لَم تهز شعارات 20 فبراير 2011 جنبات ساحة “باب الحد” في الرباط، بعدما حضر المنع، بسبب تدابير حالة الطوارئ الصحية، إحياء الذكرى العاشرة لانطلاق “حراك المغرب”.
10 سنوات مرت منذ خرج مواطنون، من انتماءات وآفاق وأعمار وأوساط مختلفة، ليخرج الملك محمد السادس يوم 9 مارس 2011 معلنا إصلاحا دستوريا شاملا، مع التزام راسخ بإعطاء دفعة قوية لدينامية الإصلاح العميق، جوهرها منظومة دستورية ديمقراطية.
وبعد عقد كامل على حراكات “الربيع” في المنطقة المغاربية والعربية، تحضر “20 فبراير”، في صفوف من شاركوا فيها، وتابعوها، بتعبيرات لكل منها حمولتها: “فرصة ضائعة”، “حراك مجهض”، “حركة أفشلت نفسها” “استوفت ممكناتها”… وتتعدد مصائر من عاصروها؛ فمنهم، اليوم، الوزير، والمسؤول، والمتواري إلى الخلف، واللاجئ السياسي، والقابع وراء القضبان، والمستمر في “السعي نحو الديمقراطية”. ويبقى سؤال “المابعد” مطروحا.
ذكرى “20 فبراير”
في استمرار لنفَسه الوطني الذي ربط المدن والقرى، توالت الدعوات لإحياء ذكرى الحراك المغربي، في عدد من المناطق الحضرية والقروية بالمملكة، دون أن يكون مصيرها واحدا في زمن “الطوارئ الصحية”.
ووفق الحصيلة التي نشرتها “الجبهة الاجتماعية” و الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، منع تنظيم وقفات تخلد ذكرى الحراك في 16 مدينة، من بينها الدار البيضاء وفاس وطنجة والناظور والراشيدية والرباط؛ في حين نظمت الوقفات في 27 مدينة، من بينها مراكش وتارودانت ومكناس والحسيمة والمحمدية وأزيلال.
في العاصمة الرباط، التي شهدت “تدافعا” من أجل تفريق المحتشدين لإحياء ذكرى الحراك، قالت خديجة الرياضي، الرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، بعد عشر سنوات من الحراك الذي انطلق “من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإسقاط الفساد والاستبداد (…) نجد قمعا شديدا، ومنع حتى الحق في الكلمة والتظاهر السلمي، والوقوف من أجل تخليد هذه الذكرى”.
وتزيد الحاصلة على جائزة الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان في تصريح استقي بعد منع الوقفة: “بعد عشر سنوات (…) نجد أن الاستبداد تغول، والفساد تزايد، ولهذا تستمر شعارات حركة عشرين فبراير ليطلق سراح كافة معتقلي الرأي، والمعتقلين السياسيين من السجون، ومن أجل الحقيقة في ملف شهداء عشرين فبراير، ومن أجل مغرب الديمقراطية وحقوق الإنسان، الذي لا يكون فيه الفساد ولا يكون فيه الاستبداد”، قبل أن تجمل قائلة: “هذا فقط يوم، والنضال طول السنة، وباستمرار، من أجل مغرب الديمقراطية”.
لَم يكن “20 فبراير” مجرد يوم انطلقت بعده احتجاجات في الشوارع المغربية، بل نفَسا عاما، يسّر “الانتفاض”، بشعارات تدين “الفساد والاستبداد”، أججت النقاش حول الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية بالمملكة، وبقيت حاضرة في عدد من الحركات الجهوية التي تلته، بل وفي الخطاب الرسمي، الذي من نماذجه ما قاله في مجلس النواب، سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة، حول “وفائه لشعارات العشرين من فبراير” علما أن “الكثير من الأمور التي نادى بها الشباب تم تطبيقها، وجزء منها لم يطبق، وذلك من باب الإنصاف”.
من بين الأطاريح التي قرأت لحظة الحراك ما كتبه المؤرخ المصطفى بوعزيز. ففي نص تركيبي تلا كتابه “الوطنيون المغاربة في القرن العشرين” الحاصل على جائزة المغرب للكتاب، سنة 2020، وصف الأكاديمي 20 فبراير بكونها: “انفجارا بركانيا مفاجئا لجميع الفاعلين، لكنه آت من الأعماق المغربية”.
ولتفسير الأهمية التاريخية لهذا الحراك، عاد المؤرخ إلى السنتين اللتين سبقتاه، وعرفتا ما معدله، حركتان احتجاجيتان كل يوم، ثم زاد قائلا: “رغم حجم واتساع رقعة هذه الحركات الاجتماعية المحتجة على الواقع الاجتماعي القائم. هذا الغضب الآتي من الأعماق كان يبدو بالنسبة للممسكين بالسلطة قابلا للتدبير والتحكم، لأنها حركة متفرقة ومجزّأة تعبر عن مطالب خاصة وقطاعية، ولأنها لم تكن تنتج معنى ذا بعد وطني، ولم تبلور شكلا تنظيميا قادرا على تجميع وتوجيه حمولة الغضب التي تعبر عنها”.
كان هذا قبل تحول “الإرهاصات التي برزت في الفضاء الأزرق” إلى “حركة 20 فبراير، التي كانت تنزل كل أسبوع ما بين 40 ألفا و300 ألف متظاهرة ومتظاهر، فيما بين 40 و180، مدينة وقرية”.
وعما مكن اتساعَ رقعة “الحركات الاجتماعية المحتجة على الوضع الاجتماعي القائم”، التي عرفتها مرحلة “20 فبراير”، كتب بوعزيز أن “اعتدال المطالب السياسية، من ملكية برلمانية ودستور ديمقراطي شعبي، والسلمية، ومناهضة الزبونية والفساد، عناصر ساهمت في اجتذاب الطبقات الوسطى، وأطراف من رجال الأعمال والجامعة والآداب والفنون، وعدد من رموز المجتمع المدني الذين التحموا مع الشباب”.
عودة إلى “الانتفاض”
يفضل الأكاديمي سعيد بنسعيد العلوي، في كتابه “العدالة أولا: من وعي التغيير إلى تغيير الوعي”، الحديث عن الحراكات التي شهدها العالم العربي، قبل أزيد من عشر سنوات، بوصفها “انتفاضا”.
وفي تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، ينفي سعيد بنسعيد أن تكون ما شهدته المنطقة “ثورة”، نظرا لأن هذه الأخيرة “تشمل نواحي الوجود الاجتماعي والوجود الفكري ويكون تعبيرها إيديولوجيا”، بينما ما عرفه العالم العربي فيما يصطلح عليه بـ”الربيع العربي” هو “انتفاض”؛ لأنه “حركة تكاد تكون عفوية، وليست لها نظرية فكرية تسندها، ولا تصور سياسي واضح مسؤول بتخطيط وبزعامة”.
وما ميز “انتفاض 20 فبراير”، وفق الأكاديمي، كون الناظم بين من دعوا إليه هو: “رفض واقع يستحق الرفض، من وجهة نظرهم، بتوصيف لواقع لا يمكن إلا أن يكون مرفوضا”.
بينما يرى عبد اللطيف اللعبي، شاعر مناضل حقوقي، أن أهمية “حركة 20 فبراير” تكمن في بروزها في المرحلة التاريخية التي برزت فيها، وإحداث شبيبة جيلها “قطيعة على المستوى السياسي والإيديولوجي والفكري والممارساتي”، وهو ما “كان حدثا مهما جدا”.
ويذكر أبوبكر الجامعي، أكاديمي مدير تحرير “لوجورنال” المتوقفة عن الصدور، أن “ربيع الشعوب” كان له حجم كبير حتى في المغرب، وكانت “20 فبراير” دليلا على أن الحركة في المغرب “تتم تحت الضغط”، وقدم مثالا بخطاب مارس 2011 الذي كان “إعادة توزيع للأوراق، واعترافا بأن التركيبة المؤسساتية للبلاد لم تستجب لتطلعات المغاربة”، بعدما كان يُعتَبر المطالبون بتغيير الدستور في العقد الذي سبق 2011 “مناهضين للنظام، بل وضد الملكية”.
ويصف الجامعي “20 فبراير” بكونها “حركة نخبوية”؛ لأن “من أطَّرها رواد ونخبة”، مقدما مثالا بـ”كمال العماري الذي اغتيل بآسفي في احتجاجات عشرين فبراير، وكان حارسا في مرفأ بالمدينة، وهو حاصل على الإجازة في تخصص علمي، وكان من الرواد في محيطه”.
أما بالنسبة لرشيد أوراز، باحث رئيسي بالمعهد المغربي لتحليل السياسات، فإن “20 فبراير” مثال على “عدم وجود استثناء مغربي في هذه المنطقة”؛ لأنها كانت “نتيجة مباشرة لحراك وانتفاضات اجتماعية وثورات، تختلف في الحدة حسب كل مجتمع من المجتمعات، وبما أنه جاء بسياق خارجي على مستوى جهة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.
في حين يصف امحمد جبرون، مؤرخ باحث في الفكر السياسي، حراك 20 فبراير بـ”الحدث الاستثنائي”، مضيفا أنها “حركة شارع كان رهانها، بشكل عام، تحقيق حد أدنى من التقدم على المستوى الديمقراطي، وأن تصير ديمقراطيتنا أكثر متانة من ذي قبل”.
جنازة حركة؟
تتعدد القراءات لمآل حراك 20 فبراير ومسببات ذلك؛ لكن تبقى نقطة التقائها أنه، بعد عشر سنوات، ليس واقع البلاد قريبا من الآمال المعبر عنها.
عبد اللطيف اللعبي، الذي عاش تجربة النضال السياسي والحقوقي وسجن بسبب نشاطه السياسي في سنوات السبعين، يرى أن حراك 20 فبراير قد أجهض.
يقول اللعبي في حديثه مع هسبريس: “للأسف، أظن أن هذا الحراك، الذي تم منذ عشر سنوات، أجهض، ولو بشكل مغاير، كسائر الحراكات الاجتماعية التي نمت”، ويزيد: “المشهد الحالي للأسف كئيب؛ لأن الشعلة، التي كانت قوية وحارة في تلك المرحلة، صارت أقل حرارة في المرحلة الراهنة”.
وحول المسؤولين عن هذا “الإجهاض”، يرى عبد اللطيف اللعبي أنه المسؤولية “مقتسمة إلى حد ما”؛ فـ”مسؤولية النظام القائم أساسية طبعا، لمواجهته هذه الآمال المعبر عنها بمحاولة إغرائها بمشروع تغيير دستوري، وبتوجه نحو سياسات مغايرة، في نوع من الخدعة التي نجحت إلى حد بعيد في تلك المرحلة”. كما أن “عدم نضج الحركة الاحتجاجية نفسها” سبب من الأسباب.
ويرى اللعبي أن “عدم النضج” هذا “ملاحظ في جميع الحراكات في مختلف الأقطار العربية”، وآخرها في الجزائر، وقبلها في مصر؛ لأنها “لم تتنبه مبكرا، للأسف، إلى شيء أساسي هو أن الاحتجاج وفضح القمع واللامساواة وفضح المساس بالحريات العامة وانعدام الديمقراطية لا يكفي للحصول على تغييرات أساسية، بل يجب أن يكون هناك نوع من التنظيم، والأرضية السياسية، والأرضية الفكرية الشاملة التي يمكن أن تُطرَح كبديل لما هو قائم مجتمعيا وسياسيا وثقافيا في البلاد”.
ومن بين مشاكل الحركة، وفق اللعبي، أنها “لم تستطع التكون كقوة سياسية، وحركة اجتماعية يمكن أن تضغط على النظام للحصول على مجموعة من المكتسبات الديمقراطية”؛ وهو “مشكل يبدو، تاريخيا، أنه هيكلي في الحركات من هذا النوع”.
بدوره، يقول الأكاديمي والصحافي أبوبكر الجامعي إن “طاقة عشرين فبراير لا تزال موجودة بقياس المعطيات التي جاءت في سياقها”.
ويلخص الجامعي هذه المعطيات في معطى “بطالة الشباب في المدن”، الذي يرى أن “مشاكل النظام تتجلى فيه”؛ لأنه “في هذه الفئة تتكوَّن النخب”.
ويذكر مدير تحرير “لوجورنال” المتوقفة عن الصدور أن المؤسسة الملكية هي “المسؤول الأول عن عدم نجاح استثمار حراك عشرين فبراير”، دون أن يعني هذا “أن المسؤولية تقتصر عليها، بل تبدأ بها”.
ويتحدث المصرح عن “الإخفاق الأخلاقي للعدالة والتنمية”، في سياق حديثه عن مسؤوليات عدم نجاح استثمار الحراك، مضيفا: “بعد نجاح هذا الحزب في الانتخابات بناء على إرادة المغاربة في أن يروا بزوغ حركة جديدة فيها نفحة يسيرة من التغيير وعشرين فبراير، كان لهم تعاقد مع المغاربة فشلوا فيه، وكان متمه التوقيع على اتفاق العلاقات مع إسرائيل”.
وعلى الرغم من الاختلاف الإيديولوجي مع عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، “أخطر الإسلاميين”، فإن الجامعي يقول إنه “عندما أرى كيف تعامل معه المخزن، أقول صراحة إنه لم يدعه يعمل، ورغم ذلك قاوم قليلا؛ لكنه منذ البداية تخلى عن صلاحيات الجهاز التنفيذي، بعد الدستور الجديد”، كما قاوم حزب العدالة والتنمية قليلا في إصلاح منظومة العدل “ولكن صمتوا بعد ذلك”.
ويعرج الجامعي، أيضا، على “مثقفين يفسرون السلطوية كإرادة شعبية عريقة عميقة، لا كإرادة للنخب السلطوية، في خطاب شبه أكاديمي فاشل”.
من جهتها، تقول سارة سوجار، فاعلة حقوقية من شباب حراك عشرين فبراير: “أحلامنا لم تجهض، ومقاومة المجتمع المغربي مستمرة”.
وترى سوجار، في تصريح لـ هسبريس، أن “عشرين فبراير لا تزال مستمرة ولو لم يبقَ شكلها التنظيمي”، فقد “تطورت وأخذت أبعادا وأشكالا أخرى، نجد مختلف الاحتجاجات بالمغرب تحملها الآن”، علما أن “نشطاء عشرين فبراير لا يزالون حاضرين في مختلف القضايا الحقوقية”.
وتذكر الحقوقية أن تراجع تعبئة حراك عشرين فبراير قد كان “بفعل السياق وتحولات العالم، وبفعل إجراءات الدولة”، ثم تسترسل قائلة: “هناك من يقول إن الدولة تفاعلت إيجابا وجاءت بدستور جديد، ولكن لا يجب أن ننسى أن الملك قد خطب يوم 9 مارس، وقُمِعَ الناس يوم 13 مارس، وكانت اعتقالات في صفوف النشطاء في نهاية سنة 2011 وبداية سنة 2012”.
وتستحضر سوجار “شهداء حراك عشرين فبراير، مثل كمال العماري بآسفي، الذي يجمع الكل على أنه قتل بسبب التدخل الأمني”، و”التضييق على النشطاء وعلى من رفضوا الخطاب والدستور، ودعوا إلى مقاطعته ومقاطعة الانتخابات”؛ لتخلص إلى أن “الدولة قد تعاملت بازدواجية مع 20 فبراير”.
مع ما ذكر، تضييف سوجار: “كان من الأكيد أن يؤدي هذا إلى اختلاف تقديرات العديد من الناس الذين ينتمون إلى الحركة، فينسحبوا، وهناك النقابات وتفاوضات السلم الاجتماعي، والأحزاب التي انسحبت في لحظة الدستور، والنقاش بين العدل والإحسان والتقدميين داخل الحركة الذي جعلها تنسحب لاعتبارات تخصها”.
لكن، رغم هذا، ترى الحقوقية أن مشعل 20 فبراير لا يزال متقدا؛ فـ”نشطاؤها لا يزالون فاعلين، ومطالبها لا تزال حية، وآخرها في الفنيدق التي كان من بين شعاراتها “حرية كرامة عدالة اجتماعية””.
وتستحضر المتحدثة المصائر المختلفة لمن كانوا في يوم من الأيام جزءا من الحركة، قائلة إن هذا الاختلاف طبيعي؛ لأن 20 فبراير “لم تكن في يوم من الأيام منسجمة، بل كانت داخلها اختلافات سياسية وفكرية وإيديولوجية”.
وتزيد سوجار: “منهم ممّا يزالون مؤمنين بشكل عشرين فبراير الأصلي، ومنهم من اختاروا النضال بأشكال أخرى مثل “مسرح المحكور”، ومعهد بروميثيوس لحقوق الإنسان، وشابات من أجل الديمقراطية، وكثير من مبادرات النشطاء الأخرى، ومنهم من اختاروا الابتعاد تماما إما إحباطا أو انتظارا للحظة أخرى شبيهة بلحظة عشرين فبراير… وهي مصائر جد إيجابية، ويعجبني الأمر كثيرا عندما أرى نشطاء في منظمات دولية، أو في تجاربهم الخاصة، أو حاضرين ميدانيا في عدد من القضايا، وفي الساحة السياسية، ومنهم المعتدل والراديكالي لكنهم موجودون”.
وفي قراءة لواقع “20 فبراير”، يرى المحلل رشيد أوراز أنها “لم تجهض ولم يتم إيقافها”، مضيفا: “لا توجد أي قوة قادرة على أن توقف حركة احتجاجية، ومن يدخل في مسار مثل هذا ويقول إنه سيبقى دائما، فهذا لا يمكن، يمكن أن يبقى شخص؛ لكن المجتمع يمر من مراحل واهتزازات ويعود إلى طبيعته الهادئة”.
أما المؤرخ امحمد جبرون فيقول إن حراك عشرين فبراير “بطبيعته هو حدث استثنائي، لم يكن المطلوب استمراره في الزمان والمكان، بل هو شعلة عبرت عن طموحات وتطلعات المغاربة، وعن أفق معين، وتضايق من ممارسات على المستوى الاقتصادي والسياسي”، ثم زاد: “هي صرخة محدودة في الزمان والمكان، ولم يكن متوقعا أن تستمر، ولو استمرت لكان هذا هو الخطير والسلبي”.
ويضيف جبرون في تصريح لـ هسبريس: تكون للحركات الاجتماعية “أجندة، وسقف محدود بطبيعتها وأهدافها، وإذا كان خلاف هذا الأمر، تكون عنصرا من عناصر الانهيار، أو شكلا من أشكال الفشل السياسي والاقتصادي”.
ويرى جبرون أنه، بعد عشر سنوات من الحراك، “لم نتقدم كثيرا”، و”لم نحقق التقدم الذي كنا نطمح إليه”، قبل أن يزيد مؤكدا على أن “أهم شيء حققه المغرب، وهو تجنب المطبات التي وقعت فيها بعض الدول في الإقليم العربي وربما كانت كلفتها باهظة؛ بينما استطعنا، إلى حد ما، الحفاظ على حد أدنى من التوازن، والاستقرار، الذي، وإن لم يحقق من الناحية الديمقراطية الكثير، على مستوى السلم الاجتماعي والاستقرار والحفاظ على حد أدنى من النمو على المستوى الاقتصادي، تبقى هذه أمورا مهمة حققت بعد مرور عشر سنوات”.
أما الأكاديمي سعيد بنسعيد العلوي فيرى أن مفتاح فهم سبب عدم استثمار لحظة 20 فبراير “تمتلكه جهات متعددة”، على رأسها جهتان، ثم يسترسل شارحا: “يجب أن تكون إرادة سياسية صادقة من الكل، وليس من الدولة وحدها رغم أنها المعنية بالخطاب بالدرجة الأولى، في إقامة صرح دولة المواطن والحق”، ولهذا “كلما نطل من باب أمل نقول هذه فرصة لا يجب أن نضيعها”، مثل لحظة جائحة “كورونا” حاليا.
ويزيد سعيد بنسعيد: “المسؤولية كبيرة والتاريخ يحاسب، والذي سيحاسب عليها أولا هو الحزب السياسي، فيظهر الحزب الفعلي والحزب الكيان الانتخابوي”، ولهذا “تحتاج أحزابنا الوطنية نقدا ذاتيا، في مقدمته المراجعة النظرية”.
ويعبر الأكاديمي، في السياق نفسه، عن إيمانه بـ”أن العمل السياسي لا يمكن أن يكون إلا بحياة سياسية طبيعية، معناها وجود مجتمع سياسي قوي، أي أحزاب سياسية قوية، وخارج العمل السياسي المنظم والمسؤول الذي يملك الحزب السياسي وحده قوة القيام به، إما الطوباوية والحلم أو الفوضى”، علما أن “الحلم جيد في السياسة، لكن الحلم المعقول الممكن والمسؤول”.
المسؤول في المستوى نفسه مع الحزب، وفق سعيد بنسعيد العلوي، هو “الدولة، بالإرادة الحقيقية لبناء المجتمع الحداثي الديمقراطي، وبناء دولة القانون”.
دستور 2011
كان من العلامات البارزة لمرحلة 20 فبراير التغيير الدستوري، الذي أعلن عنه الملك محمد السادس في خطاب 9 مارس 2011، وكون لجنة صاغَته، واعتُمد بعد استفتاء شعبي، بفصول استبدلت الحديث عن قدسية الملك، بـ”شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام”، ونصت على الوفاء للاختيار الديمقراطي “الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون”.
كما دُستِر، سنة 2011، التعدد الثقافي واللغوي بالمغرب، وضمان حرية الصحافة، والمساواة بين الرجل والمرأة، وحرية الفكر والرأي والتعبير، وحرية الإبداع والنشر والعرض، وحريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي، والحق في الإضراب، والحق في الحصول على المعلومات.
لكن، يستمر النقاش في البلاد حول التأويلين الديمقراطي والسلطوي لـ”الدستور الجديد”.
من بين النصوص التي تناولت الإشكال الدستوري في المغرب، كتاب “فكرة الدستور في المغرب (1901-2011)”، الذي علق فيه على دستور 2011 محمد نبيل ملين، أستاذ باحث في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي، قائلا إنه رغم كونه “ثمرة حراك دولي ووطني استثنائي، إلا أنه يعكس، إلى حد كبير، المرحلة البرزخية التي يعيشها المغرب منذ سنوات”.
واسترسل الأستاذ الباحث شارحا: “تحاول هذه الوثيقة التوفيق بين مجموعة من المتناقضات؛ فهي من ناحية تعترف بسيادة الأمة، وتنادي باحترام حقوق الإنسان، وتؤكد على فصل السلط… لكنها من ناحية أخرى تريد الحفاظ على السلطات الواسعة التي تتمتع بها الملكية كمكمن السيادة الحقيقي”.
ويرى ملين أن دستور 2011 قد وضع المغرب على مفترق الطرق: “التراجع أو المراوحة أو الإصلاح”، ثم يسترسل شارحا: “لئن كانت كل هذه الاختيارات صعبة ومكلفة، فإنها تتوقف بشكل كبير على تطور موازين القوى على أرض الواقع، وعلى المتغيرات الدولية في السنوات المقبلة”.
في هذا السياق، يقول المحلل رشيد أوراز إن في المغرب، “فكرة رئيسية وأساسية تأكدت، وكانت دائما جزءا من تحليلات مثقفين وباحثين، وهي أن سلوك الفاعلين الرئيسيين يطبعه التردد، وهو تردد يعرقل الإصلاح”.
ويزيد المصرح: “هو تردد طبيعي يوجد في جميع المجتمعات، بما في ذلك المجتمعات المتقدمة التي مرت من لحظات بين الانفتاح والإصلاح والاستكانة إلى الاستقرار والقوى التي ترجع إلى الخلف؛ وهو ما نزع من الإصلاحات التي تمت غداة 20 فبراير، في سنتي 2012 و2013، فعاليتها، وعندما ينتزع من الإصلاحات فعاليتها لا يكون لها مردود اجتماعي”.
على رأس هذه الإصلاحات الدستور، وفق أوراز، الذي يذكر في هذه النقطة بأن “تحول الدساتير إلى قواعد مؤسساتية وثقافة يحتاج وقتا”، قبل أن يزيد متسائلا: “هل يأتي وقت يطبق فيه دستور 2011 فعليا ويؤوَّل ديمقراطيا؟”، وهو ما يجيب عنه بترجيح أن يكون هذا “فرضية ممكنة، في ظل ما تعرفه المنطقة من ارتفاع في درجة حرارة الاحتجاج”، مع تأكيده أن “الهدوء لن يعود إلى المنطقة (شمال إفريقيا والشرق الأوسط)، إذا لم يتم تنفيذ الإصلاحات التي يجب أن تكون”.
وحول مآلات دستور 2011، يقول الشاعر والمناضل الحقوقي عبد اللطيف اللعبي إن انطباعه هو “أننا في المغرب نعيش، منذ الاستقلال إلى الآن، ما سماه لينين بـ”خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء””؛ فـ”الدساتير التي كتبت من الاستقلال إلى الآن، كلام على ورق، وهناك بون شاسع بين ما تعلنه النصوص، وما يطبق منها، وما يمارس على أرض الواقع”.
ويقدم اللعبي مثالا بوجود صحافيين “قاموا بواجبهم الصحافي، وهم في السجن بتهم واهية غير معقولة”، ثم يسترسل متسائلا بشكل استنكاري: “كيف ندخل السياسة وحرية التعبير، مع الأخلاق والجنس وأشياء من هذا القبيل؟”، ليزيد: “صارت أشياء منهجية، فيعبر صحافي عن رأي معين في صحيفة، لا يتماشى مع ما تدعيه السلطة والنظام، ومباشرة تختلق قضية جنس أو شيء من هذا القبيل، وهذا لا يطاق على الإطلاق”.
وفي سياق حديثه عن عدم تطبيق الدستور، يقول اللعبي: “نعيش الآن مستنقعا، وفسادا أخلاقيا، اخترعت فيها تهم واهية كوسيلة للقمع والإجهاز على أحرار البلاد، وهذا ما يحز في نفسي، وأنا حزين جدا لكون بلادي قد وصلت إلى هذا المستوى. وكيف يمكننا التحرر من هذا الفساد الخلقي الذي أصابنا، والذي لم يكن؟ فالسياسة كانت واضحة، أنت مع أو ضد، وإذا كنت ضد تعرف الثمن الذي يجب أن تؤديه، والآن يوجد شيء آخر غير مقبول إطلاقا”.
من جهته، لا يرى الأكاديمي أبوبكر الجامعي أن “الإشكال الحقيقي” هو تنزيل الدستور، بل كونه “ليس سليما”؛ لأنه “إذا لم نغير التركيبة السياسية للبلاد، لا يمكن أن نغيِّر. لسبب بسيط هو أن النظام كيفما كان إذا كان فيه من يملكون السلطة لا يساءلون سيصلنا الخراب، ولو كانوا يتحلون بخصال النبوة”.
ويصف الجامعي دستور 2011 بكونه “عريضة ديمقراطية ودستورا سلطويا”، ويزيد: “لا نحتاج عريضة تقول لنا نحن مع التعددية وحقوق المرأة، بل نحتاج مؤسسات، وتركيبات، وميكانيزمات، تجعل هذه القيم تطبق على أرض الواقع”.
ويشدد مدير تحرير “لوجورنال” المتوقفة عن الصدور على وقع هذا المعطى على الاقتصاد؛ لأن “النمو الاقتصادي يتضمن إعادة توزيع الثروة، وأهم تجليات هذا، التعليم والصحة.. ولكن نحتاج مقاولين مغاربة غير ريعيين، يجازفون بوقتهم ومواردهم، وهم قلة قليلة بالبلاد؛ في حين أن من يتحدثون الآن عن المبادرة والمقاولة بالمغرب هم نموذج للمقاولين الريعيين”، ويزيد المتحدث: “المقاولون غير الريعيين لا يمكن أن يوجدوا دون ضمان مؤسساتي، وهو ما لا تعطيه النخب الحاكمة، لأن هذا يعني سلب نفسها مجموعة من السلطات”.
كما يثير الجامعي في السياق نفسه مسألة غياب المحاسبة، مقدما مثالا بملف الصحافية هاجر الريسوني، التي بعد العفو الملكي عنها، لم نر محاسبة لمن كانوا وراء الملف، ومحاسبة من أخطأ باعتقال الصحافي علي أنوزلا الذي لا يزال متابعا بتهمة المساندة المادية للإرهاب، وهو حر طليق، بعدما أطلق بسبب الضغط.
ويذكر أبوبكر الجامعي أن “النظام لم يستجب لمطالب عشرين فبراير لأنه لم يقع، ضمنيا، أي تغيير حقيقي في إعادة توزيع السلط”؛ لأن “معنى إعادة التركيبة المؤسساتية هي إعادة تركيب السلط، بمعنى أن صلاحيات الملكية لن تعود هي نفسها. والحال أن هذا لم يتغير. وهو ما يعني أن الدستور، فاشل بالمعنى الديمقراطي”.
وقدم الأكاديمي في هذا السياق مثالا بـ”العدالة”، حيث “بعدما تم أخيرا بعد سنوات تعديل النظام العدلي، أنهي بحيلة، أن العدالة مستقلة؛ لأنها صارت تحت إشراف الملك، وكأنه فوق اللعبة، في إعادة لحيلة قديمة كانت منذ عهد الملك الحسن الثاني (…) ونجد، اليوم، أن العدالة صارت قسما من الجهاز الأمني للبلاد، ولا يمكن أن نجد قضية مهمة سارت فيها العدالة عكس ما قالته الشرطة والأمن. وهو ما توثقه تقارير دولية”.
من جهته، يرى المؤرخ امحمد جبرون أن “البنية السياسية التي يمتلكها المغرب، وهشاشة الديمقراطية التي نعيشها، تجعل سقف الدستور وأفقه، أكبر بكثير من الممارسة؛ فهناك الدستور المكتوب، وهناك الممارسة المتخلفة كثيرا عنه”.
ويقدم جبرون، في هذا السياق، مثالا بعدم حديث دستور 2011 عن “وزراء السيادة، وعدد من القضايا التي تعطي سلطا لوزارات أكثر من أخرى”؛ ويزيد: “المغرب لا يزال يحتاج وقتا ليصل سقفَ الدستور الحالي، أما التطلع إلى أكبر من ذلك، فوقته لم يحن بعد”.
ماذا بعد؟
بعد مرور عشر سنوات على حراك العشرين من فبراير، وتعبير المشاركين فيه من مدن وقرى من مختلف أنحاء المغرب عن آمال “إسقاط الفساد والاستبداد” و”الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية” و”الملكية البرلمانية” و”ربط المسؤولية بالمحاسبة”، يظل السؤال مطروحا عن أفق ما بعد هذه اللحظة المفصلية في تاريخ “مغرب اليوم”.
للتعبير عن رؤيته للوضع الراهن بالمملكة، يستعير عبد اللطيف اللعبي من الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي “تشاؤله” (تشاؤم وتفاؤل في الوقت ذاته)، قائلا: “شخصيا، في هذه المرحلة من عمري وتجربتي، أصبحت (…) “متشائلا”؛ لأن التطورات التي حصلت في المغرب في السنوات العشر الأخيرة هي تطورات خطيرة جدا، والنقاش العمومي في المغرب صار نوعا من المستنقع، مع بروز وسائل التواصل الاجتماعي”.
ويزيد اللعبي: “أطرح وجهة نظر جريئة وصريحة في بعض القضايا الراهنة للمغرب، وأسَب إما من معبئين من طرف الجهات الرسمية لمواجهة أي رأي نقدي، أو من طرف من يستعملون الدين كوسيلة سياسية وهم متربصون لأي وجهة نظر حرة تطرح بكل جرأة رأيها في هذه المواضيع”؛ ثم يردف قائلا: “أخلاقيا، لا أستطيع أن أنزل إلى هذا المستنقع، وأكتب أي شيء، لينزل أحد ويسبني، ويقول لي مثلا أني لست وطنيا لأني أكتب بالفرنسية؛ وهو تفسخ نلاحظه في النقاش العمومي بالمغرب، يخيفني شخصيا، وهو ليس عفويا، بل منظم ومؤطر بشكل ما. وهو ما يهدد بشكل جوهري مبدأ حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية الرأي وحرية العقيدة بالمغرب”.
كما يطرح اللعبي “إشكالنا الذي هو أن مطالب الاحتجاج، إما تقود إلى السجن أو تُقمع”، مما يعني “أننا تحتاج وقتا طويلا بين المطالبة، وتسجيل المطلب في القانون”. إضافة إلى إشكال “أن الأحزاب السياسية بالمغرب صارت كلها “أحزابا مخزنية” بكل بساطة”، وقدم مثالا بـ”الحزب الحاكم الذي ينتمي إلى حساسية متدينة، وفي مسألة التطبيع مع إسرائيل “ضرب الطم” (أي سكت)”.
أما بالنسبة لأبي بكر الجامعي، فإن “مصدر طاقة عشرين فبراير قد زاد”؛ لأنه “إذا اعتبرنا أن الحركة كانت نتيجة لتفاقم الأوضاع في جوانب، من بينها مناصب الشغل، والجانب الثقافي، والحريات الفردية والجماعية. وإذا درسنا، مثلا، أن النظام لا يزال فاشلا في محاربة هذه البطالة، فستأتي موجة أخرى”، قبل أن يستدرك قائلا: “وقد جاءت، فحراك الريف ولو أنه لم يبدأ بمطالب سياسية، إلا أنه مثل هذه الموجة (…) علما أنه أوخم، وإدانة أكبر لأنه، أبان فشل الدولة فيما تقول إنها متفوقة فيه، من المصالحة مع الريف”.
ويرى الجامعي أن “عمق المشكل” هو “عدم إرادة أغلبيتنا الاعتراف بأننا لا نزال نتشبث بالسلطوية كمبدأ لتسيير شؤون الدولة؛ فالحديث عن صلاحيات وسلطات لا تساءل عبر المنتخبين هو ما يسمى أكاديميا بالسلطوية”، كما أن “الناس يخافون من وتيرة التغيير، وما سيحدث عقبها، من طرف من ليس لهم جانب افتراسي ويريدون تغييرا بغير ثمن باهظ، وهو سبب مقبول أخلاقيا”.
ويعود الجامعي إلى إشكال “محاولة النخب السلطوية المغربية التفريق بين السياسة والاقتصاد”، علما أنهما مرتبطان، و”إنتاجها وهما”، يزكى من طرف وسائط مختلفة، مفاده “أنها أنجع من النخب المنبثقة من البرلمان، التي يختارها الشعب، في إنتاج حلول السياسات العمومية لتحسين الوضع الاقتصادي”.
وبعد الاعتراف بالفشل المؤسساتي السياسي في 2011، والاعتراف بهفوات النموذج الاقتصادي التنموي في 2018، واعتراف “أغلب النخب الحاكمة بفشل الوضع الراهن”، يعود الجامعي إلى مطلب الملكية البرلمانية قائلا، إن الملكية يجب أن تبقى “سلطة معنوية، حتى يحتكم الناس لها”.
وبعد تأكيده على أن الحركات الاحتجاجية بالمغرب، في مجملها، “كانت كلها سلمية وحضارية”، وأن “العنف يكون طفيفا، وغالبا ما يأتي من طرف الدولة”، يتساءل المحلل “إلى متى ستظل هذه الحركات حضارية؟”، ليزيد منبها على “عدم وجود رغبة حقيقية لتغيير المؤسسات، من أجل إعطاء الدولة أدوات إيقاف مثل هذه الحراكات التي هي أسباب اقتصادية وأخلاقية أساسا”.
ويتمنى الجامعي أن توجد، في المستقبل، “فطنة لم نرها في السنوات الماضية”. وبعد تعبيره عن ضرورة التشبث بـ”مفهوم الاستقرار، دون خلط بينه وبين والركود، لأن الاستقرار يجب أن ينمي استقرار الغد وما بعده، والركود ينمي عدم استقرار الغد وما يليه”، أجمل الأكاديمي قائلا: “في العقود الأخيرة، ظهر أن السلطة لا تغير المواقف إلا تحت الضغط، فيجب، بالتالي، أن يزداد، وإذ ذاك نطلب الله ألا يصل إلى درجة الإفلات”.
أما بالنسبة للأكاديمي سعيد بنسعيد العلوي فإن انتفاض 20 فبراير كان “قوة اقتراحية، تهتم بالشأن العام، وتنبه وتوقظ الضمائر، وتفكر في البديل”، دون أن تمتلك “القوة الشرعية ووسائل العمل التي يمتلكها الحزب السياسي، وفي مقدمتها الشرعية، بمعنى الاعتراف به كقوة سياسية”.
ويقول سعيد بنسعيد إن ملاحظته على الحركة هو أنها “إما أن تقع في فوضى فكرية، وغياب للرؤية”؛ وهو “الخطر الملائم لها باعتبارها قوة حملت تيارات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مرورا بالرافضين والمنتقدين من أحزاب من اليمين واليسار ومن تيارات دينية وماركسية”.
ويضيف المتحدث أن “أزمة 20 فبراير بعد عشر سنوات” هي أنها “مخيرة بين الانقراض، والفوضى شكل من أشكال الانقراض، وبين أن تتأسس كقوة سياسية مشروعة، وتتحول إن استطاعت وإذا كانت لها الوسائل الكافية، لتصبح حزبا سياسيا، ذا وضوح نظري ووضوح في الرؤية الفكرية السياسية، حتى لا يكون رقما بين الأرقام، أو أن تكتسح الأحزاب السياسية الوطنية الكبرى الموجودة على الساحة، وتناضل من داخلها، أو تبقى قوة اقتراحية ويظل سقف عملها ما يسمح به العمل في المجتمع المدني”.
وبعد وصول “الأحزاب الوطنية إلى عنق الزجاجة، بدءا من انعدام الديمقراطية الداخلية، إلى الترهل، وعدم القدرة على تجديد النخب والانفتاح على الشباب والمرأة”، يترك سعيد بنسعيد العلوي باب أن يصير الحراك “حزبا في الساحة” مفتوحا، ثم بعد ذلك “يكون البقاء للأصلح، وإلا سيكون هناك عجز، وخلط شديد، بين ما يمكن للمجتمع المدني أن يقوم به وما لا يمكن له القيام به”.
أما الباحث رشيد أوراز، فيعود إلى المرحلة التي تلت حراكات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، قائلا: “هناك مجتمعات حافظت على استقرارها، وهناك مجتمعات انزلقت نحو الفوضى، ومنها ما ذهب إلى حروب أهلية واضحة. ويظهر، الآن بعد عشر سنوات، أن المجتمعات التي حافظت على الدولة كأنها ناجحة في هذا الرهان؛ بينما الدول التي انزلقت إلى الفوضى والتشرذم والتدخلات الخارجية كأنها خاسرة”، قبل أن يستدرك قائلا: “في تقديري، من ربح ومن خسر لن يظهر الآن، بل ربما بعد عشرين أو ثلاثين سنة، ومن سينجح هي المجتمعات التي ستنجح في بناء دولة القانون، ووضع مؤسسات تواكب العصر، والاستفادة من كل ما يوفره العالم من فرص على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي، وسيكون الخاسرون من لم يستطيعوا مواكبة التطور”.
ومع استحضاره أن “عشر سنوات في عمر المجتمعات هي نصف يوم أو نصف ساعة”، يقول أوراز إن “هناك جيلا كاملا سيكبر ويتربى ويترعرع في ظل الزمن الذي يستنفد الآن، ولا يمكن إعادته أبدا إلى الماضي، وسيحاسب الدول والحكومات على الوقت الذي تم إهداره، وإذا ألف أن يعيش في ظل الضغط والتوتر الاجتماعي، فستكون كلفة إرجاعه إلى الوراء كبيرة جدا، ولن تتحملها الدول القائمة في المنطقة”.
من جهته، يقول المؤرخ امحمد جبرون إن في المغرب “سوء فهم لمسألة الإصلاح السياسي”؛ فـ”التقدم على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذي يمكن أن تكون له مؤشرات اقتصادية مرتبطة بالرفاه وتوزيع الثروة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وغيرها، لا يرتبط فقط بالفاعل السياسي والقوى الحزبية، بل هو تطور تاريخي تساهم فيه عدد من الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والتفاعلات مع محيط المغرب الإقليمي، والخارج”.
وبالتالي، يزيد جبرون: “عندما نقرأ تطور التاريخ السياسي للمغرب منذ الاستقلال إلى اليوم، ونرى الدينامية التي عاشها المغرب منذ الاستقلال، نجد تقدما، يمكن ألا يكون في بعض الأحيان بالقوة والسرعة اللازمتين، أو في بعض الأحيان يكون الرهان الحفاظ على حد أدنى من الاستقرار ومن الاستمرارية، في ظل عواصف مرتبطة بالنزاع والصراع السياسيين، أو انقلابات في مرحلة من المراحل”.
وفي تقييم لتجربة حزب العدالة والتنمية، يسجل جبرون أنه، من المنظور السابق ذكره، “قد استطاع إلى حد ما أن يساهم في ضمان وتأمين استقرار المغرب في فترة حرجة جدا، هي التي أعقبت 20 فبراير، وهذا ليس بالهَيّن، عندما نرى تداعيات هذه الحركات الاحتجاجية والاجتماعية في الربيع العربي في عدد من الدول”.
وفيما يتعلق بما هو اقتصادي وثقافي، يدعو جبرون إلى الموضوعية؛ لأن هذا “مرتبط بسياق إقليمي ودولي، ومرتبط بإرادة سياسية أكبر من حزب العدالة والتنمية، هي إرادة الدولة، وتوجهاتها الكبرى والإستراتيجية. ومن هذه الناحية يمكن أن نقول إن المغرب لا يخسر كثيرا، ولكنه لم يتقدم بالشكل المطلوب، وحزب العدالة والتنمية كغيره من الأحزاب، مساهمته في هذا الإطار محدودة، وبطبيعة الحال، بفعل وجوده في المسؤولية الحكومية، يتحمل مسؤولية الفشل والإخفاق أو التراجع في عدد من المستويات”.
ويتحدث المؤرخ عن “معضلة الديمقراطية والتحول الديمقراطي في المغرب”، قائلا: “إلى حد الآن، كدولة وأحزاب، لم نحدد في الواقع قناعة حقيقية بالديمقراطية، كآلية للتدبير السياسي والتداول على السلطة، وبالتالي هل نحن جادون في الاتجاه نحو الديمقراطية؟”.
ويسترسل جبرون قائلا: “المغرب، والدولة على أعلى مستوى، تتجه نحو ديمقراطية مرتبطة بالأداء “ميريتوقراطية”. ومع هذا الاتجاه نحو الكفاءة، لم يعد، عمليا، مطلوبا من الأحزاب إنتاج برامج وأفكار؛ بل أن تأتي بكفاءات سياسية واقتصادية، فصرنا نرى عودة التكنوقراط من خلال بوابة الأحزاب”، وهو ما يعني أننا “نعيش حالة فوضى في علاقتنا بالديمقراطية، وهو ما يجب أن يكون موضوع نقاش عمومي جدي”.
ويضيف المصرح ذاته: “لو أن الأمر يتعلق بنظام ديمقراطي، يمكن أن نتحدث عن انتخابات يتحمل فيها الناس المسؤولية، وما يمكن أن يعتبر سوء تدبير وإدارة، ولكن الآن لا تعرف من تحاسب؟ ولِم تحاسبه؟ وما الرهان السياسي في الانتخابات؟ ونحن على أبواب الانتخابات التشريعية، والناس مطلوب منهم الاختيار، على أساس ماذا؟ وهل تتحمل الحكومة الماضية مسؤولية هذا التدبير؟ وما الذي يتحملون مسؤوليته وما الذي لا يتحملونه؟”.
ويجمل المؤرخ قائلا: “حتى يكون للحياة السياسية رهان، ويكون للديمقراطية معنى، يجب أن نعيد النظر في عدد من القضايا، منها: أي ديمقراطية نريد؟ وأي أحزاب نريد؟ وهل نحتاج أحزاب الأفكار والمشاريع والبرامج، أم أحزابا تنتقي لنا نخبا ذات كفاءة لتساهم في تنفيذ برامج موجودة؟ وما الرهان السياسي للانتخابات في المغرب؟ محاكمة لتجربة وأداء، أم سنظلم أناسا عندما نقول لهم إنهم مسؤولون عن أشياء نعرف عمليا أنهم غير مسؤولين عنها بل زكوها فقط في إطار توازنات؟”.
من جهتها، تقول الحقوقية سارة سوجار إنها تتأسف بعد عشر سنوات من “وصولنا إلى المشهد السياسي الذي نعيشه حاليا، الذي يُجمع من في المعارضة ومن في الحكم، على أنه “غير سليم” أو بتعبير آخر “غير ديمقراطي”، وهو مشهد غير متكافئ، بقواعد لعبة غير ديمقراطية، مع انتهاكات حقوقية وانتهاكات للحرية”.
لكن، ترى سوجار أن أمرين مهمين عكستهما المرحلة الراهنة، أولهما: “أن المجتمع المغربي حي وليس ميتا، وعبّر عن آرائه ومشاركته السياسية بطريقة خاصة، من مقاطعة للمنتجات الاقتصادية في 2018، واحتجاجات لها أبعاد جهوية مثل الريف وزاكورة وجرادة، ولها أبعاد وطنية مثل التي تناهض الاعتقال السياسي، وغلاء الأسعار، والوضع الحقوقي الراهن، أو التي كانت لها تعبيرات على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل التي أوقفت القانون الذي كان سيلجم التعبير داخل هذه الفضاءات”.
ثاني الأمرين، وفق سوجار، هو أن “الدولة لم تستوعب حياة المجتمع المغربي، ولم تتفاعل إيجابا أو حاولت أن تحتويه، أو تقمعه بأشكال متعددة باعتقال، أو قمع للاحتجاجات والوقفات، أو تشهير بالمعارضين ومن انتقدوا السياسات، أو عبر مأساة كبيرة مثل التي عشناها مع حراك الريف الذي بلغت فيه الأحكام عشرين سنة”.
وتزيد الناشطة الحقوقية: “مجتمع حي أمام دولة تقمع، يعطينا هذا الواقع السياسي الذي نعيشه حاليا، والذي فيه شقاق بين الدولة والمواطن، وغياب لمصداقية المؤسسات الرسمية للدولة عند المواطن، وغياب للفاعل السياسي الذي لا نعرف اليوم أين هو؟ في ظل عدم وجود عرض سياسي حقيقي، حيث نسمع دائما عن النشطاء والحقوقيين ولا نجد الفاعل السياسي مؤثرا، وهو ما أوصلتنا إليه الدولة، لكن، أيضا، عوامل ثابتة منها غياب الجرأة، وغياب الارتباط بالميدان، والخوف من الديناميات الاجتماعية، والقضايا التي تفتح، واعتبارها طابوهات”.
وفي الذكرى العاشرة لحراك عشرين فبراير، تؤكد سارة سوجار أن “مقاومة المجتمع المغربي مستمرة، وأحلامنا لم تجهض، ولم تنته المعركة، وما دامت هناك مقاومة، فهناك جيوب تناهضها، وتريد الحفاظ على الوضع القائم، وهذه الحركية صحية، لكن لا يجب أن تبقى الديناميات الاحتجاجية وفضاءات التعبير هي الحاضرة وحدها، بل يجب أن نطور فاعلا سياسيا حقيقيا إما بإحراج الأحزاب السياسية الموجودة، لنجعلها تقدم عروضا سياسية تكون في مستوى اللحظة، أو أن يخرج المجتمع حركة سياسية تعبر عنه”. قبل أن تجمل قائلة إن المهم هو وجوب “ألا يبقى هذا الجمود السياسي، بين ديناميات لا تلتقي”.