يوصي مؤلف جديد بضرورة الفهم العميق للظاهرة الجهادية، قبل معالجة العوامل العميقة المنتجة للتطرف، بعدما أثبت “المقاربة القمعية” محدوديتها في تجفيف منابع التطرف، على الرغم من النجاعة الاستباقية في تفكيك عشرات الخلايا الإرهابية وإحباط عدد من الهجمات المحتملة بالمغرب.

جاء هذا في كتاب “الجهاديون المغاربة.. جدل المحلي والعالمي” للباحث المغربي محمد مصباح، رئيس المعهد المغربي لتحليل السياسات، الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات.

وكان هذا المؤلف، المنشور رقميا، ثمرة اشتغال لأزيد من ست سنوات في إطار أطروحة للدكتوراه وما بعد الدكتوراه، ويبحث في جذور الظاهرة الجهادية، والانتقال من الوهابية إلى السلفية الجهادية، وتطرف الهوامش، وانتقاله إلى المراكز، والجيل الثاني من الجهاديين، وتفاعل الجهاديين مع الحَراكات المدنية السلمية، والجيل الجديد من المقاتلين المغاربة في سوريا الذي اختلف عن الجيل السابق الذي شارك في نزاعات مسلحة أخرى.

واعتمد المؤلف في إعداد هذا الكتاب على أربعين مقابلة خاصة معمقة أجراها مع القيادات الأولى للناشطين الجهاديين السابقين والحاليين المعروفين في الساحة، وعلى لقاءات مع بعض نشطاء الصف الثاني في الفترة الممتدة بين 2012 و2018، مع تحليل وثائق من كتابات الجهاديين، ومذكرات سجنهم، ومحاضراتهم، ومشاركاتهم الإعلامية، إضافة إلى مصادر ثانوية مثل الوثائق الرسمية، وبعض التقارير والدراسات والمقالات المنجزة حول الموضوع.

ويحاول هذا الكتاب فهم سياقات ومبررات تحول المملكة إلى مصدر للجهاديين، مع بقائها محصَّنة من تهديدات التنظيمات الجهادية، ويسعى إلى فهم وتفسير مبررات تحول بعض الأفراد نحو الفكر والممارسة الجهادية، مع التركيز على التيار السلفي الجهادي في المغرب، أي الأفراد والمجموعات المؤمنين بالإيديولوجيا الجهادية وبالعنف المسلح كأداة للتغيير.

ويرى المؤلف أن التركيز البحثي على تحليل العوامل الأمنية المرتبطة بالتفجيرات الإرهابية في 16 ماي من سنة 2003 بالدار البيضاء قد أدى إلى إغفال جذور الظاهرة الجهادية والعوامل العميقة التي أدت إليه.

ويذكر الكتاب أن هذه التفجيرات كانت إشارة إلى تحولات اجتماعية عميقة، وتعبيرا “انفجاريا” ضد الإقصاء الاجتماعي، وحالات اليأس التي أصابت فئة من الشباب الذي لم يستفد من ثمار التنمية. ويزيد: على الرغم من عدم إمكان اختزال ظاهرة الإرهاب بالفقر فقط، فإنه لا يمكن القفز على مسألة التهميش الاقتصادي وما يرتبط به من إحساس بالاغتراب عن المجتمع لفهم وتفسير التطرف الديني.

وينظر الباحث إلى التيارات الجهادية بوصفها منتوجا للأزمات البنيوية التي يعيشها العالم العربي، وليس سببا لها. كما يرى أنها تعبير عن أزمة الديمقراطية بالمنطقة، لأن “الظاهرة الجهادية قبل أن تتعولَم كانت في أصلها مجموعات مسلحة تتصارع على الحكم مع الأنظمة السلطوية العربية”؛ وهو ما يُقدر أنه “يعبر عن فشل بناء نموذج للتداول السلمي على السلطة في العالم العربي، أدى بجماعات المعارضة السياسية الإسلامية وغيرها إلى اللجوء إلى العنف المسلح للوصول إلى السلطة”.

ويقول مصباح إن ظاهرة الإرهاب، وطابعها الانتحاري، تعبير عن اختناق قنوات التعبير السلمي والمدني داخل المجتمعات العربية، ولا يمكن فهمها خارج الصراع على الاستحواذ على الموارد الرئيسية، من سلطة، وثروة، ومعرفة، وقيم.

وفي حديثه عن “الظاهرة الجهادية في المغرب”، يوضح الباحث أنها تتميز بـ”الانقسامية”، ولا تتوفر على إستراتيجية للصراع؛ لأن الجهاديين المغاربة قد تميزوا منذ البداية بـ”العجز عن تشكيل هوية إيديولوجية مشتركة تضم كافة الطيف الجهادي، وهو ما نتج عنه انقسام تنظيمي؛ فلم يشكل الجهاديون المغاربة في يوم من الأيام تنظيما مركزيا بتراتبية واضحة كما هو الحال في دول عربية أخرى”.

كما يذكر الباحث أن هذه الظاهرة في المغرب قد افتقدتِ الزعامةَ الكاريزمية التي تستطيع جمع شتات التنظيم المنقسم على ذاته، والإستراتيجية الواضحة للصراع وأولويات المواجهَة، ولاسيما بين “أولوية استهداف العدو البعيد: الولايات المتحدة والغرب، أو العدو القريب: الأنظمة السياسية العربية”، مما أدى إلى “إضعافها بشكل ذاتي، قبل أن تزيد المقاربَة الأمنية من تشرذمهم”، هذا فضلا عن ارتباط تشكلها في المغرب بمساندة التيار الجهادي العالمي، “دون أن يوجَّه في الغالب إلى النظام السياسي في الداخل”.

ويذكر الباحث أن “المجموعات المؤمنة بالعنف الديني في المغرب” قد نشأت في البداية باعتبارها حركات مستورَدة، بمعنى أنها “لم تولد نتيجة ظروف موضوعية داخلية صرفة”؛ بل تأثرت كثيرا بالعوامل الخارجية، ولا سيما محنة “الإخوان المسلمين” في الستينيات، ثم لاحقا في الثمانينيات والتسعينيات مع الجهاد الأفغاني.

ويفسّر الكتاب هذا قائلا إنّ الإسلاميين المغاربة “ولو لم يعانوا من حدة القمع الذي عاشته التيارات الإسلامية في مصر وتونس والجزائر على سبيل المثال”، إلا أنهم “عاشوا “نفسية المحنة”؛ أي الإحساس بالاغتراب عن المجتمع والمفاصلة عنه”، قبل أن يوفر “الجهاد الأفغاني” الفرصة “التاريخية” التي سنحت لولادة الجهادية العالَمية.

كما يسجل المؤلف أن سياسية الانفتاح السياسي المحدودة للملك الحسن الثاني في التسعينيات قد أدت “بشكل غير مباشر وغير مقصود” إلى صعود التيار السلفي إلى واجهة الأحداث، خاصة مع حالة الانقسام التي عرفها التيار السلفي في السعودية بعد حرب الخليج الثانية، ونتيجة تراجع إشعاع المؤسسات الدينية التقليدية مثل الزوايا الصوفية، والمناخ المتميز بالعداء ضد السياسات الأمريكية في المنطقة العربية.

عقب هذا، يزيد البحث موضحا أن التيارات السلفية الجهادية برزت في المغرب كحركة منشقَّة ومنفصلة عن التيار السلفي التقليدي، مع بقائها حركة هامشية، غضت السلطات الأمنية الطّرْف عنها لأنها لم تكن تشكل خطرا أمنيا في تلك الفترة، حتى تغيرت المعادلة بعد تفجيرات 11 شتنبر بالولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت بمثابة شهادة الولادة لهذا التيار؛ فارتفعت أسهم شيوخه، وبدؤوا في التعبير بشكل صريح عن أفكارهم المؤيدة لـ”القاعدة” وأسامة بن لادن.

ويسجل الباحث أن “أهم معلم في مسار الجهادية بالمغرب” هو تفجيرات الدار البيضاء سنة 2003، التي أثارت الانتباه إلى “الظاهرة التي تشكلت في الهوامش ولم يُنتبه إليها بالشكل الكافي”، بعدما سبقها بروز جماعات الهجرة والتكفير، والصراط المستقيم في ضواحي المدن الكبرى، وميليشيات تقوم بأنشطة التعزير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتؤمن في الآن نفسه بالمقولات الأساسية للتيار الجهادي العالمي، مع تكييفها محليا ولاسيما مقولات الولاء والبراء والحاكمية والتكفير والجهاد.

ويذكر المؤلَّف أن السلطات لم تنتبه إلى التحولات العميقة التي عاشها التيار الجهادي إلا بعد تفجيرات 16 ماي 2003، فـ”شدّدت قبضتها الأمنية على الجماعات الإسلامية المعتدلة والمتشددة، وأطلقت مشاريع للتنمية الاقتصادية في المناطق المهمشة، وانتبهت إلى الفراغ الذي حصل على مستوى قنوات التأطير الديني، وعملت على إعادة صياغة سياستها الدينية عبر توسيع دائرة نفوذها في هذا المجال عن طريق تبني سياسة دينية جديدة أطلق عليها “مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني” الذي يهدف إلى مأسسة هذا المجال، وضمه لمجال نفوذ الدولة وسيطرتها، واحتكار الرمزية الدينية في يد الملك باعتباره أميرا للمؤمنين”.

أما النقلة النوعية الثالثة للجهادية، حسب المصدر نفسه، فقد كانت ابتداء من سنة 2011 مع عسكرة “الربيع العربي” وما ارتبط به من عنف الثورتين السورية والليبية، اللتين التحق بهما عدد من المغاربة نتيجة الضغوط الأمنية على التيار الجهادي داخليا.

ويخلص الباحث إلى أن الظاهرة الجهادية بالمغرب لم تكن بمعزل عن الديناميات الجيو-إستراتيجية التي يعيشها العالم العربي؛ لأن جذور الجهادية العالمية تنبع من المظالم البنيوية المتجذرة في البيئة السياسية والاجتماعية منذ عقود من الزمن، وتتغذى من مظالم حقيقية ومتخيلَة، ضلعاها: الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي، وفشل بناء نموذج للتداول السلمي على السلطة في العالم العربي.

ويرى الباحث أن التيار الجهادي في المغرب يعيش “حالة من الانكماش نسبيا في السنوات الأخيرة نتيجة الضربات الأمنية المتتالية، ونتيجة التحولات الفكرية التي عاشها عدد من رموزه وأعضائه بعد تجربة السجن”، إلا أن عددا من القضايا تبقى غير محلولة، مثل: دور المقاتلين المغاربة الموجودين في بؤر التوتر، وحالات العود.

في هذا السياق، يقول الباحث محمد مصباح إنّه على الرغم من إثبات المقاربة الحالية المعتمدة على القمع فعاليتها على المدى القريب، ونجاح المقاربة الأمنية الاستباقية في تفكيك عشرات الخلايا الإرهابية وإحباط عدد من الهجمات الإرهابية المحتملة، فإنه “يبدو أنها لن تستطع تجفيف منابع التطرف”؛ وهو ما يدفع المؤلف إلى التنبيه على الحاجة إلى “فهم عميق للظاهرة الجهادية”، قبل معالجة العوامل العميقة المنتجة للتطرف، وإلا “سيبقى التصدي لها معتمدا على نفس المقاربة السابقة التي أثبتت محدوديتها”.

hespress.com