إذا كان المشرع قد منح لمؤسسة “أرشيف المغرب” سلطة على “الأرشيف العامة” التي تنتجها الدولة والجماعات المحلية والمنشآت العامة، والهيئات الخاصة المكلفة بإدارة مرفق من المرافق العامة فيما يتعلق بالأرشيف الناتجة عن هذا النشاط، وفقا لمقتضيات المادة 3 من القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف، فإنه خول لها في المقابل إمكانية استهداف “الأرشيفات الخاصة” ذات النفع العام، عبر عدة آليات قانونية وتعاقدية، حصرتها المادة 24 في الشراء أو الهبة أو الوصية أو الوديعة القابلة للاسترجاع.
وبفضل هذه الآليات، نجحت المؤسسة منذ تأسيسها سنة 2011 في اقتحام عدد من “القلاع الأرشيفية الخاصة”، وأمكن لها وضع اليد على عدد من النفائس الأرشيفية، كان آخرها الظفر بالتراث الأرشيفي لعلامة كبير من حجم الراحل “محمد المختار السوسي”. وهي اليوم، تنتشي باحتضان أرصدة أرشيفية موضوعاتية تتنوع بين “الأرشيف الدبلوماسي” و”الأرشيف السياسي” و”أرشيف الهندسة المعمارية” و”الأرشيف الحقوقي” و”أرشيف المسرح” و”أرشيف الموسيقى” و”أرشيف الفنون التشكيلية” و”أرشيف الفكر والتراث الأدبي”، وغير ذلك من الأرصدة الخاصة.
وبقدر ما نثمن هذا الزخم الأرشيفي الذي راكمته “أرشيف المغرب” رغم عمرها القصير الذي لم يتجاوز العقد من الزمن، بقدر ما نرى كمتتبعين ومهتمين بالشأن الأرشيفي أن “الأرشيف المدرسي” الذي تنتجه الوزارة الوصية على القطاع، مرورا بالأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين والمديريات الإقليمية وانتهاء بالمؤسسات التعليمية بأسلاكها الثلاث، مازال بعيدا عن دائرة الاهتمام، لاعتبارات عديدة لعل أبرزها غياب أو محدودية ثقافة الأرشيف على مستوى الأشخاص كما على مستوى المؤسسات، وثانيها يرتبط بغياب الرؤية الرصينة التي من شأنها تقدير أهمية وقيمة الأرشيفات التي تنتجها مختلف المؤسسات الصانعة للتربية والتكوين، كأرشيفات نوعية تسائل في شموليتها “الذاكرة المدرسية” الجماعية.
وقيمة ما تنتجه المنظومة التربوية بكل مستوياتها، لا يمكن اختزاله في حدود التاريخ أو الذاكرة أو البحث العلمي، بل يتجاوز ذلك إلى نطاقات أخرى تتقاطع فيها سبل “الحقوقي” و”الحداثي” و”الاستراتيجي”، من منطلق أن ما ينتج في مختلف دواليب مؤسسات التربية والتكوين، من قوانين وقرارات، ومن مذكرات وزارية وجهوية وإقليمية ومدرسية، ومن وثائق تربوية مؤطرة للمناهج والبرامج الدراسية وطرائق التقويم، ومن مشاريع وبرامج إصلاحية وأنشطة تربوية…، كلها وثائق حاملة لأرقام ومعطيات تربوية متعددة المستويات، عاكسة لواقع حال الممارسة التعليمية في أبعادها “التدبيرية” و”الإصلاحية” و”البيداغوجية” و”البشرية”، وصورة معبرة عن السياسات العمومية في شقها التعليمي. وبالتالي، فهي تسمح بمساءلة القرار التعليمي أو من ساهم أو يساهم في صناعة هذا القرار التعليمي، وتمكن ذوي الاختصاص من تشخيص مختلف السياسات والبرامج والمشاريع التعليمية، سواء السابقة أو القائمة، من حيث نجاحاتها وما شابها ويشوبها من مظاهر الارتباك والإخفاق، بشكل يسمح بتطوير السياسات التعليمية بما يضمن نجاحها ونجاعتها بعيدا عن كل ممارسات التردد والارتباك، التي عادة ما تكون مرادفة لاستنزاف المال العام وهدر زمن الإصلاح الحقيقي. كما أن وضع هذه الأرشيفات المدرسية رهن إشارة العموم في إطار الحق في المعلومة، هو آلية تساعد على قيـاس مدى حضور قيم المسؤولية والنزاهة والشفافية والمحاسبة على مستوى واقع الممارسة التعليمية.
وعليه، واعتبارا لهذه القيمة متعددة الزوايا، تكمن أهمية توثيق وأرشفة كل ما ينتج في مختلف دواليب الإدارات والمؤسسات التعليمية وفق مقتضيات القانون الأرشيفي ومرسومه التطبيقي، لأهداف وغايات مرتبطة أساسا بتشكيل الذاكرة المدرسية في أبعادها الوطنية والجهوية والمحلية، وبحفظ تاريخ مختلف مكونات المنظومة التربوية من أكاديميات جهوية ومديريات إقليمية ومؤسسات تعليمية، بشكل يساعد على تنظيم “المعلومة التعليمية” وفق أسس قانونية وتنظيمية رصينة، تيسـر عملية إتاحتها للجمهور وفق ما ينص عليه القانون في إطار “الحق في المعلومة” بعيدا عن كل الممارسات المرادفة للعشوائية والارتجال.
وكما نجحت “أرشيف المغرب” في احتضان العديد من الأرشيفات الموضوعاتية النوعية، نأمل أن تضع نصب عينيها “الأرشيفات المدرسية” لما لها من قيمة تاريخية وعلمية وتدبيرية، حسن توثيقها وأرشفتها لن يكون إلا تحولا نوعيا في طريقة التعامل مع الأرشيف، وممارسة عاكسة لرؤية حداثيـة، تجعل من الأرشيف “آلية” للإسهام في تعزيز صرح حقوق الإنسان وتوطيد الحكامة الرشيدة وما يرتبط بها من شفافية ونزاهة ومسؤولية ومحاسبة، وفعلا إداريا اعتياديا يمكن أن تبنى عليه دراسات استشرافية ومشاريع مستقبلية، متى تم تحريره من سلطة الماضي وأمكن ربطه بالمستقبل، من أجل سياسات ومشاريع إصلاحية تعليمية رصينة ومتبصـرة، تقطع مع كل أشكال التردد والارتباك.
ومكونات المنظومة التربوية بدورها، ونخص بالذكر “الأكاديميات الجهوية” و”المديريات الإقليمية”، مطالبة بالانتباه إلى ما تنتج من أرشيفات في إطار ممارسة عملها الاعتيادي، ومطالبة أيضا بتقدير أهمية حسن توثيق وأرشفة هذه الأرشيفات لما لها من قيمة علمية وتاريخية وحقوقية وحداثية واستراتيجية، وهي بذلك مدعوة لمد جسور التنسيق والتعاون مع “أرشيف المغرب” باعتبارها الحارسة على “الأرشيف العامة” والمعنية بحفظ وصون التراث الأرشيفي الوطني، لتصحيح الصورة النمطية للأرشيف التي مازالت عالقة في أذهان البعـض، والتأسيس لممارسة أرشيفية واعية ومتبصرة، تساعد على تشكيل الذاكرة المدرسية وحفظ تاريخ المؤسسات التعليمية، والتأسيس لمفهوم جديد للأرشيف يرتبط بحقوق الإنسان والحداثة والحكامة الجيدة، يعد جسـرا آمنا بين الماضي والحاضر والمستقبل.
وإذا وجهنا البوصلة عبر هذا المقال نحو “الأرشيف المدرسي”، فلأننا ندرك أن “التراث الأرشيفي الوطني” لن يكون إلا متواضعا أو مبتورا، ما لم يتم تطعيمه بما ينتج داخل أروقة ودواليب الإدارات والمؤسسات التعليمية من وثائق أرشيفية عاكسة لما راكمته الأمة المغربية من تجارب وممارسات وخبرات في قطاع حيوي واستراتيجي (التعليم) يعد قوة دافعة نحو التنمية والإقلاع الشامل.