لدورِ النشر الفرنسية المعروفة (مثل “لاروس” و”لو روبير”) زينتها الخاصة في بعض المناسبات مثل رأس السنة، فتحتفي بعرض منشوراتها الجديدة مع صور مكبرة لبعض المؤلفين. ومن هذه المنشورات الجديدة، التي تزدهي بها بعض الواجهات، هناك الطبعات الجديدة لبعض القواميس.
هذا ما قد يصعب على القارئ العربي تصوره، أي صدور طبعة جديدة للقاموس في كل سنة. وهذا لا يعني إعادةَ الطبع أبداً، وإنما طبعة جديدة، تشتمل على الألفاظ “الجديدة” في الفرنسية (فضلاً عن مداخل القاموس المألوفة). هذا ما تقرُّه وتثبته سنويّاً “الأكاديمية الفرنسية”؛ وهذا ما يعمل عليه الفريق المعجمي الساهر والمعتني بـ”حياة” اللغة في جاريها وتغيراتها.
فخلال العام، كلِّ عام، تعمل “جهات” رسمية وخاصة على معاينة اللغة، أشبه بما يحصل عند الحدود لأي دولة: الشرطة الساهرة على “الداخلين”، وعلى قبول مستندات حلولهم الجديد.
يتمُّ فحص اللغة، في الصحافة (وغيرها من وسائل التواصل والتعبير)، أو في الكتب ذات الحمولات الفلسفية والثقافية والأدبية وغيرها (في العلوم الصحيحة أو في العلوم الإنسانية)، بما يتيح للمعاين التوقف عند جديدها الطارئ: الجديد المتعين في “استعمالات” و”اشتقاقات” جديدة طارئة وداخلة إلى الكلام، من جهة، والجديد الأجنبي الداخل إلى اللغة المعنية من خارجها، من لغات أخرى، من جهة ثانية. فيتمُّ، في الحالة الأولى، التأكد من “جدة” اللفظ أو التركيب اللفظي؛ كما يتمُّ، في الحالة الثانية، العمل على “فرنسة” اللفظ الدخيل. هذا ما تتكفل به جهة رسمية، وأخرى خاصة، فضلاً عن أفراد، عن دارسين، ممن يتوكلون من تلقاء أنفسهم بتفقد اللغة.
وإذا كان عملُ الجهات المعجمية يقوم على التتبع، على الرصد، وعلى التحقق من سريان هذا اللفظ الجديد أو هذا الاستعمال اللفظي أو ذاك، فإن عمل “الأكاديمية الفرنسية” مختلف. فهي تعقد جلسات دروية تفحص فيها كثيراً من الألفاظ “الدخيلة”، وتجد مقابلات لها في الفرنسية. وهي عملية نشطت للغاية في العقود الثلاثة الأخيرة، بعد تنبه الكثيرين إلى أن ألفاظ الرياضة خصوصاً (الإنجليزية) “غزت” اللغة الفرنسية.. إلا أن الاستثنائي، في التجربة الفرنسية، هو أن لـ”الأكاديمية الفرنسية” الحق القانوني، حسب القوانين الفرنسية، في “فرض” الألفاظ التي تقرُّها على مجموع “الأمة الفرنسية” بأفرادها ومؤسساتها، في نصوصها القانونية كما الكتابية وغيرها. وهو أمرٌ نادرٌ، إذ يتيح لهذه المؤسسة العريقة (تأسست في العام 1634م) أن “تُلزم” الحكومة نفسها بقراراتها؛ وهي “تُلزم” كذلك دور النشر المتكفلة بإصدار القواميس بإنزال ألفاظها المقرّة في الطبعة الجديدة من القاموس.
سقنا هذا كله للقول، للإشارة إلى مثالٍ بعينه في العناية باللغة. وهو قد يكون مثالاً متشدداً في “تحكمه” باللغة وبسريانها. غير أنه يوفِّر للغة حياةً وديمومة صريحتين. وهو ما لا يتوافر، في حده الأدنى، للغة العربية. فلا أحد، ولا جهة، “يراقب” سريان العربية على الألسنة، في الجريدة والمجلة، فوق شاشات التلفزيون، في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي مدونات عديدة تسري فيها العربية من تلقاء نفسها، أي وفق مستعمليها. وهو طبيعي في أي لغة. غير أن معاينة اللغة قد تعمل على قبول أو عدم قبول ما يرد، ما كان يسمى قديماً بـ”تقويم اللسان”.
قد يعترض غير دارس أو معجمي أو لغوي على “فرض” و”تصحيح” الكلام، فيما اللغة تتعيَّن في استعماليتها؛ وهي وجهة نظر مرموقة في النظر إلى اللغة، إلا أنها مكلفة في عالم العربية: إذ تعزز العامية (بل العاميات) في استعماليتها الشديدة والخفيفة لألفاظ أجنبية، فتعمل على “قولبتها” ليس إلا بالحروف العربية.. وهذا يعني لزوم التفكير والعمل على قيام: “مرصد لعربية اليوم”، من باب متابعتها ودرس تحوّلات الكلام العربي، وما يسهم ربما في تقوية فصاحة العامية.
فما تعانيه عربية اليوم، يتمثل في عدم إيلاء أي أهمية لها، عدا أن كثيراً من السياسات يعتني بتشجيع “نمو” العربية في بيئات وبلدان غير عربية وغير مسلمة أحياناً. وهو انتشار أفقي غير ضار بالطبع، غير أنه ينشر لغة تفتقر إلى أكثر من إصلاح لها، للحفاظ عليها، ولحسن تعليمها وانتشارها. فمن يعاين أحوال اللسان العربي، اليوم، يتحقق مما هو أدهى، وهو أن شيوع الفصحى (مهما كانت مشكلاتها) بدأ بالتراجع الشديد: في وسائل نشرها المختلفة، في الخطاب السياسي والإعلامي، في المحاضرة الجامعية والنقاشات العمومية وغيرها. وهذا ما سيجعل –إن لم يكن قد تحقق في الأساس– من العربية الفصحى لغة “خارجية” على حياة المجتمع، و”مقحمة” عليه.
**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية