لا يكفّ بعض الإسلاميين المغاربة عن معارضة مشروع “ترسيم” السّنة الأمازيغية الذي بات محط جدل ثقافي وتاريخي وهوياتي متواصل بين مختلف الشرائح المجتمعية، بينما يتّضح بقوة موقف المكوّن الإسلامي في كلّ مرة تثار فيها مسألة الاعتراف بالأمازيغية كثقافة “جامعة”، ومكون هوياتي أساسي ضمن الرّوافد الثقافية المغربية.
ويضغط النّسيج الحقوقي الأمازيغي والبرلماني من أجل إقرار رأس السنة الأمازيغية، الذي يصادف الـ 13 من يناير من كل سنة، عطلة وطنية رسمية، على اعتبار أنّ الاحتفال برأس السنة الأمازيغية يمثّل تقليدا راسخا في الثقافة الشعبية لشمال إفريقيا؛ بينما تؤكّد السّلطات الحكومية المغربية أنّ هذه الورقة “سيادية في يد الملك محمد السادس”.
ويرى الخبير في العنف الاجتماعي حليم المذكوري أن “التطرف نقيض التسامح، بينما السّمة الأساسية لعالم اليوم هي التعدد والتنوع”، وزاد موضحا: “لم يعد هناك في العالم بلد أو مجتمع واحد أحادي التكوين. فكل البلدان والمجتمعات متعددة ومتنوعة عرقيا ولسنيا وحتى عقائديا. وقد أصبح الفرق بين الشعوب المتقدمة والمتخلفة هو قدرتها على التعامل العقلاني مع هذا التنوع والتعدد”.
واعتبر الجامعي ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أنه “عندما يصرخ أنصار التيارات الإسلامية وإيديولوجيوها بأن تخليد حلول السنة الأمازيغية مثلا بدعة وضلالة يجب الوقوف في وجهها، فإنهم لا يمارسون الإقصاء والعنصرية ضد شعب أصلي وأصيل فقط، وإنما يبعثون كذلك برسائل خطيرة مفادها أنهم يرفضون الديمقراطية التي لا يمكن أن تتحقق بدون تعدد وتنوع”.
الخبير في التّطرف شدّد على أنّ هؤلاء “الإقصائيين” لا يعترفون بجزء أساسي من الدستور الذي ينص على أن الأمازيغية، بلسانها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها، مصوغ أساسي للهوية المغربية، وأنه لا يمكن الكلام عن المغرب بدونها، مردفا: “وبهذا يكون متطرفو الإسلام قد تجاوزوا المؤسسة الدينية الرسمية، بما فيها مؤسسة إمارة المؤمنين، ليس قولًا، بل فعلا وسلوكًا”.
وبعد أن أكد أنّ “هؤلاء الإقصائيين يشتركون مع التيارات النيوفاشية التي عادت إلى الظهور في الغرب وتنادي هي كذلك بتنقية الهوية القومية، ولو كان ذلك على حساب إقبار الدستور وتمييع النظام الديمقراطي وإرساء نظام شبه ديكتاتوري يعتمد التمييز بين المواطنين على أساس أصولهم”؛ قال المذكوري إنّ “أهداف هؤلاء وأولئك سياسية سلطوية تحت ذريعة الحفاظ على النقاء القومي أو الديني”.
واعتبر المتخصّص في العنف الأصولي والتطرف أن “ما يحلم به هؤلاء أو يصبون إليه بكل وعي لن يتحقق إلا بإخضاع الحاملين لتلك القيم المخالفة، أو نفيهم إلى خارج حدود ‘إمارة النقاء’، فالمسافة بين ما يقولون واستعمال العنف لتحقيقه مسافة واهية جدًا”.
كما قال المذكوري إن “المجتمعات التي تنظر إلى التنوع والتعدد كثراء وتتعامل معه على هذا الأساس في أغلبها متقدمة وذات حضارة متفوقة؛ فقد ذكر الفيلسوف الاجتماعي أڤيشاي مرگليت في كتابه Decent Societies أن معيار المجتمعات اللائقة ليس تقدمها المادي، بل قدرتها على احترام التنوع والتعدد الذي هو العمود الفقري للديمقراطية”.
وتساءل الباحث ذاته عن دور الدّولة في حماية المواطنين المستهدفين ضد مواطنين آخرين لا يعيرون أدنى قيمة للقيم التي تأسست عليها ثقافة وهوية المغرب، وقال إن “دور الدولة هو التدخل الحازم والحاسم عندما يتجاوز التناظر الاجتماعي الخطوط الحمراء في اتجاه الإقصاء والإبادة الثقافية لشرائح واسعة من المجتمع”.
واعتبر المتحدث أن “من أخلاق المجتمعات الحديثة أنها تخلت عن التدخل في شؤون المواطنين واستعمال العنف دفاعًا عن المصالح للدولة التي لها حق احتكاره”؛ مستدركا: “لكن إذا عجزت الدولة عن جعل كل المواطنات والمواطنين يحسون بالأمن والأمان وبحرية الاحتفاء بذواتهم كما هي فإنه يمكن لنا التساؤل عمن يعيش مشكلًا؛ المواطن أم الدولة نفسها؟”.
ويلاحظ المذكوري أن للدول المتقدمة قوانين وقواعد تحفظ حقوق الجميع مهما اختلفت توجهاتهم وأصولهم؛ ومع ذلك سنجد في كل المجتمعات، شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، أشخاصًا وجماعات وحتى حكومات لا تستسيغ هذا التعدد والتنوع، وتعتبره تهديدا أكثر منه إثراء لمجتمعاتها”، وزاد: “أهم التيارات الواقفة وراء هاته الأفكار هي التيارات ذات النزعات الفاشية”.
ويعود الخبير في العنف الاجتماعي إلى “ما حدث أواسط القرن الماضي من مآسي باسم الحفاظ على نقاء الانتماء والعرق والعقيدة، فكل محاولة لتحقيق ‘النقاء’ الديني أو الإيديولوجي أو القومي تجر في أعقابها ويلات لا يمكن التأكد من حجم كارثيتها إلا بعد فوات الأوان”، وتابع: “بعد أن تخلصت أوروبا من هوسها الديني وأرست قواعد الدولة الحديثة واعترفت بتنوع وتعدد مشاربها، عاشت قرونا من السلم والازدهار المرافق له؛ إلا أن داء الانجرار نحو ‘النقاء’ لم يتم القضاء عليه بشكل نهائي، ما انتهى مرحليا بحربين مدمرتين كادتا أن توديا بالقارة العجوز”.
ويعتبر التّطرف في المواقف من التعدد، حسب المذكوري، من أخطر ما يهدد سلام واستقرار الأمم؛ “فلا نحتاج للكثير من الأدلة لنتأكد أن المجتمعات المسماة إسلامية هي اليوم أكثر ما يعاني من هذه الآفة، ليس لأن الإسلام لم يعد صالحًا للتعايش؛ بل لأنه مازال هناك من يضع مصالحه المادية والمعنوية فوق كل اعتبار، فتراه يستثمر في خلق جيوش من المبشرين والمدافعين عن طروحاته، تحت مسمى “النقاء” العقائدي ووحدة الصف”.
ويرجع المذكوري إلى “هزيمة 67 النكراء التي وضعت حدا مأساويا للحلم القومي العربي، وحركت مكانه حلمًا آخر وهو البديل الإسلامي الذي فرخ تيارات إيديوإسلامية مختلفة حاربت من اعتبرتهم خونة أو من أسمتهم العدو القريب؛ ثم انتقلت لتحارب من أضحت تسميهم العدو البعيد، وأخيرا أعلنت الحرب على بعضها البعض، وعلى من رأتهم كأقليات عميلة لعدو لم يتم تحديده إلى اليوم”.
ويستطرد الباحث ذاته: “هكذا تشكلت عند المسلمين كذلك حربهم الباردة على أساس عقيدي وعرقي. وطبعا لا يمكن رد كل شيء إلى دور السعودية فقط؛ فما قامت به أثار ردات فعل هنا وهناك وساهم في تنوع آخر داخل الحركات الإسلامية وعلاقاتها بمجتمعاتها وبالعالم.. من جماعة متشددة دينيا ومدافعة سياسيا عن الأنظمة القائمة، إلى تيارات كفرت كل الجماعات والأنظمة تلتجئ أخيرا إلى استعمال العنف ووسائل إرهابية أخرى لتحقيق “النقاء” الذي تقول به كل التيارات الإسلامية، بما فيها تلك التي اعتمدت ديمقراطية نسبية”.