رفعت نوال السعداوي رأسها عن الورقة والقلم جامد بين أصابعها. وتساءلَت: لماذا تكتب سيرة حياتها؟ أتكون الكلمات هي الملاذ الأخير للإمساك بما فات قبل أن يفوت؟ تثبيت الصور في الذاكرة قبل أن تتلاشى؟ مقاومة الفناء من أجل البقاء في الوجود، أو الخلود؟

لقد قضت ابنة النيل طفولتها في الريف المصري، وفي مزارعه وحقوله اكتشفت العصفور المخبوء في أعماق نفسها، لقد كان حالما بالطيران، لكن كلمات كـ “الوطن” و”الحب” و”الطب” و”العلم” و”الفن” و”الأدب” كانت تتحوّل إلى ما يشبه السلاسل وتشدّه إلى الأرض أو إلى ما تحتها.

تتذكر نوال السعداوي مشهد خروجها من بطن أمها “أنثى” في زمنٍ يحزن الناس فيه حين تولد الأنثى، زمن قد يكون حزنه أخفّ من زمن الوأد، لكنّ لونه القاتم يخفي الشيء الكظيم. وعندما تحاول أن تستعيد من عمرها الأجزاء التي سقطت في العدم وأن تشدها من براثن الماضي، تجدها مجرد لحظات تريد الفرار والاختفاء بعيدا عن الذاكرة وعن أعين الناس، لما تحمله من ألم ويأس وضعف وانحدار.

لقد أحبت ذكرياتها واستعذبت تعاستها لأنها كانت نوعا من النشوة التي لا يعرفها إلا القديسون والعشاق، ولأنها كانت قادرة على تحويل ألمها العميق إلى سعادة أعمق. تَراه حبّا قد يتجاوز التاريخ ويتجاوز العقل والجسد والروح ويحلّق وحده في ملكوت آخر، لكنه من السهل أيضا أن يموت كما تنطفئ الحياة في غمضة عين، مثل جناح فراشة يتمزق لأقل لمسة، ومسحوق ناعم يطير في الهواء بنفخة واحدة، ثم يصبح الإنسان وحيدا، وحيدا تماماً.

تدفعها قوة تشبه اليأس أو الهزيمة، إلى الموت أو الزواج، تنطق بكلمة الحب لرجل لا تحبه، يقاسمها الفراش تحت اسم الزواج، وأمام المرآة ترى وجهها شاحبا فتخاطبه: “هذه المرأة داخل المرآة أهي أنا؟ زوجة لرجل لا تحبّه. طبيبة في مهنة ليست مهنتها. تحمل في أحشائها جنينا ليس جنينها. تعيش في بيت ليس بيتها”. تتساقط الذكريات مثل قطرات الماء البارد فوق رأسها. وواثقة من كلامها تقول: “لقد تحرّرت من قانون الطاعة بفضل مشرط الجراحة”.

منذ بدأت نوال السعداوي الكتابة وهي تدرك أنها إثم، إثم التفكير أو الإحساس، أو مجرد التفكير. أحيانا كانت تكسر القلم وتمزّق الورقة وتتوقف عن الكتابة، لكن الكتابة عندها مثل حضن الأم، مثل حب يحدث بلا سبب، بحث عن الحقيقي في حياة يصوّرون فيها كلّ شيء على غير حقيقته. على مدى سنين العمر حاولت أن تعرف من أين يأتي الخداع في رسم الصور، وكيف تكتب لتجتاز المسافة بين الأصل والصورة.

مرّت الأيام مشيا في الطريق مثل الخيال، يتلاشى نصف قرن في لحظة واللحظة تمتد أمامها لا نهائية، تهبّ من نومها على أصوات تكفّرها وتدعو إلى قتلها، وأياد تسجنها وتفرج عنها. اسمها مكتوب على قائمة الموت وحياتها مهدّدة وحقيبتها معدّة للسفر.

يتحدث الناس وتقول نوال السعداوي إن الهمس يدور بينهم لأنهم لا يعرفون الوهم من الحقيقة أو الإشاعات من الحقائق. عندما ابتعد الأصدقاء والصديقات وانضم بعضهم إلى أحزاب وجرّت بعضهم تيارات، شعرت بالعزلة والغربة وأغرقت نفسها في العمل والكتابة. مع انتشار كتاباتها في العالم يتواصل تشجيع القراء والقارئات ويحتدّ هجوم النقاد، وحين يكثر الصخب تغيّر مكانها باحثة عن شيء لا تجده في هذا الكون، منجذبة للبريق في عين الإنسان أو الإنسانية. تكتشف عبره جزءا من الحقيقة التي تتخفى مثل جبل الثلج، ويتراكم الحزن في قلبها العام وراء العام. لا شيء إلاّ الحزن. حين تتطوّع للموت في حرب من أجل الوطن بينما يختار غيرها أن يرقص ويغني، فإن مشاهد القذائف وأصوات الانفجارات تبدو أمامها كأنما تقع في مسرحية عبثية.

أمضت أيام حياتها في بحث مضن عن سبل الانعتاق والتحرّر من أنواع العبودية التي تخلّف الفقر والجهل والمرض، وحرّكت الأحداث والمشاهد قلمها وأسقطت ذكرياتها على الأوراق، فكتبت ما عاشته على مدى خمسة عقود في سيرة ذاتية من ثلاثة أجزاء عنونتها بـ “أوراقي.. حياتي”.

فهل كانت تكتب نوال السعداوي لمقاومة الفناء من أجل البقاء في الوجود، أو الخلود؟

لقد أجابت نفسها: “الاستمرار الدائم لأي شيء يؤدي إلى الملل. لولا الموت لأصبحت الحياة أمراً غير محتمل”.

*كاتبة وإعلامية مغربية

hespress.com