تحركات دينية مكثفة لأنقرة في أمريكا اللاتينية لتحقيق أهداف سياسية؛ فبعد توظيف بناء المساجد في أوروبا وإفريقيا لتنفيذ أنشطة ترمي إلى خدمة مصالحها، انتقلت تركيا هذه المرة إلى أمريكا اللاتينية، حيث قدمت 7 آلاف كتاب ديني إلى المسلمين في الأرجنتين، بينها نسخ من القرآن مترجمة إلى الإسبانية، بدعوى مساعدتهم في تعلم الإسلام من مصادر وصفتها بـ”الصحيحة”.
ووفق ورقة بحثية منشورة في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، فإن تحركات أنقرة في أمريكا اللاتينية تتجاوز البعد الديني–الثقافي؛ حيث شهدت السنوات الأخيرة تنامي الحضور التركي، سياسيا واقتصاديا، في القارة اللاتينية، وذلك على النحو التالي:
1. نشاط دبلوماسي مكثف:
خلال السنوات الأخيرة سعت أنقرة إلى توسيع شبكة التمثيل الدبلوماسي لدى دول أمريكا اللاتينية، وتمّ رفع مستوى العلاقات بين تركيا من جهة، والمكسيك والبرازيل من جهة أخرى، إلى مستوى “الشراكة الاستراتيجية”، إضافة إلى تأسيس آلية للتشاور السياسي مع 17 دولة في أمريكا اللاتينية.
2. حضور اقتصادي متزايد:
تضاعفت قيمة التبادل التجاري بين تركيا وأمريكا اللاتينية ثلاث مرات تقريبا بين عامي 2006 و2017، من 3.4 مليارات دولار إلى 9.2 مليارات دولار.
ووقّعت أنقرة اتفاقيات للتعاون الاقتصادي والتجاري مع 18 دولة في أمريكا اللاتينية والكاريبي، وقامت بعقد اتفاقات لإقامة منطقة للتجارة الحرة مع عدد من التجمعات الاقتصادية بالمنطقة. وتهدف كافة تلك الجهود إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع أمريكا اللاتينية ليصل إلى 20 مليار دولار بحلول عام 2023.
3. توظيف مصادر القوة الناعمة:
قامت أنقرة بتوقيع اتفاقيات للتعاون في المجال العلمي والأكاديمي مع العديد من دول أمريكا اللاتينية، وافتتحت المراكز الثقافية والبرامج والأقسام المتخصصة في تعليم التاريخ، واللغة، والثقافة التركية، في بعض الجامعات اللاتينية. إضافة إلى تقديم المنح التعليمية لطلاب أمريكا اللاتينية والكاريبي. وفي أكتوبر 2017، افتتحت وكالة الأناضول للأنباء مكتبها الإقليمي بالمنطقة، في بوجوتا بكولومبيا، وبدأت مزاولة نشاطاتها باللغة الإسبانية.
واكتسبت المسلسلات والبرامج التلفزيونية التركية شهرة واسعة في معظم دول المنطقة، وساهمت في تنامي الاهتمام بالثقافة التركية، وزيادة تدفق السائحين من أمريكا اللاتينية إليها، إلى جانب تقديم أنقرة المساعدات الإنسانية والإنمائية والتقنية لبعض دول أمريكا اللاتينية من خلال الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا).
مصالح حقيقية
تعكس التحركات المكثفة لأنقرة في أمريكا اللاتينية، رغبتها في تحقيق أهداف سياسية واقتصادية، تتجاوز تلك المعلنة، من قبيل مساعدة المسلمين هناك، تبعا للمقالة التحليلية، وذلك كما يتضح فيما يلي:
1. تعزيز المكانة الدولية:
يُعدّ توسع تركيا المتزايد في أمريكا اللاتينية أحد مكونات أجندة السياسة الخارجية للرئيس “أردوغان”، التي تستهدف ترسيخ مكانتها الدولية كقوة إقليمية ذات ثقل ونفوذ عالمي، وتُمثّل أمريكا اللاتينية مؤشرا مهما على امتداد قدرة تركيا على التأثير من النطاق الإقليمي إلى العالمي.
من هنا، جاء حرص أنقرة على تطوير العلاقات الثنائية مع دول القارة اللاتينية في مختلف المجالات، وكذلك الانخراط في بعض الأزمات السياسية التي تشهدها دولها.
2. تحدي الهيمنة الأمريكية:
يرى القادة الأتراك أن علاقاتهم الوثيقة مع دول أمريكا اللاتينية تنقل رسالة مفادها أن تركيا دولة مستقلة لن تسمح لواشنطن بتحديد الدول التي تتعاون أو تتاجر معها، خاصة مع تفاقم الخلافات التركية الأمريكية بشأن بعض القضايا الإقليمية.
وبناء على ذلك، انخرطت الحكومة التركية في الأزمة السياسية في فنزويلا، عقب اندلاع صراع على السلطة بين الرئيس “نيكولاس مادورو” والمعارضة منذ يناير 2019.
ودعمت الولايات المتحدة زعيم المعارضة “خوان جوايدو” ضد “مادورو” المدعوم من قبل أنقرة.
وجاء دعم الرئيس التركي لمادورو في ظل التقارب القوي في رؤى وتوجهات الرئيسين بشأن تحدي الهيمنة الأمريكية على العالم.
3. الترويج لنموذج “الإسلام التركي”:
من خلال قيام وكالة التعاون التركية بدعم أعمال تجديد مسجد السلام في سانتياجو، وتطوير الديكور الداخلي لمسجد أبي بكر الصديق في بوجوتا، وبناء مسجد جديد في هايتي، وإرسال الكتب الدينية المترجمة، تسعى أنقرة إلى تصدير “نسختها الخاصة” من الإسلام، باعتباره إسلاما سنيًّا “معتدلا” و”متسامحا”، وهو ما يُعزز من نفوذها الثقافي ويُحسن من صورتها الذهنية بين مسلمي أمريكا اللاتينية من ناحية، ويدعم روايتها الخاصة بأحقيتها في قيادة العالم الإسلامي من ناحية أخرى.
4. تنويع الشراكات الاقتصادية:
تسببت السياسات التوسعية التركية في منطقة الشرق الأوسط في حدوث فتور في العلاقات الاقتصادية التركية مع شركائها الرئيسيين في المنطقة.
ووجدت أنقرة في أمريكا اللاتينية بديلًا جذابًا، بالنظر لكونها سوقًا ضخمة تضم 600 مليون شخص، لذلك عملت على توثيق العلاقات الاقتصادية مع دولها في ظل حاجتها إلى بدائل لشركائها الاقتصاديين التقليديين.
بالنسبة لبعض دول أمريكا اللاتينية، وتحديدًا فنزويلا، تقدم تركيا خيارًا يساعدها على الالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة عليها.
وكشفت وسائل إعلام غربية عن تورط أنقرة في عمليات تهريب الذهب من فنزويلا، رغم العقوبات المفروضة على نظام “مادورو”، وذلك مقابل الإمدادات الغذائية الأساسية التي تقدمها أنقرة لفنزويلا التي تعاني من أزمة اقتصادية حادة.
تداعيات متنوعة
يمكن أن يكون للحضور التركي في أمريكا اللاتينية تداعيات مهمة على دولها، تلخصها الورقة في تعميق العلاقات المتوترة مع واشنطن، حيث أدى تطور العلاقات الاقتصادية التركية مع فنزويلا إلى أن تصبح الأخيرة إحدى نقاط التوتر بين أنقرة وواشنطن؛ إذ اعتقد كبار المسؤولين الأمنيين في عهد الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” أن فنزويلا تستخدم تركيا للالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة على كاراكاس، كما اعتقد مسؤولون أمريكيون أن جزءا من كمية الذهب الفنزويلي المهرب من قبل تركيا قد يشق طريقه إلى إيران في انتهاك للعقوبات المفروضة على طهران.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي العلاقات التجارية التركية مع أمريكا اللاتينية إلى تعزيز التوجهات غير الديمقراطية السائدة في بعض دول المنطقة.
وساهم دعم أنقرة، إلى جانب بعض القوى الأخرى وفي مقدمتها روسيا وإيران، لبعض النظم في أمريكا اللاتينية، خاصة نظام “مادورو” في فنزويلا، في مساعدة هذه النظم على البقاء والاستمرار.
كما تحدثت الورقة عن تصاعد ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، حيث شهدت أمريكا اللاتينية خلال السنوات الأخيرة تصاعد ظاهرة العداء والخوف من الإسلام والمسلمين، عقب وقوع بعض التفجيرات الإرهابية في الأرجنتين عامي 1992 و1994، يُتهم بتنفيذها حزب الله اللبناني.
بالإضافة إلى الكشف عن عملية إرهابية كانت تستهدف دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي نظمتها البرازيل عام 2016، تتهم عناصر من جماعة الجهاد الإسلامي بالتخطيط لها.