بعد وقت قصير من ظهور فيروس كورونا المستجد، كان واضحاً للجميع أن الحياة على وشك أن تتغير، وربما بأسلوب لا عودة فيه لحياتنا الماضية.
في التفاصيل، انتشرت مناقشات حول الوضع الجديد للبشرية على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الصحافة والإعلام والمنشورات العلمية، إلا أنه لم يكن واضحاً كيف ستبدو الحياة.
فإلى جانب التباعد الاجتماعي أو العمل والتعليم من المنزل، قدّم النقاد والسياسيون والمشاهير على حد سواء تنبؤاتهم ووصفاتهم، وكذلك فعل بعض علماء السلوك والاجتماع.
كما قامت مجموعة من العلماء تضم كلاً من مايكل فارنوم، أستاذ في قسم علم النفس بجامعة ستيت أريزونا، وسيندري هاتشيرسون، أستاذة مساعدة ورئيسة أبحاث في قسم علم النفس بجامعة تورنتو الكندية، وإيغور غروسمان أستاذ مشارك في قسم علم النفس بجامعة واترلو الكندية، والذين يتشاركون الاهتمام بفهم كيف يمكن للعلوم الاجتماعية والسلوكية أن تساعد على توفير النتائج العلمية لدعم السياسة العامة على أفضل وجه، باغتنام الفرصة الذهبية لاختبار مدى دقة وصحة ما ذهب إليه الخبراء في تحليلاتهم.
إلى أن بدأ مشروع واسع النطاق في أبريل/نيسان من عام 2020، يهدف إلى تتبع مدى توقع علماء الاجتماع والسلوك بما في ذلك علماء النفس الاجتماعي والسريري، وخبراء الأحكام واتخاذ القرار، وعلماء الأعصاب، والاقتصاديون، وعلماء السياسة، بدقة توقع تأثيرات كوفيد-19 على مجموعة من المجالات النفسية والسلوكية – بدءًا من الرضا عن الحياة والشعور بالوحدة إلى التمييز والتحيز والجرائم العنيفة في الولايات المتحدة كنموذج.
كما قام العلماء بتكليف مواطنين أميركيين عاديين بالإعراب عن آرائهم وتوقعاتهم أيضا، وتم تقييم دقة هذه التوقعات والتحليلات بعد انقضاء نحو نصف عام.
نتائج مثيرة للدهشة
وكان الأمر المثير للدهشة أن التدفق المستمر لنتائج الأبحاث يشير إلى أن تغيرا أقل بكثير مما يمكن أن يتوقعه المرء، وفي دراسة ممولة من مؤسسة العلوم الوطنية الأميركية شارك فيها أكثر من 15000 متطوع في البحث من جميع أنحاء العالم، أظهر الدافع فقط لتجنب الأمراض المعدية تحولًا ذا مغزى من خطوط الأساس السابقة للوباء.
فيما يعد هذا التطور طبيعي وغير مفاجئ، وبالإضافة إلى تلك الأدوات توافرت طرق أخرى لتقييم التغيير بصورة مماثلة، من بينها استخدام بيانات المسح من عينات كبيرة، والتي كشفت أنه لم يكن هناك تغيير يذكر في 10 مجالات متنوعة لعلم النفس والسلوك البشري، بدءًا من الرفاهية الذاتية ووصولًا إلى الرفاهية التقليدية، والتي ربما كان من المتوقع أن تظهر حركة دراماتيكية.
توقعات غير دقيقة
كانت هذه النتائج غير متوقعة من قبل الكثيرين، بما في ذلك الخبراء في السلوك البشري والديناميكيات الاجتماعية في دراساتنا، والذين تبين أن تنبؤاتهم غير دقيقة بشكل عام. تم استبعاد 20% من المشاركات، نظرًا لاعتبارها خارج السياق حيث احتوت على آراء متطرفة، فيما توقع أقل من نصف المشاركين بشكل صحيح اتجاه التغييرات. وجاءت النتائج مغايرة للتوقعات في مجال جرائم العنف، حيث لوحظ زيادة بنسبة 20% من الربيع إلى أواخر الخريف. ومن المفارقات أن هذا كان مجالًا لم يتوقع فيه المشاركون أي تغيير تقريبًا.
وأشارت نتائج دراسة مجموعة العلماء الأميركيين والكنديين إلى أداء الخبراء والمتخصصين لم يكن أفضل من الأشخاص العاديين في المجموعة الضابطة، حيث قدموا تنبؤات متطابقة تقريبًا، وغير دقيقة بنفس الدرجة لتأثيرات الجائحة على مجموعة واسعة من الظواهر. حتى المقاييس الأكثر دقة للخبرة، مثل مقدار تدريب الفرد في العلوم الاجتماعية أو الخبرة في دراسة الظاهرة المحددة التي يتم توقعها، لم تُظهر أي علاقة بالدقة.
بأثر رجعي
كما ذهب العلماء إلى احتمال أن الخبراء ربما كانوا أفضل في الحكم على الاتجاهات موضوع الدراسة بأثر رجعي، لذا لجؤوا إلى استيفاء هذا الاحتمال، حيث تم في أواخر أكتوبر وأوائل نوفمبر تكليف عينات من العلماء الاجتماعيين والسلوكيين والأشخاص العاديين بالقيام بعمل تقدير لمدى التغيير الذي حدث في مجموعة متنوعة من المجالات بسبب كوفيد-19 على مدار الأشهر الستة الماضية.
ومن المثير للاهتمام أن هذه التقديرات بأثر رجعي كانت مشابهة جدًا للتنبؤات، التي تم إجراؤها في الربيع، ولكن مثل تلك التوقعات كانت أيضًا النتائج بعيدة كل البعد عن الاتجاهات الفعلية، حتى مع الاستفادة من الإدراك المتأخر، لا يزال الجميع، بمن فيهم الخبراء، يخطئون في تقدير تأثيرات كوفيد-19.
السر وراء أخطاء الخبراء
ببساطة، كانت عملية التكهن أو التوقع صعبة للغاية بشكل خاص على مستوى الخبراء.
وترجح الدراسة أن السبب ربما يرجع إلى عدد من العوامل، من أهمها الثقة المفرطة وإهمال المعدل الأساسي وهو الميل إلى رؤية كل حدث على أنه فريد من نوعه على حساب النظر في كيفية حدوث أحداث مماثلة في الماضي.
على نفس المنوال، حدد دانيال كانيمان وزملاؤه العديد من التحيزات المعرفية التي تدفع الخبراء إلى وضع توقعات سيئة خاطئة، من بينها المبالغة في التأكيد على دور الأحداث الجارية البارزة، والسرعة الشديدة في إصدار الأحكام، والبطء الشديد في تغيير رأيهم في ظل ظهور مجموعة من الأدلة الجديدة.
فريسة للاستدلالات المتحيزة
لا يقدم الشخص العادي أو غير المتخصص أيضًا توقعات أفضل أو دقيقة، لأنه يقع فريسة لعدد من الاستدلالات والتحيزات في منطقه، كما أوضح كانيمان ومساعده منذ فترة طويلة عاموس تفيرسكي في مشروع بحثي حصلا على جائزة نوبل تكريمًا عليه.
ويفتقر الأشخاص بما فيهم الخبراء بشكل خاص إلى القدرة على التنبؤ بمشاعرهم المستقبلية، أو سوء تقدير شدة ومدة ردود أفعالهم العاطفية تجاه أحداث مثل الفوز في اليانصيب أو التعرض لانفصال مؤلم.
إلى ذلك، تشير الدراسة إلى أنه على الرغم مما تم رصده من أخطاء في التوقعات فإن هذا لا يعني أنه يجب على الناس تجاهل نصيحة علماء السلوك والاجتماع. ويشير الباحثون إلى أن هناك أمثلة لا حصر لها للتطبيق الناجح للنظرية والبحوث من مجالات علم السلوك والاجتماع إلى مشاكل العالم الحقيقي. إن التنبؤ أو التوقع هو مجرد مجموعة فرعية واحدة من الخبرات – وربما هو الأصعب.
وعندما يتعلق الأمر بالتوقعات، يبدو أن هؤلاء الخبراء في السلوك البشري والديناميكيات الاجتماعية يتمتعون بميزة واحدة على الأقل، وهي أنهم أكثر وعيًا بحدودهم الخاصة. في مجال علم السلوك والاجتماع، على حد قول الباحثين، لم يكن الخبراء متنبئين متفوقين، لكنهم كانوا أكثر تواضعًا، إذ كانت مجموعات العلماء والخبراء الذين شاركوا في الدراسة أقل ثقة بكثير في توقعاتهم من الأشخاص العاديين، مما يدلل على أنهم يعرفون أن تنبؤاتهم المحددة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
كيفية تحسين الأداء
تجعل استراتيجيات التفكير المتشابهة الناس أفضل في التنبؤ بمشاعرهم المستقبلية، كما أن التدريب على أخذ وجهة نظر المراقب المنفصل يمكن أن يعزز احتمالية هذا النوع من التفكير.
علاوة على ذلك، أظهر العمل الأخير لبروفيسور فيليب تيتلوك، أستاذ علم النفس بكلية أنينبيرغ بجامعة بنسلفانيا والذي شارك في تأليف كتاب التنبؤ الفائق، ومعاونيه أن تدريبا قصيرا في التفكير الاحتمالي يحسن قدرة الأشخاص على التنبؤ بالأحداث الجيوسياسية.
إلى ذلك، تعد الممارسة أحد الطرق الرئيسية الأخرى لتحسين دقة التوقعات والتنبؤات، وبصرف النظر عن التدريب على طرق التفكير، فإن المزيد من الممارسة في التنبؤ تعزز دقة التنبؤ، إلا أن ما يحدث هو أنه يتم تدريب خبراء العلوم السلوكية والاجتماعية بشكل عام على التفسير أكثر من التنبؤ والتوقع.