إن تشكل وعي وسلوك الإنسان باختلاف انتماءاته الثقافية والدينية والسياسية ومستواه الفكري، لا يمكن أن يكون خارج مرجعية أو منطلق يكون بمثابة مقياس يعتمده للتمييز بين الأشياء ويدفعه إلى قبول أمر أو رفضه، فعله أو الامتناع عنه، منطلق يزن من خلاله الأشياء والأفعال ويحدد لها قيمة معينة قد تكون سلبية أو إيجابية أو محايدة.

لقد تشكلت القيم عبر التاريخ كإطار مرجعي يحكم الناس ويضبط ويوجه سلوكهم، إنها تعني بالنسبة للأفراد أن لديهم اتجاهات ايجابية حيال بعض جوانب الحياة وأخرى سلبية تجاه بعضها، إننا أمام محددات سلوكية ارتضاها الأفراد والمجتمع أو ترسخت لديهم مع مرور الزمن، للحكم على الأشياء والأشخاص والمواقف من حولهم، بناء على هذه القيم نصدر أحكامنا ونقول أن هذا الأمر صائب أو خاطئ، جيد أو سيء، قيم نشكلها انطلاقا من منابع متعددة على رأسها الدين (اتباع السلف الصالح) والعقل (الاقتناع) والمجتمع (القوانين والأعراف والعادات والأفكار)، نحصل عبرها على منظومة قيمية توجه سلوكاتنا، وإن كانت ترتبط بالدين والمجتمع والعقل فهي لا تنفصل عن السياق السياسي وطبيعة المشروع المجتمعي السائد، كما بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية والتكنولوجية وغيرها.

إن القيم مجردة لكنها ليست مطلقة ولا ثابتة، بل نسبية تتغير وتتعرض للتجديد والإغناء كما للتجاوز والإلغاء، تطور طبيعي يعد نتاجا للتفاعل بين الفرد ونفسه وبينه وبين الجماعة، متأثرا بتراكمات وتغيرات الحياة الفكرية والمادية للمجتمع، ومتفاعلا مع تطور وسائل وأنماط العيش وطبيعة العلاقات الاجتماعية، ولأنها بمثابة ذلك الغربال الذي نستعمله لتنقية سلوكاتنا وتصنيفها، فإن هذا الغربال بحاجة ماسة ودائمة إلى الصيانة والإصلاح والتعديل، ولا ضير في أننا اليوم في حاجة ماسة إلى القيام بهذه العملية بعدما عرفت القيم تدهورا غير مسبوق، أزمة حقيقية نلمسها في سلوك الأفراد والجماعات بشكل يومي، في أفكارهم وأفعالهم.

ولأن الشباب والأطفال هم عماد المستقبل، فإن ما سنغرسه من قيم في الأجيال الصاعدة يعد المحدد الأساسي لهوية ومستقبل المجتمع واستقراره، والاهتمام بهاتين الفئتين ضرورة ملحة لا تقبل الانتظار أو التجاهل، وهي في الآن ذاته مسألة براغماتية، فليس من باب التمييز أن نقول أن الفئات الأخرى من الكهول والعجزة تكون أقل تجاوبا مع التغيير، فكما يقال “من شب على شيء شاب عليه” و”الطبع يغلب التطبع”، ولا شك أن طبع الإنسان يتشكل في السنوات الأولى من حياته انطلاقا من فضاءات متعددة ذكرناها سابقا، هذا لا يعني إقصاء فئات بعينها بل تركيزا على الفئات الأكثر حاجة لتجديد وتجويد قيمها لأنها هي المستقبل.

إن الفساد والرشوة والمحسوبية والزبونية والاتكالية والسرقة والمراوغة…، والمرتبطة كلها بشكل أو بآخر بتفشي وسيطرة النزعة الفردانية، ليست سوى تمظهرات واضحة لتفكك القيم وتشوهها بالإضافة إلى غياب معايير المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والمجالية، فليس عدلا أن نرمي بهذه الكرة حصريا في ميدان أنظمة أو أجهزة أو مؤسسات أومهن أو فئات بعينها، فالمحامي الذي يسلك أساليب لا أخلاقية من أجل الربح على حساب موكله، والصحافي الذي يتقاضى رشاوى مقابل تلميع صورة شخص أو مؤسسة، والشرطي الذي يتلقى أموالا زهيدة مقابل غض الطرف عن تطبيق القانون، والأستاذ الجامعي الذي يمنح النقط مقابل الجسد أو المال أو ينشر باسمه أبحاثا قام بها طلبته، والطبيب الذي قد يلجأ إلى إجراء عمليات جراحية غير مبررة لاستكمال بناء فيلاه أو مزرعته، والمسؤول الذي يشغل صاحبته و”كليانه” خارج معايير الشفافية، أو المدير الذي يتلقى هدايا وإتاوات مقابل تفويت المشاريع لمقاولين أو شركات على حساب المال العام، والمواطن الذي يعرض الرشاوى ليقضي أغراضه قبل الآخرين أو ليقي نفسه من عقوبات معينة أو لتشغيل أبنائه…. كلهم سواسية، وجميعهم ليسوا سوى نتاجا طبيعيا لتنشئة اجتماعية ولقيم مشوهة تشربوها من فضاءات متعددة، على رأسها الأسرة والمدرسة والإعلام والشارع، دون أن ننسى عامل العولمة والتكنولوجيات الحديثة التي صارت أبوابها المترعة تقود إلى عوالم تنبض بالفوضى وتلقن قيم الاستيلاب والتطرف والانحلال.

إن نهب المال العام والتهرب الضريبي، وخيانة الأمانة وممارسة العنف المادي والرمزي وصولا إلى الإرهاب، كلها وممارسات أخرى يصعب علينا ذكرها كلها، تؤدي إلى تفويت سنوات وعقود من التنمية والديمقراطية والتقدم على بلادنا، فلا شك أن لها كلفة اقتصادية واجتماعية كبيرة جدا وتساهم بحصة الأسد في الأزمات التي نعيشها اليوم، فتكون نماذج تساهم في تجديد نفس السلوكات جيلا عن جيل، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الإصلاحات القانونية والمؤسساتية ومقاربة “الجزر” وإحقاق دولة الحق والقانون، وإن كانت كلها ضرورية ومطلوبة، فإنها لن تعطي نتائج نهائية ولن تؤدي إلى علاج جذري للظواهر السلبية التي انتشرت كالنار في الهشيم في مختلف الفضاءات انطلاقا من المنزل والشارع وصولا إلى الإدارة والمدرسة والمسجد والسوق…

الهدف سهل نظريا صعب تطبيقيا، لأنه يحتاج إلى إصلاحات بنيوية كبرى ستتطلب وقتا حتى نجني الثمار، لكن كما يقال “رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة”، وقد حان الوقت الحتمي لانطلاق الرحلة لإنقاذ مستقبل الوطن والأجيال اللاحقة، والأولوية يجب أن تكون لقطاعات معينة على رأسها قطاع التربية والتكوين، من خلال إصلاح عميق للمدرسة كمحور أساسي لتلقين قيم الانضباط والالتزام والمواطنة والتعايش بالإضافة إلى الأسرة والإعلام، دون نسيان نسج استراتيجيات أنجع في اتجاه تحقيق التغيير الديمقراطي وتثبيت الحكامة الرشيدة وتقليص الفوارق الطبقية والمجالية.

إن وظيفة المدرسة ليست سهلة بل هي دقيقة وخطيرة وحاسمة في الآن ذاته، لأن موضوعها هو الإنسان الذي تحتضنه في أكثر مراحل حياته حساسية، كما أن من بين ما يميزها أدواتها ووسائلها التي يمكن اختزالها في المعارف والقيم، وهما عنصرين جدليين لا أهمية لأحدهما دون اقترانه بالعنصر الآخر، أما أهدافها فهي تكوين الإنسان الصالح لنفسه ووطنه وشعبه وعالمه، لذلك فدور هذا الفضاء كبير جدا في غرس القيم وتجديدها وتجويدها، ومن بين القيم التي ينتظر ترسيخها التعايش والانفتاح ونبذ التطرف والإٍرهاب، وتجسيد التنوع اللغوي والثقافي وصناعة الوحدة من داخل الاختلاف، إلى جانب التربية على المواطنة والوطنية والافتخار بالهوية والحضارة المغربية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ دون بتر أو تقزيم، مع تفادي استيراد نماذج ثقافية وإيديولوجية غريبة وفرضها مقابل إقصاء الذات واحتقارها، والانتصار لقضايا بعيدة عنا على حساب قضايانا المصيرية، دون أن ننسى أن بناء الإنسان الواعي رهين بالانتقال من التركيز على النقل إلى التركيز على العقل، وعدم جعل الانتماء الوطني على أهميته يساهم في التقوقع الكلي على الذات، بل جعله بخصوصياته متماهيا مع القيم الكونية والإنسانية.

بالإضافة إلى المدرسة لا بد أن يلعب المسجد دورا في بناء القيم السوية بعيدا عن التعصب والتمييز والأنانية والطائفية والتطرف، ولا ريب أن الإسلام المغربي السمح المتماهي مع ثقافتنا الأصيلة من شأنه أن يساهم في بناء مواطن يعتز بإسلامه المتناغم مع انتمائه الكوني والإنساني ليصير قادرا على الانفتاح على كل الديانات والحضارات واحترامها، كما أنه سيشكل لنا مناعة ضد جائحة الأفكار التخريبية المستوردة والغريبة عن ثقافتنا التي تعود جذورها إلى أكثر من 70 قرنا ونيف.

إلى جانب المدرسة والمسجد، توجد مؤسسة أكثر أهمية إنها الأسرة التي آن الأوان أن نعيد لها الاعتبار لتربي الأجيال الصاعدة على قيم “تمغربيت” وقيم المواطنة، لابد من دعمها في تربية أبنائنا ووضع حد لمعاناتها الاجتماعية والاقتصادية ووضع مخططات للتقليص من ظاهرة التفكك الأسري مع احترام تام للحريات الفردية والجماعية، دون أن نقفز على قطاع الإعلام الذي يحتاج إلى إصلاح عميق حتى يكون قاطرة لنشر القيم الأصيلة والحداثية، ويقدم خدمة إعلامية مهنية تحترم أخلاقيات المهنة بعيدا عن الهاجس التجاري والاستهلاكي المبتذل.

إن القيم التي يجب أن تغرس في الناشئة انطلاقا من كل الفضاءات التي ذكرناها، يجب أن تتأسس على ازدواجية “قيم تمغربيت” و”القيم الكونية المتعارف عليها” مع أن هناك مجال مشترك واسع بينهما، وتمغربيت تعني حسب فهمنا القيم والخصوصيات الثقافية والهوياتية التي تجعل من المغاربة شعبا متفردا في تناغم مع القيم الإنسانية، بالإضافة إلى كونها لب وعمق الانتماء الوطني والمواطناتي لشعبنا، ولا شك أن العامل الثقافي صار اليوم ركيزة من الركائز الأساسية للتنمية المستدامة، يقول المهدي المنجرة في كتابه “قيمة القيم” أن “التخلف الذي يعيشه العالم الثالث ثقافي بالأساس”، وأن العالم الغربي يوظف القيم كآلية للهيمنة والسيطرة على ما يسميه “العالم المتخلف” الذي يتخبط في أزمة هوية، مستنتجا أنه لا يمكن تجاوز هذا الوضع إلا من خلال إعادة الاعتبار للثقافة والهوية، مع أن فهم الراحل المنجرة لهذين المفهومين بعيد عن جوهر “تمغربيت” الحقيقية، التي يجب أن نفهمها في إطار تاريخنا الطويل في شموليته بعيدا عن البتر المؤدلج، وأبعد عن إلحاقنا ذيلا للشرق أو الغرب.

إن إعداد مخططات دقيقة وعملية ناجعة لإصلاح كل هذه القطاعات والمؤسسات يجب أن يتم من خلال مقاربة تشاركية يساهم فيها الجميع، بدءا بالتعبير عن إٍرادة سياسية حقيقية للتغيير مرورا باختيار الكفاءات الصادقة لتكون في طليعة تنزيلها، وتنظيم مناظرات وأوراش وأيام دراسية وحملات تحسيسية، وصولا إلى تحقيق الهدف المنشود مهما تطلب من الإمكانيات البشرية واللوجستيكية والمادية، وإنه لجدير بالتذكير أن هذا الإصلاح الذي يهدف إلى إثبات وتجويد القيم وتغيير العقليات، وبناء منظومة قيمية وطنية متماسكة عنوانها “تمغربيت”، يجب أن يتطور بالموازاة وبنفس السرعة مع الإصلاحات القانونية والمؤسساتية في مجال الدمقرطة ومحاربة الفساد والريع.

hespress.com