ملاحظات على هامش قرار المحكمة الدستورية رقم 115/21 المتعلق بمعاشات النواب البرلمانيين

صدر قرار المحكمة الدستورية بخصوص الطعن الذي تقدم به 87 نائبا برلمانيا (من فريق الأصالة والمعاصرة بمجلس النواب)، وهو الطعن الذي يرمي إلى التصريح بمخالفة القانون المتعلق بإلغاء وتصفية نظام المعاشات المحدث لفائدة أعضاء مجلس النواب بموجب القانون رقم 24.92، للدستور، وهو المقترح الذي تقدمت به جميع الفرق النيابية وتمت المصادقة عليه بتاريخ 9 فبراير2021.

وقد تقدم النواب الطاعنون بالعديد من النقاط التي يبنون على أساسها طعنهم في هذا القانون، والذي يهدفون من خلاله إلى إشراك المحكمة الدستورية، في هذا النقاش المجتمعي، لمعرفة موقفها الدستوري من هذه العملية المرتبطة بالمال العام، وبغاية جعل قرارها مرجعا دستوريا أثناء عملية تصفية صندوق معاشات أعضاء مجلسي البرلمان.

وفي نفس الوقت كان الجميع في انتظار هذا القرار الذي من شأنه الإجابة على العديد من الأسئلة التي طرحها التفاعل المجتمعي مع مسألة معاشات النواب، خصوصا حول مدى مشروعيتها، والتدابير التي من خلالها ستتم تصفية هذا النظام، بين من يرى أنه يجب تصفية الصندوق بدون إرجاع الأموال المستحقة للمساهمين، وبين من يرى أن البرلمانيين لا يحق لهم إلا استعادة مساهماتهم التي دفعوها للصندوق دون أن تشمل المرجوعات مساهمات المجلس المتأتية من الميزانية العامة باعتبارها مالا عاما.

ويعد القرار الأخير رقم 115/21 للمحكمة الدستورية بخصوص هذا القانون مثيرا للاهتمام وحافلا بالمفاجئات التي لم تكن في الحسبان، خاصة بعد التفاعل المجتمعي الكبير مع موضوع “معاشات النواب” خاصة في وسائط التواصل الاجتماعي التي كانت تضغط من أجل إغلاق هذا الملف وإلغاء المعاشات باعتبارها تارة “ريعا” وتارة أخرى “مسألة غير متوافقة مع القانون”، كما طفت على السطح مؤخرا مسألة توزيع مساهمات الدولة على الأعضاء، والتي اعتبرها البعض مالا عاما، لكن المحكمة كان لها رأيها الخاص؛ والمتفق مع الدستور طبعا؛ فيما يخص هذه المسألة.

كما أن هذا القرار تضمن موقف المحكمة الدستورية “حارسة الدستور” من القضايا التي أثارها الطاعنون، وأيضا تأكيدها على مبادئ دستورية وقواعد قانونية وإجراءات ترتبط بالمسطرة التشريعية، وهو ما يجعل هذا القرار في مرتبة القرارات المؤسسة.

وقد كانت إجابة المحكمة الدستورية في هذا المجال مفاجئة في العديد من النواحي، كما أسلفنا.

ويمكن تلخيص رأي القاضي الدستوري؛ المعبر عنه في هذا القرار فيما يلي:

بخصوص الأساس القانوني لنظام المعاشات (من حيث المشروعية):

جاء رأي القضاء الدستوري بأنه نوع من “الحماية الاجتماعية” التي هي: “حق دستوري للجميع”، لأن وجود نظام للحماية الاجتماعية لأعضاء البرلمان هو حق دستوري ومشروع بمقتضيات الدستور التي تتكامل فيما بينها، وأن إحداث المشرع لأنظمة للمعاشات يعد: “صورة من صور إنفاذ الالتزام الإيجابي للدولة بتيسير أسباب الاستفادة المتساوية للمواطنات والمواطنين من الحق في الحماية الاجتماعية”، وأن مفاد فصول وروح الدستور مجتمعة، يتمثل في أن: “إنفاذ الالتزام الإيجابي للدولة بتعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في الحماية الاجتماعية، الذي يندرج في فئة الحقوق الاجتماعية”، وهو ما يمكن أن يتم، وفقا للدستور، بطرق متعددة.

كما رأى بأن القانون بشأن إلغاء وتصفية نظام المعاشات المحدث لفائدة أعضاء مجلس النواب، يكون مندرجا، في شكله القانوني الخارجي وفي موضوعه، ضمن الميادين التي يختص القانون بالتشريع فيها بمقتضى أحكام الفقرة الأولى من الفصل 71 من الدستور.

وأنه من حق المشرع أن ينشئ أو يلغي نظام المعاشات الخاص بالنواب لأنه لا يوجد في الفقرة الأولى من الفصل 71 المشار إليها، ولا في باقي أحكام الدستور، ما يقصر اختصاص التشريع في مجال إحداث أو تعديل أو تصفية أنظمة المعاشات، بوصفها إحدى أنماط الحماية الاجتماعية، على الموظفين المدنيين والعسكريين وعلى المستخدمين دون غيرهم من الأشخاص”، كما استند القاضي الدستوري إلى “التأويل النسقي” لاختصاص القانون بالتشريع في ميدان “الضمان الاجتماعي” المنصوص عليه في الفقرة الأولى من الفصل 71 من الدستور، في ترابط، من جهة، مع أحكام الفصل 31 منه، ومن جهة أخرى، مع أحكام الفقرة الثانية من الفصل 32 من الدستور، التي نصت على عمل الدولة “على ضمان الحماية… الاجتماعية …للأسرة، بمقتضى القانون”، إمكانية شمول مجال التشريع في ميدان الضمان الاجتماعي لأشخاص من غير المستخدمين في القطاع الخاص، ومن غير المزاولين لنشاط مهني مأجور، وهو التفسير المنسجم، مع مضمون اتفاقية منظمة العمل الدولية، رقم 102، بشأن “المعايير الدنيا للضمان الاجتماعي”.

وقد برر القاضي الدستوري هذا القرار ب: “كون الدستور متكامل في تصديره وفصوله ومترابط في أحكامه، وإذا كان لكل فصل من فصول الدستور مضمون محدد يستقل به عن غيره من النصوص، فإن الاستدلال به بمعزل عن باقي أحكامه ذات الصلة به، لا يسعف في تمثل الغاية التي ابتغاها المشرع الدستوري من إقرار القواعد المعتمدة مرجعا لفحص دستورية قانون معروض”.

وهو ما يعد إجابة صريحة على مدى قانونية نظام المعاشات التي كان يتقاضاها النواب البرلمانيون والتي يتقاضاها حاليا أعضاء مجلس المستشارين.

أما بخصوص حدود توزيع موجودات صندوق معاشات النواب:

فقد رأت المحكمة الدستورية أن توزيع مجموع موجودات الصندوق “بغض النظر عن مصدر المورد” (سواء كانت اشتراكات النواب، أو الأموال المقدمة من المجلس والمتأتية من الميزانية العامة لدولة) غير مخالف للقانون، وذلك راجع لما رأى القاضي الدستوري أنه يستند إلى قاعدة أن: “الحقوق تنشأ مترتبة عن موجباتها”، وبالتالي فواجبات الاشتراك المؤداة من قبل أعضاء مجلس النواب، بصفة إجبارية، تندرج في حال إلغاء هذا النظام، في إطار: “حق الملكية الذي يضمنه القانون”، وتشكل، تبعا لذلك: “دينا مستحقا للمشتركين قابلا للأداء كلا أو جزءا حسب الحالة”، وفي إطار التضامن في تحمل المخاطر الذي يسم أنظمة الاحتياط الاجتماعي، باستخدام: “رصيد احتياط النظام، بصرف النظر عن مصدر موارد النظام قيد الإلغاء”.

وبالتالي فقد أجابت المحكمة أيضا عن حدود توزيع موجودات الصندوق، وهو ما كان أيضا موضوع سجال بين الكثير من فعاليات المدنية والسياسية، خاصة فيما يتعلق بمقترح قانون يقضي بإلغاء وتصفية نظام معاشات أعضاء مجلس المستشارين، حيث كان الجدل ينصب حول قانونية صرف المستحقات بشقيها الاشتراكات والمخصصات من ميزانية المجلس المرصودة من الميزانية العامة للدولة، وبالتالي فقد رأت المحكمة الدستورية أن هذا الأمر غير مخالف للقانون.

كما أقرت المحكمة الدستورية بأن هذه الأموال المرجعة تكون معفاة من الضرائب.

كما تضمن القرار قواعد أخرى منها ما يتعلق بمجلس النواب، حيث رأت المحكمة الدستورية أن:

– البرلمان يعد من أجهزة الدولة وجزءا من شخصيتها المعنوية، وغير متمتع بالاستقلال المالي، حتى وإن كان له استقلاليته في تدبير شؤونه الداخلية ؛

– دور مكتبي مجلسي البرلمان يقتصر على اقتراح الاعتمادات الخاصة بميزانية المجلس على الحكومة التي يعود لها وحدها اختصاص وضع الميزانية العامة للدولة ؛

– لا محل للدفع بتنازع المصالح، في ممارسة أعضاء البرلمان، الذين يستمدون نيابتهم من الأمة (الفقرة الأولى من الفصل 60 من الدستور)، لحقهم في التقدم باقتراح القوانين (الفقرة الأولى من الفصل 78).

ومنها ما يرتبط بالقوانين المالية، حيث رأت المحكمة الدستورية بأن:

قوانين المالية تتضمن بطبيعتها مقتضيات ضريبية، باعتبار هذه الأخيرة جزءا أساسيا من الأحكام المتعلقة بالموارد العمومية التي يعود لقوانين المالية وحدها توقعها وتقييمها والإذن بها، لكن ذلك: “لا يعني أن سن المقتضيات الضريبية، في عموميتها، ينحصر في قوانين المالية” ؛

إن ﺣﺼﺮ إمكانية سن المقتضيات الضريبية في قانون المالية يفضي، دون سند دستوري، إلى تقييد صلاحيات البرلمان وكذا صلاحيات الحكومة في مجال التشريع، لاسيما حق أعضاء البرلمان في التقدم باقتراح القوانين المضمون بموجب الفصل 78 من الدستور، “مع مراعاة أن سن المقتضيات الضريبية يجب أن يستحضر دائما قاعدة توازن مالية الدولة المقررة بمقتضى الفصل 77 من الدستور”.

كما تطرقت المحكمة إلى مسألة “تجريح بعض أعضائها”، والذين تنحوا طواعية بمجرد علمهم بالتجريح، (حيث أشار القرار إلى أن: وقد رأت المحكمة الدستورية أن ضمانتي حياد واستقلالية أعضاء المحكمة الدستورية، المترتبتين عن الطبيعة القضائية للمحكمة المذكورة، متلازمتان وأمران واجبان في مجال مباشرة المحكمة لسائر أعمالها، وأن التجرد والنزاهة، شرطان لازمان لاختيار أعضاء المحكمة الدستورية، بمقتضى أحكام الفقرة الأخيرة من الفصل 130 من الدستور، وشرطان قبليان لممارسة مهام القضاء الدستوري بموجب القسم الذي أداه أعضاء المحكمة الدستورية بين يدي جلالة الملك)، وأن إن ضمانات التجرد والنزاهة والوقاية من تنازع المصالح، تتحقق على المستويين الذاتي والموضوعي، بالنسبة لأعضاء المحكمة، وأنه يعود لها (أي المحكمة الدستورية) عند النظر في طلبات التجريح المقدمة إليها، تقدير ثبوت حالة تنازع المصالح، المؤدية إلى زوال الحياد الفعلي أو إلى المس بصورة الحياد الظاهري اللذين يقتضيهما عمل المحكمة المذكورة، كل ذلك في مراعاة لمتطلبات حسن سير العدالة الدستورية وضمان شروط إنفاذها وفق الأوضاع والإجراءات المقررة في الدستور والقوانين التنظيمية.

hespress.com