مدخل
مرت سنة على المؤتمر الوطني الرابع لحزب الأصالة والمعاصرة المنعقد بالجديدة شهر فبراير 2020. ولعلها مدة زمنية مواتية (نسبيا) لتقييم المسارات السياسية للحزب لما بعد مؤتمره الأخير. ولأن تفاصيل كثيرة ترتبط بالمسائل التنظيمية وبمجريات المؤتمر لن تجد موقعها في سياق هذه الكتابة لاعتبارات متعددة ليس هنا مجال التطرق إليها، فإننا نعتزم في المقابل إثارة الأسئلة السياسية المترتبة عن هذه المحطة وما أفرزته من تداعيات وتقاطبات وتراجعات تسمح اليوم بمقاربة المشروع السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة مع ما يستدعي ذلك من معالجة نقدية تترفع عن إثارة أشباه القضايا والأسئلة المغلوطة.
وحري بالذكر في هذا المقام بأن الكتابة النقدية عن الشأن الحزبي عموما، وعن تنظيم حزبي بعينه خصوصا، تفترض، فيما تفترض، توفر الحدود الدنيا المعقولة في قواعد التحاور السياسي، وفي قواعد الممارسة الديمقراطية بما تقتضي من أخلاقيات مؤطرة للسلوك السياسي، ثقافة وممارسة، وبما تعنيه كذلك من ضوابط تنظيمية سواء في علاقة الحزب بالقانون المؤطر للأحزاب السياسية، أو في علاقته بالأنظمة القانونية المصادق عليها في مؤتمراته، أو في علاقته بالمجتمع، بما أن الحزب-نظريا-يمثل التطلعات والمصالح الموضوعية لفئات معينة من المجتمع، وينتصر لخيارات سياسية وثقافية ومجتمعية تميزه عن باقي الفرقاء السياسيين، وتضفي عمليا على تواجده في الحقل السياسي مشروعية معينة، قائمة على هوية سياسية، ورؤية محددة لإدارة الصراع السياسي وتحديد تموقعاته (الموضوعية) في المشهد الحزبي، أو في علاقته بمناضلاته ومناضليه.
ولأن هذه الشروط ما فتئت تتلاشى في المشهد السياسي العام، فإنها تشكل اليوم إحدى العناوين البارزة في أزمة المشروع السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة لاعتبارات سنتطرق لبعضها في ثنايا هذه المقاربة. وفي المقابل، فإنني أدرك تمام الإدراك بأن الكتابة عن الظاهرة الحزبية تكاد تكون محسوبة على رؤوس الأصابع في بلادنا، فإنها بالمثل تكاد تنعدم كممارسة نظرية واعية وناضجة داخل حزب الأصالة والمعاصرة، مع استثناءات قليلة. ولعمري أن هذا مظهر من مظاهر السياسية بالمغرب بعد أن تحول الحزب السياسي إلى وكالة انتخابية أعدمت كل الأدوار المفترضة (والضرورية) للفكر السياسي، والتناظر الفكري، والسجال النقدي البناء. وبعد أن تم تحقير أدوار المفكرين والمثقفين والاستعاضة عنها بلعبة المصالح الانتخابية الظرفية التي ساهمت في ترسيم وتوسيع الشرخ بين الشعب والسياسة، بين الناخبين والمنتخبين.
ولعل الكتابة اليوم عن حزب الأصالة والمعاصرة ما بعد مؤتمره الرابع بقدر ما تتطلع (بكل التواضع الممكن) لأن تشكل توثيقا فكريا، وشهادة سياسية عن مرحلة مهمة من تاريخ بلادنا، بقدر ما تعلن أنها ليست ترفا فكريا أو نظريا، ولا هي من قبيل الحوار الداخلي، ولا هي ورقة لإضفاء الشرعية على “فاعلين” شاركوا، بوعي أو بدون وعي، في مسخ هوية وأدوار هذا المشروع، بقدر ما هي مسؤولية وواجب سياسي (بمعناه الواسع) تجاه الذات، وتجاه الوطن، وتجاه المجتمع، وتجاه من تعاقدنا معهم للانخراط في هذا المشروع خدمة لمصلحة بلادنا في ظروف إقليمية ومحلية صعبة قدرناها على قدر ما كانت تفرضه من تقدير وتضحيات وتحديات إلى جانب العديد من الفاعلات والفاعلين المنتمين لمشارب مختلفة، واتجاه مشروع سياسي أريد له أن يكون معادلة حقيقية للدفاع عن الاختيار الديمقراطي، ورافعة لدعم ومواكبة مسارات المصالحات السياسية والحقوقية والتنموية، وواجهة لتحقيق التوازنات السياسية والمجتمعية المطلوبة في سياق دولي رهن العديد من الأنظمة الوطنية لدى صناع القرار العالمي، وأجهز على دول كاملة بسبب الرهانات الجديدة للنظام العالمي الذي كان، ولا يزال، يستهدف مناطق بعينها.
واليوم، بقدر ما نستحضر السياقات السابقة وسياقات الوضع الجديد، مع ما أنجزته بلادنا من انتصارات لم تكن سهلة ولا هينة، بقدر ما نستحضر أزمة السياسة في المغرب، بعد التراجعات الملحوظة في الأدوار السياسية للأحزاب الوطنية، وبعد ما كشفه الوباء اللعين العابر للقارات من هشاشة وخصاص وعوز لدى فئات عريضة من الشعب المغربي، وبعد انهيار وظائف الوساطة (تلك التي كانت تسمى في المعجم السياسي بالتعبئة والتأطير المجتمعي) واتساع مسببات وعوامل وعناصر اللاثقة بين الشعب والمؤسسات المنتخبة، في مقابل العودة الحاسمة للأدوار المركزية للدولة الوطنية وما أعلنته من حاجة متجددة لتقوية ورعاية وتحصين أدوارها الاجتماعية.
وحسبنا أن تجربة حزب الأصالة والمعاصرة بالنظر للرهانات السياسية التي أعلنت غداة تأسيسه لا تسائله اليوم من بوابة تقييم الحصيلة فقط، بل تسائله من مدخل سؤال مركزي: هل ما زالت الحاجة لحزب الأصالة والمعاصرة اليوم، وبأي ثمن، وبأي معنى، ولأية رهانات؟ أو لنطرح السؤال بصيغة أخرى: هل انتهت صلاحية الشعارات التي أسس من أجلها وأعلنها في المشهد العام دفاعا عن علة وجوده؟
إننا نتطلع لقراءة المسارات السياسية لحزب الأصالة والمعاصرة بعد مؤتمره الوطني الرابع، انطلاقا من عنوان مركزي يسائل الهوية المعطوبة للحزب. وهو عنوان سنستدل عليه بمناقشة القضايا الآتية:
1. مؤتمر بدون بوصلة سياسية
2. مؤتمر بدون مشروعية ديمقراطية
3. حزب بدون أجهزة تمثيلية
4. ديمقراطية اجتماعية بدون رؤية سياسية واقتصادية
5. الانتصار الماكر لأعيان الانتخابات
6. من المصالحات إلى الاعتذار البليد للعدالة والتنمية
7. سلطة الدولة أم سلطة الحزب
8. مؤتمر القطيعة الملتبسة مع أسباب التأسيس
9. حزب الأصالة والمعاصرة وأسئلة الهوية المعطوبة