه الأمور تجعلنا نأسى ونتأسّى، وتبعث اللوعة والحزن والضنك في الأنفس، وظلم البشرية لا ينحصر في بني طينتها وحسب، بل إنه يطول حتّى الطبيعة، أمّنا الأولى، ويمتدّ إلى مختلف الكائنات الحيّة المحيطة بها، فالإنسان هو الكائن الوحيد في عالم الأحياء الذي يقتل فقط للاستمتاع وإشباع رغبة الانتقام في نفسه الأمّارة بالسّوء، ومن ثمّ تلك المباريات المنظمة، وغير المنظمة في عالم الصّيد والقنص والطّرد، ألا تراه في هذه الأيام مسرعا ومهرولا في الشوارع والأزقة والدّروب، فوق البسيطة وتحتها، وفوقها في الفضاء والبحار والصّحارى، والمفاوز، والمهامه، والقفار..؟ وعلى الرغم من الجائحة القاتلة لعلّك سمعت عن حركات الطيران غير الاعتيادية والبواخر، والسّفن، والسيارات والقطارات وسواها من وسائل النقل برّا، وبحرا، وجوّا في جميع أنحاء المعمور في هذه التواريخ..؟ فلو اطّلعت على الأعداد الهائلة من المسافرين في هذه المناسبات لذهلت من الأرقام التي تنطق بها الإحصائيات في هذا القبيل. إنّهم يتسارعون على غير عادتهم، يقتنون الحاجيات والمأكولات والهدايا بشره ونهم ودون حساب، ويجلبون شجيرات الصنوبر المسكينة، وأغصان الأرز البريئة التي نحن في مسيس الحاجة إليها في هذا الطور العصيب الذي تجتازه البلاد، وتماشيا مع سياسات المحافظة على البيئة وصون الغابات والمحميّات الطبيعية، ومحاربة التصحّر، بل نحن في حاجة إليها لنستمتع بها، ونتفيّأ ظلالها، ورونقها، وبهاءها، وبساقتها، ونضارتها، وجمالها الخلاب. كم أنت قاسٍ أيّها الإنسان، كيف تسمح لنفسك، ويتمادى بك الغيّ والغرور لتتطاول وتتجنّى على الطبيعة أمّنا…؟ وتقتل وتقتلع بغطرسة وتجبّر تلك الشجيرات اليانعة لتجعلها زينة وقتية في منزلك تغمرها بالباقات والبطاقات والأضواء والألوان، لتطوف حولها وأنت ثمل عديم الإحساس بها وبما وبمن حولها في لحظات..؟ كان أجدر بك فيها تعميق فكرك فيما يدور حولك، وحول العالم من رزايا وأهوال وويلات.
ربيع الأعوام وخريفها
الحضارة المعاصرة تحمل إلينا عشرات المفاجآت كل يوم، فما كنّا نخاله بالأمس خرافة، أو خيالا أضحى اليوم حقيقة ماثلة حيال أعيننا، وهكذا لم نعد نفرق بين الأحداث، حتى أصبحنا نؤرّخ لها بالأعوام، فكما قال أجدادنا ذاك كان عام الطوفان، وعام الفيل، وعام الهجرة، وعام المجاعة، وعام الفتح، وأصبحنا نقول نحن اليوم هذا عام الجائحة كورونا، وعام اندلاع الحرب الكونية، والعام الذي وضعت فيه الحرب أوزارها، وعام بلفور المشؤوم، وعام النكسة، وعام فضيحة واترغيت، وعام الصّعود إلى القمر، وعام مهازل ويكيليكس، وأعوام الرّبيع العربي… وخريفها كذلك… إلخ. فهناك من السّنين ما تنطبع أحداثها في أذهاننا ووجداننا ولا نجد لها أو منها فكاكاً، في حين أننا نمرّ من أعوام أو تمرّ بنا أعوام لا نقيم لها وزنا أو حسابا، وكأننا لم نعشها قط من أعمارنا، قيمة هذه الأعمار أو الأعوام إذن تكمن فيما نقدّمه فيها أو خلالها من أعمال، وما نؤتيه فيها أو تأتينا به من مفاجآت.
ليت هذا العام يأتي بالضياء
ها نحن نقف على مجاهيل أعتاب عام جديد يحمل في طيّاته كثيراً من التخوّفات، التوجّسات، والاستفسارات، والإرهاصات، والآمال والآلام معا، إنها لعبة الجدّ أو الحظّ الذي يبتسم في وجه هذا وتكشّر في محيّا ذاك، أجل” هو الجدّ حتى تفضل فيه العينُ أختها… وحتّى يكون فيه اليوم لليوم سيّدا”. كما قال المتنبّي، وأنت أيّها العام المنقضي، لقد ودّعنا فيك ومعك بحسرة وقسوة، وبألم ممضّ صفوة من أصدقائنا، وأحبائنا، وخلاننا، ومعارفنا، وأقاربنا ممن كنّا نتعايش معهم، ونقيم بينهم علائق حبّ ووشائج مودّة. فوا حسرتاه عليك أيّها العام النكد. عام كوفيد-19 وسلالاتها العصيّة.. وتبّاً لك أيّتها الأيام، والأعوام الرّاكضة التي لا تلوي على شيء، لقد اشتكى وتأسّى من جفوتك وفداحتك السّابقون، وها أنت ما فتئت، تقصمين ظهورنا، وتقضّين مضجعنا، وتنوئين بكواهلنا، وتثقلين بكلكلك علينا، وتتوالين منثالة، منسابة، مهرولة، تنهبين أعمارنا نهباً مخيفاً، وتعصفين بحياواتنا عصفاً مريعاً، ومع ذلك نظلّ نأمل، ونعمل، ونحدّق في السّماء بقدَر مُشعل على شفاهنا كأننا نستعطفها أمراً في كنه أنفسنا، وألسنة حالنا وأحوالنا نردّد عند مطلع هذا العام الجديد مع “آغا ممنون” الخائب الرجاء:
ليتَ هذا العام يأتي بالضّياء / ليت هذا اليأس يتلوه الرّجاء .