بألف تحية نحييك وبألف أخرى نرحب بك. فأنت قد حللت برحاب المملكة الشريفة، ومن دخلها فهو قرير العين وسيمكث في حضنها تحت رعاية كبيرها وصغيرها. فالمغاربة بطبعهم شعب منفتح على الجميع متواصل مع القاصي والداني. أخلاقهم وقيمهم مبنية على السلم والتعايش بين مختلف أبناء الطوائف الدينية مسلمة ويهودية ومسيحية على حد سواء. هذا هو تاريخ المغرب وهذه هي حضارته لقرون خلت وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فسياسة المغرب في هذا المجال منذ أن عرف للبشرية وجود على هذه الأرض التي أرادها الله أن تكون ملتقى لكل الحضارات الضاربة في القدم من شمالها وجنوبها وشرقها، كانت ثمرة هذا الرصيد التاريخي ومن ثمراته ذلك التعايش الذي جبل عليه المغاربة قديما وحديثا. وأبناء الطائفة اليهودية لم يكونوا يوما ما غرباء عن هذا التاريخ، بل إنهم ساهموا في صناعته وكان منهم رجال مقاومة. رجال أبانوا عن وطنية صادقة وتفان في خدمة هذا الوطن. عاشوا في رحاب هذه المملكة حماهم ملوك المغاربة من بطش أنظمة فاشستية. وذاكرتهم كما هو لسان حالهم يحفظون بكل اعتزاز مواقف المرحوم الملك محمد الخامس، ورعايته لهم بعد أن تحدى حكومة فيشي التي طالبت بتسليم اليهود المغاربة بنية الإجهاز عليهم. واعتبر جلالته آنذاك أن أولئك اليهود هم رعاياه، وأن أي مساس بهم هو مساس بواحد من أبنائه الأمراء. وما زال من بين اليهود المغاربة اليوم في إسرائيل من عاش هذا الحدث ونقله إلى أبنائه وأحفاده، ليصلوا الماضي بالحاضر في التفاني بكل صدق وإخلاص لوطن اسمه المغرب. ونسجل هنا أن أبناء هذه الطائفة هي أكثر تعلقا بوطنها الأصلي من بقية الطوائف الأخرى ويتجلى ذلك في عاداتهم وتقاليدهم التي هي عادات مغربية كما نحييها نحن المسلمون، حملوها معهم إلى إسرائيل، ومنها أعياد أصبح يحتفى بها وكأنها أعياد وطنية.

ولذلك، حينما نرحب بالسيد “دايفيد عوفرين” فالترحيب به له خصوصية مزدوجة، أولا بصفته ممثلا لدولة إسرائيل ككيان بعد أن قررت المملكة المغربية استئناف العلاقات بشكل رسمي مع التأكيد أن تلك العلاقات ظلت قائمة على عدة مستويات، وثانيا بصفته ممثلا لأكبر طائفة يهودية من الشعب الإسرائيلي لها ما لها من ارتباطات بوطنها الأم وهو ما يلقي مسؤولية جسيمة على عاتق السيد “عوفرين”. ونؤكد له أن مهمته في المغرب بقدر ما هي مهمة سهلة بحكم تواجد يهود مغاربة نافدين في دواليب الدولة، بقدر ما هي كذلك صعبة تفرض عليه واجبات وأعباء تدعوه إلى النهوض بها إلى مستوى جيد من تطلعات كما يريد أن يراها اليهود المغاربة في وطنهم المغرب.

فهذا الرصيد التاريخي لا يمكن محوه بجرة قلم واحد أو واحدة يرى أو ترى في نفسها يسارية ولا برسائل إعلامية من قيادة حزب العدالة والتنمية. وننصح السيد “دايفيد عوفرين” ألا يلتفت إلى مثل هذه الخرجات فهي لا تمثل إلا أصحابها، وكذلك حال بعض التنظيمات أو الهيئات التي لا وجود لها إلا على الورق، وهي ليست لها امتدادات شعبية. وخيارات الشعب المغربي هي جزء لا يتجزأ من خيارات ملك. وقد خرج أبناء هذا الشعب ليباركوا هذه العلاقات مع دولة إسرائيل. خرجوا عن بكرة أبيهم في مختلف المدن المغربية، وكذلك فعل اليهود المغاربة في إسرائيل.

القومجيون وبعض التيارات اليسارية والإسلامويون يعيشون اليوم لحظات انتكاسة بعد هذه التطورات التي عصفت بهم. كما كشفت هذه التطورات عن حقيقة أمرهم ليتضح بالملموس أن شغلهم الشاغل ليس القضية الفلسطينية ولو كان الأمر كذلك لاستبدلوا الكوفية بالبندقية. ففلسطين كما يدعون لا تحرر بالشعارات. وقد يحضروني في هذا الصدد أن الرئيس الجزائري بوضياف كان على شرفة قصر الرئاسة ومعه وزير الدفاع خالد نزار يطلان على مظاهرة حاشدة تدعو إلى تحرير فلسطين. وفي تلك اللحظة أبلغ الرئيس الجزائري عن طريق حراس القصر جمهور المتظاهرين بأن الجزائر على استعداد غدا لتجهيز طائرتين لحملهم إلى الجهاد في سبيل تحرير فلسطين. وما هي إلا لحظات حتى تفرقت الجموع على أدبارها خاسئة. هذا هو النفاق وهذا هو حال الأصوات النشاز التي تزايد على المغاربة بالكلام الذي لا يسمن ولا يغني. كما أن شغلهم الشاغل ليس هو إقامة العلاقات مع إسرائيل من عدمها بل ما قد ترتب عن ذلك من مكاسب سياسية ودبلوماسية شكلت محطة فاصلة في تاريخ المغرب المعاصر وفي تعزيز وضعيته على الصعيد الإقليمي والدولي.

الداعون إلى مناهضة استئناف المغرب علاقته مع إسرائيل ومحاربة ما يسمونه بخطوات التطبيع من داخل مؤسسات الدولة وطنيا ومحليا إنما يريدون من ذلك حرمان الدولة المغربية من تلك المكتسبات التي تحققت لأن في ذلك الحرمان إضعاف الدولة وفي إضعافها سيشمتون. ظاهريا يتشدقون أنهم مع الوحدة الترابية ومع مغربية الصحراء ولكنهم في الوقت نفسه يدمرون كل الجسور التي تؤمن العبور ويعملون ضد كل ما يمكن أن يحسم في قضيتنا الوطنية بشكل نهائي. إنهم في نهاية المطاف يضعون أنفسهم في خندق واحد مع أعداء المغرب ويلتقون مع النظام الجزائري في كونهما يتطلعان إلى أن يخرج الرئيس الأمريكي الجديد “جو بايدن” بموقف يرضيهم وهو التراجع عن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء.

هذه الفئات الضالة كي لا أصفها بالمتآمرة، لن تنال من سياساتها التضليلية إلا بما يعود عليها بخفي حنين. وقد أصبحت هذه الفئات مكشوفة لدى الشعب المغربي وخطاباتها السياسوية ليست لها أية مصداقية بسبب سلوكها المقرف والمشين في حياتها الخاصة. فهذا الذي يدعي أن الوجود الإسرائيلي في المغرب سينفث سمومه في المجتمع المغربي فهو أولا يطلق أحكاما ولا يبررها، فالبينة على من يدعي. وثانيا قد نسي نفسه أنه هو الأداة السامة في هذا المجتمع. فكيف لهذا الذي ينصب نفسه بالواعظ أن يقدم النصيحة وهو متورط في فضائح أخلاقية كأن يقدم قريبته قربانا للأخونجي والإعلامي الشهير أحمد منصور تحت مسمى الزواج العرفي الذي لا تعترف به القوانين المغربية، كما هو متابع كذلك قضائيا بتهمة المشاركة في مقتل الطالب أيت الجيد بنعيسى. “لو كان الخوخ يداوي لداواى راسو”.

فالسموم الحقيقية هي تلك التي تحاول هذه الفئات أن تسمم بها الذات المغربية. أما المغرب كدولة ضاربة في القدم لها ما يكفي من مناعة لمواجهة كل التحديات فهو أكبر من تنال منه كل المؤامرات من الداخل ومن الخارج. أما علاقته بإسرائيل فهي علاقة تفرضها خصوصية المغرب وتميزه عن بقية الأقطار العربية. كما أن إسرائيل ليست عدوة للمغرب كما يحاول البعض أن يروج لذلك، فهي دولة صديقة والعلاقات معها طبيعي أن تكون مبنية على المصالح المتبادلة. فلا وجود لسموم ولا هم يحزنون. السموم موجودة في قواميس أصحاب الفكر الظلامي، فهم مناهضون للمغرب قبل أن يكونوا مناهضين لإسرائيل. وما قد يأتي من إسرائيل فد لا يكون إلا عسلا أو ماء زلالا. وبالأمس تابع كل المغاربة فروض الولاء والطاعة التي حرص عليها الرجل الثاني في إسرائيل “مائير بن شبات أمام جلالة الملك. وها هو هذا اليهودي المغربي يسارع اليوم إلى الاتصال بنظيره الأمريكي في مجلس الأمن القومي بمجرد أن تم تعيينه على رأس هذا الجهاز في إدارة “جو بايدن”. وحرص كذلك على أن يبلغ الجانب المغربي بفحوى مكالمته الهاتفية. كل ذلك يحصل ولا حياة لمن تنادي عند أولئك الذين ماتت فيهم الروح الوطنية، ويريدون أن نصدقهم. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.

hespress.com