هناك صفات سلوكية جميلة، في الإنسان، إلا أنها عيوب، في الوقت نفسه، إذا ما تغير مكان استعمالها، في اللغة العربية.

ففي لغتنا الجميلة، المعاني ليست نهائية، في كل الأحوال، والبعض من المعاني فيها، خاصة في الأسماء، يكون من قبيل المجاز، أو الكناية، أو ما جاء على الشيوع، فيصبح ما كان ميزة جمالية، هنا، عَيبا، هناك. والكلمة، هي، هي، لم تتغير.

تخبرنا آداب الأكل عند العرب، عن تحوّل في استعمال الكلمات، فما كان منها مدحاً أو صفة جميلة محببة في السلوك، يصبح عيباً يلام عليه صاحبه. ومن أجل هذا، يركّز أهل اللغة، على السياق، فالأخير، في العربية، يغيّر من معنى الفعل، بل الاسم والصفة.

الاستئذان عيب هنا

فالاستئذانُ، من الصفات السلوكية الحضارية، الاستئذان على الرجل، قبل دخول بيته، والاستئذان من مالك الشيء، باستعماله أو استعارته أو اقتنائه. إلا أن الاستئذان، في تقديم الطعام للضيوف، يصبح عيبا، حتى اشتقّ أهل التصنيف العربي، اسم عيب من عيوب المؤاكلة، وضعوا له اسم: المستأذِن!

والمستأذنُ، هو ربّ البيت الذي يستأذن ضيوفه، في إحضار الطعام لهم. ويعدّ هذا، من عيوب آداب الضيافة والمؤاكلة. ذلك أن الاستئذان، في هذه الحالة، قد يربك الضيف، خجلاً وتمنعاً، مما يدفعه للادعاء بأنه غير جائع، في الوقت الذي هو يتضوّر جوعاً.

ويستشهد المصنفون العرب، بأبيات شعرية، وردت في “لزوميات” أبي العلاء المعري، تؤكد أن الاستئذان، هنا، غير مستحب، لما يمكن أن يجره من رد فعل ليس في مكانه:

لا تسألِ الضيفَ إن أطعمته ظُهُراً

بالليل: “هل لكَ في بعض القِرى، أربُ؟”

فإن ذلك من قولٍ يُلقَّنه:

“لا أشتهي الزاد” وهو الساغبُ الحَرِبُ!

وتطلب هذه الأبيات، عدم الاستئذان من الضيف بتقديم الأكل له، فإن ذلك، كمن يدفعه للقول “لا أشتهي الزاد” مع أنه يتضوّر جوعاً وتعباً.

توقف عن البحث!

ومن الصفات المحمودة، البحث، ومنه البحّاثة والبحّاث. وهاء الأُولى، مبالغة رائجة في العربية، كالداهية والعلاّمة. إلا أن البحّاث يصبح عيباً، في الأكل، ذلك أن البحث والتنقيب، في الطبق، أمام الضيوف الآخرين أو صاحب البيت، فعلٌ يمجّه السلوك الحضاري.

وورد في مصنفات العربية، البحّاث، هو من يبحث الطعامَ، ويفرّقه، وينظر في أجزائه، حتى يُغثي نفس كل من يراه.

الصمت هنا جريمة

الصمتُ، من جماليات متفق عليها، في آداب السلوك، بل يعد هدفاً أحياناً، للشعراء والفنانين وأهل العمل الذهني، لتأمين مساحة أوسع من التركيز والفحص والتحليل والبحث. وكانت العرب تطلق اسم الصامت، على بعض أبنائها.

إلا أن الصامت، ينقلب إلى فاعل عيب سلوكي، عندما يكون اسماً للشخص الذي يتقصّد عدم الكلام، وذلك لانشغاله بملء فمه بالطعام.

وتوضح مصنفات العربية، ذلك الانقلاب في المعنى، ويرد في بعضها: والصامتُ، هو نوعٌ من النَّهَمِ، أيضاً. ويسمى فيه، كل من لا يعود ينطق، بل يطرق على الأكل، فحسب، ثم ينشغل بالمضغ والبلع وأخذ اللّقم، ووضعها متصلاً، بلا انفصال.

والنثر، يشار به، أدبياً، إلى ما يكتب بدون تقيد ببحور الشعر العربي، وفاعله ناثر، وهنالك الشعر المنثور وقصيدة النثر. وتأتي مقابلة الناثر، للشاعر، كون الأخير يتقيد بالوزن والقافية، فيما الناثر استمدّ اسمه من تلك الحرية في الحركة التأليفية، النثر، وهي تعني الاعتباط وعدم الانضباط كيفما اتفق، وهذا كله، يعني فقط، عدم التقيد بالوزن، وليست سبّة، في أصلها، بل مجرد معارضة المتقيّد، ببحور الشعر، بالذي لا يتقيد.

المُحَدِّث يُلهي عن الطعام

لكن “الناثر” فاعل عيب، في الطعام، هو الآخر، ويقترف جريمة بعثرة قطع الخبز، بين يديه، من شدة نهمه. تقول بعض مصنفات العربية ذات الصلة: والناثرُ، وهو من قسم النَّهَم، وهو من ينثر من النّهَم، الخبزَ، لقماً، بين يديه.

ومثل الناثر، فهناك المحدِّث. والأخيرة، فيها ما فيها، من صفات محمودات، كما هو متفق عليه. فالمحدِّث، قيمة أدبية ومرجعية فقهية، رفيعة الشأن، وإليها يذهب أهل الاقتباس والبحث، للتوثيق والنهل.

وكالناثر، والصامت، تصبح المُحَدِّث، عيباً، إذا كانت صفة رب المنزل، وهو يشاغل ضيوفه بالحديث، فيما الأَولى، تركهم يأكلون، براحتهم، ودون إشغال يفضي إلى التوقف عن الطعام.

ويرد في مصنفات عربية ذات صلة بعيوب الأكل أو ما يعرف بآداب المؤاكلة، أن المحدّث هو رب المنزل، يشاغل مؤاكليه، بالحديث المتصل الذي يستدعي منهم، الجواب. فيلهيهم عن طعامهم، بالإصغاء إليه.

التحميد قد يُفهَم خطأ

والحمدُ، ومنه الحامد. والكلمة، كغيرها، في اللغة العربية، يأخذها المجاز أو الكناية أو الشيوع، لتصبح في مكان آخر، دلالة واستعمالا، فتنتقل من أصلها، كسلوك محمود مطلوب، إلى صفة غير مستحبة، إنما لدى صاحب البيت الذي يكثر الحمد، فيظن الضيوف أنه يغمز بالكفّ عن الطعام!

وورد في بعض مصنفات العربية، أن الحامد، هو الذي يحمد الله تعالى، جهراً، أثناء الطعام، لا سيما إذا كان صاحب المائدة أو البيت. وتوضح مصنفات العربية، أن الحامد، هنا، يبدو كما لو أنه ينبّه ضيوفه إلى الكف عن تناول الطعام.

ويشار إلى أنه سبق وحصلت حادثة، تتعلق بالحمد أثناء الطعام، ودونت في مصنفات العربية من النوادر. عندما تمتم أحدهم بحمد الله تعالى، لشيء مفاجئ خطر بباله، مع ضيوفه الذين قام أحدهم وقاله له، معترضاً: وما معنى التحميدُ في هذا الموضع؟ كأنك أردتَ أن تعلمنا بأننا قد شَبِعنا!

الدَّفَّاع ليس دائماً الأقوى

ومثل ما سبق، فمن قوة الرجل، الدفع. والرجل شديد الدفع، يسمى دفَّاعاً، تقول أمهات العربية. إلا أن تلك الصفة الممدوح حاملها، تنقلب عيباً، عندما تكون دفعاً لبعض قطع الطعام، ويكون فاعلها، دفَّاعاً. ويوضح أهل العربية، أن الدَّفَّاع، هو من يقوم بدفع قطع الطعام التي لا يحبها، لجلب قطع أخرى، إلى طبقه: والدَّفَّاعُ مَن إذا وقع في القصعة عظمٌ، مما يليه، نحَّاه حتى صير مكانه، لحمة!

وفي مكان آخر: الدَّفَّاعُ هو الذي جعل اللقمة، في فيه، أدخلَ معها بعض سبابته. وفي الحالين، هي من المعدودات في العيوب التي كانت في استعمال آخر، صفة محمودة. كالواثب والمستظهر اللتين أصبحتا، عيبين، أو اسمين لفاعلي عيبين يتعلقان بآداب الأكل أو الشروع بالدعوة للولائم.

والمُسابق، كالدَّفَّاع، محمود في الحركة والتنافس. فالمسابق، في الريح والخيل والركض والسباع، ويعرف منها، الأسرع أو الأكثر جلداً. إلا أنها، في سياق تناول الطعام، تصبح عيباً. فالمسابقُ هو الذي يسابق الآخرين على قنص اللقمة، ويعتبر من سلوك النَّهم، فيمسك اللقمة في يده، كان أعدّها قبل أن ينتهي من مضغ لقمة أخرى في فمه. حتى قالوا: فلا يرون فكَّه خالياً، ولا يده!

alarabiya.net