الخميس 28 يناير 2021 – 02:35
نظرا لتعقيدات الحياة المعاصرة وهمومها أصبح يعاني الكثير من الناس من المشاكل الصحيّة والنفسية والتي تتعدّد أسبابها، وطرق علاجها، فمنها ما هو خطير وملازم للشخص، ومنها ما هو بسيط وسهل العلاج، ويعد الوسواس القهري من الأمراض النفسية التي يتم تصنيفها إلى أنواع، بناءً على طبيعة الأفكار والتصرفات التي يقوم بها المريض، علما بأن هناك وساوس من الشيطان ووساوس من البشر، ووساوس من النفس الإنسانية الأمارة بالسوء؛ أي وساوس من شياطين الجن والإنس معا؛ بحيث يتم التعاون والتنسيق بينهما من أجل إيذاء مخلوقات الله تعالى قال سبحانه “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا”.
فنحن هنا في هذه المقالة المتواضعة سوف نتحدّث عن إحدى المشاكل النفسيّة التي يتعرّض لها العديد من الناس، والتي ازدادت انتشارا أكثر فأكثر مع ظهور فيروس كورونا السنة الماضية، ومن أخطر هذه المشاكل النفسية اليوم هو ما يسمى بـ “الوسواس القهريّ”، وهو عبارة عن وساوس وتخيلات وأفكار تهاجم عقل الإنسان وتترسخ في وجدانه وعقله وتصبح تحتل الصدارة في حركاته وسكناته وأفعاله وتصرفاته، وتكون هذه الأفكار والشكوك والوساوس قهرية؛ أي أنّه لا يستطيع الشخص التخلّص منها أو الانفكاك عنها مثل ترديده لجمل محفوظة على لسانه أو قيامه بأفعال معينة دون رغبته، وأحيانا قد يؤذي هذا الوسواس المصاب جسديا، وخصوصا عندما يصبح قويا وقاهرا، أما الوسواس الخفيف فهو يحدث عند كلّ شخص خلال فترة من فترات حياته، ولكن الوسواس القهري والقوي يؤثّر في حياة الفرد بشكل كبير، وقد يعيق قدرته على العمل تماما، كما يمكن أن يخلق له مشاكل اجتماعية مع أهله وزوجته وأولاده وجيرانه وأصدقائه والمحيط الذي يعيش فيه، وهناك عدة حالات طلاق تقع في المحاكم الشرعية في العالم العربي والإسلامي بسبب الوسواس القهري، وهو ينقسم إلى عدة أقسام وأنواع، لكن نحن سنقف على نوع واحد من هذه الأنواع، وهو “الوسواس القهري الديني” وهو عبارة عن الشكوك والوساوس والأفكار والتخيلات التي تحيط بعقل المؤمن في شعائره الدينية والعبادات، كغسل الشخص ليديه مرارا وتكرارا، والوضوء عدّة مرات، وإعادة الصلاة، كذلك سيطرة الشكوك الدائمة على الشخص حول عدم إتمامه للصلاة بطريقة صحيحة، فهذه الشكوك والوساوس يشعر الأشخاص المصابون بها أنهم بحاجة للتأكد من أنهم قاموا بالمهام بالشكل الصحيح، فيعاني من أفكار تطفلية ومخاوف تحثه على إعادة التأكد، فيستهلك وقته ويتأخر عن أعماله اليومية بسبب تكرار هذه الأفعال، فأنا شخصيا أعرف أحد الأشخاص وهو صديق لي يذهب للوضوء ليصلي الظهر، فيظل المسكين يعيد الوضوء مرات كثيرة حتى تفوته صلاة الظهر ويدخل وقت صلاة العصر وهو مازال في الحمام يتوضأ! فهذه الوساوس والشكوك التي تحصل للمتدين في إقامة شعائره الدينية والخوف من عدم أدائه الصلوات بشكل صحيح ودقيق، قد تدفع بالإنسان إلى التشدد والتنطع في الدين، ثم إلى العنف والإرهاب أو الإلحاد والخروج من الدين تماما! لهذا نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن التشدّد المفرط في الدين، فقال صلى الله عليه وسلم “هلك المتنطعون” أي المتشددون، كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم بأنّ هذا الدين يسر أي سهل وبسيط ولا داعي للتشدد فيه يقول صلى الله عليه وسلم “يسروا ولا تعسروا..” ويقول كذلك: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولنْ يشادَّ الدِّينُ إلاَّ غَلَبه فسدِّدُوا وقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، واسْتعِينُوا بِالْغدْوةِ والرَّوْحةِ وشَيْءٍ مِن الدُّلْجةِ”.
كما يمكن أن يصاب الإنسان المتدين بالوسواس القهري في ما يتعلق بالطهارة والنظافة بمجرد ما يقرأ مثلا بعض الأحاديث النبوية عن النظافة والطهارة إلى درجة الاهتمام بغسل الأيدي مرارا وتكرارا لدرجة الاحمرار، أو قد يعمل على غسل ثيابه وحذائه بشكل مفرط فيما لو شعر بأنه اقترب من بعض النجاسات أو المواد المحرمة كالدم المسفوح أو لحم الخنزير، أو بعض النجاسات كالبول والغائط ولعاب الكلب أو نحو ذلك، وفي هذ السياق يقول البروفيسور ورئيس قسم النفس في جامعة شمال كارولينا الأمريكية، “جوناثان أبراموفيتز”، إن الوسواس القهري الديني مرتبط بعدة عوامل قد تأتي من التوتر والقلق وكيفية التعامل مع الوساوس والشكوك، مشيرا إلى أن بعض المتدينين يعانون من الوسواس القهري، وأضاف بأن هنالك متدينين مصابين به إلى درجة قد يتجنب الواحد منهم حتى مروره بالكنيسة أو المعبد أو المسجد، لأنه يثير قلقه وخوفه من أن يكون قد ارتكب حراما في حق الدين الذي يعتقده ويؤمن به، لهذا بعض الطوائف اليهودية، على سبيل المثال، لديها قوانين صارمة حول الفصل بين الحليب واللحم، البعض يقدس هذه الفكرة لدرجة أنهم يملكون ثلاجتين واحدة لوضع الحليب والأخرى للحوم، أما المصابين بالوسواس الديني يمكنهم حتى أن لا يقتربوا من ثلاجة الحليب عند حملهم لأي نوع من اللحوم..
كما أن هناك بعض المتدينين من المسلمين يصابون بالوسواس القهري في ما يتعلق بالحلال والحرام، فترى الواحد منهم -وخصوصا الذين يقطنون في الدول الغربية- لا يستطيع أن يأكل أي شيء من خارج بيته لا في مطعم ولا في فندق ولا في أي مكان آخر؛ ولو ببيت صديقه بسبب الوساوس والشكوك التي تحكمت في عقله لا يستطيع الانفكاك عنها، وهذه الوساوس القهرية التي تتحكم في عقول أصحابها فعلاجها يكون من خلال فعل الأشياء التي يستمتع بها الشخص ويحبّها فقط، وخلال فترة سوف يتّعود المخّ ويدرك اللاشعور لدى الشخص أن تفريغ الطاقة يكون فقط بالأشياء التي يرغبها ويحبّها أفضل بكثير من هذه الوساوس، وبالتالي يكون من السهل على الإنسان أن يتخلّص من الوسواس القهري الذي يؤثر بشكل سلبيّ وخطير على حياة الفرد والمجتمع ومن إحدى العلاجات هي: التعوّذ بالله من الشيطان الرجيم، وقراءة سورة الناس “قل أعوذ برب الناس..” و”قل أعوذ برب الفلق..” والاستغفار، والدعاء لله بأن يبعد هذه الوساوس والأفكار السيّئة. إشغال العقل بعمل أو بفكرة أخرى، حتى يقلّ التفكير بهذا الوسواس. تجاهل هذه الأفكار السيّئة، حتّى تتلاشى وتذهب وحدها، القيام بالنشاطات الرياضية والثقافية والترفيهية والفنية وغير ذلك، وكذلك السفريات السياحية، بالإضافة إلى قراءة الكتب الفكرية والثقافية، والتاريخية والعلمية وكتب علم النفس الاجتماعي، وكل ما يغذي العقل بأفكار جيدة إيجابية ستساهم لا محالة في تنمية أفكار الشخص المصاب وستدفعه دفعا إلى الأمل والتفاؤل في الحياة، وبالتالي ستختفي فيروسات الوسوسة من وجدانك وشعورك ومخك أوتوماتيكيا، أما إذا لم ينفع كل هذا ووصل المريض إلى درجة قوية من الوسواس القهري فيجب عليه زيارة الطبيب النفسي المختص.