أشارت ورقة بحثية إلى أنه على الرغم من تحقيق الصين لتقدم كبير في مجال تكنولوجيا المعلومات، فإن هناك تناقضا بين الخطاب الصيني الداخلي وبين الخطاب الموجه إلى الأجانب حيال وضع وطموح بكين في مجال تكنولوجيا المعلومات بشكل عام؛ ففي حين يؤكد الخطاب الحكومي والأكاديمي الصيني على أهمية وجود حدود للأسواق الحرة، يتسم الخطاب الذي تنتهجه بكين على الصعيد الدولي بالتأكيد على أهمية آليات السوق الحر والانفتاح والتعاون والترابط.

وفي ضوء هذا التناقض، وفق مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، ولا سيما مع تزايد نفوذ وتقدم الصين في مجال الاتصالات السلكية واللا سلكية، يأتي التقرير الصادر في أبريل الجاري عن معهد بروكينجز (أحد أقدم مؤسسات الفكر والرأي وأكثرها تأثيرا في الولايات المتحدة) ليستعرض أهم مؤشرات التناقض بين الخطاب الحكومي الداخلي والخطاب الخارجي للصين، فضلا عن تحليل طموحات بكين ورغبتها في تخطي القادة الصناعيين القدامى، وتحديد بنية الثورة الرقمية لتتحول الصين إلى “قوة سيبرانية عظمى”.

وقد تم إعداد هذا التقرير من خلال الاعتماد على البيانات الرسمية الصينية وتصريحات المتحدثين الرسميين باسم وزارة الخارجية الصينية، وكذلك الخطب التي ألقاها الرئيس الصيني وكبار المسؤولين الصينيين، بالإضافة إلى المقالات المنشورة في عشرات المجلات الرسمية التابعة لجهات حكومية عديدة، مثل وزارة التجارة وجيش التحرير الشعبي؛ وذلك للتعرف على الإستراتيجية الصينية بشأن الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.

مؤشرات الطموح

يشير التقرير إلى أن إرهاصات الطموح الصيني للتحول إلى قوة سيبرانية عظمى ترجع إلى عام 2014، حيث قدم الرئيس الصيني “شي جينغ بينغ” مفهوم “القوة السيبرانية العظمى”، عند إنشائه المجموعة القيادية المركزية من أجل الأمن السيبراني وتكنولوجيا المعلومات بالحزب الشيوعي الصيني؛ وهي أعلى هيئة على مستوى الحزب مختصة بقضايا تكنولوجيا المعلومات، ومنوط بها تحقيق هدف أن تصبح بكين قوة سيبرانية عظمى.

ومنذ ذلك الحين برز مفهوم “القوة السيبرانية العظمى” كإطار رئيسي للإستراتيجية الصينية في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فيكاد لا يخلو أي خطاب للرئيس الصيني من التأكيد على أهمية أن تصبح بكين قوة سيبرانية عظمى.

ويرى الرئيس الصيني الحالي أن الثورة التكنولوجية العالمية هي فرصة إستراتيجية للصين للتعويض عن الضرر النسبي الذي لحق بها في الثورات الصناعية السابقة؛ ففي حين استثمر الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) فرصة الثورات الصناعية لتعظيم مكاسبهم التنموية، ترى القيادة الصينية أنه حان الوقت لكي تستغل الصين التحول نحو شبكات الجيل الخامس (5-G) لتنتقل بكين من دولة صناعية كبرى إلى دولة سيبرانية كبرى بحسب تعبير نائب وزير وزارة الصناعة والتكنولوجيا الصيني “تشين تشوكسيونغ”، في مقال نُشر عام 2019 في مجلة الاندماج العسكري-المدني في الفضاء الإلكتروني.

تناقض الخطاب

على الرغم من أن الخطاب الصيني الداخلي يتحدث بشكل صريح عن رغبة بكين في أن تصبح قوة سيبرانية عظمى، فإن التقرير يشير إلى غياب الحديث بشكل شبه تام عن هذا الموضوع في الخطابات والبيانات التي يوجهها المسؤولون الصينيون إلى الغرب؛ فلم يتم الحديث عن “القوة السيبرانية العظمى” سوى مرة واحدة خلال ست سنوات، وذلك في بيان للمتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية. بذلك، تبرز الورقة أن الصين تتعمد عدم الإفصاح أو الحديث عن طبيعة ومدى طموحاتها في مجال تكنولوجيا المعلومات عند التواصل مع الجماهير الأجنبية. ويتركز خطابها الخارجي على أهمية احترام قواعد الاقتصاد الحر.

التكنولوجيا الصينية

شدد الرئيس الصيني “شي جينغ بينغ” مرارا وتكرارا على أن العامل الرئيسي في بناء القوة العظمى السيبرانية للصين هو تعزيز الابتكار التكنولوجي المحلي؛ وهو ما سينعكس على تعزيز القدرة التكنولوجية الصينية التي تخلق اعتمادا دوليا عليها، دون أن تكون بكين معتمدة على التكنولوجيا الأجنبية بشكل كبير.

وقد أشار الرئيس الصيني، في خطابه عام 2016 حول إستراتيجية الصين للتفوق التكنولوجي، إلى أن الاعتماد الصيني على التكنولوجيا الغربية هو بمثابة “خطر خفي”؛ لأن التكنولوجيا هي شريان الحياة بالنسبة للصين.

وأضاف أنه طالما ظلت سلاسل التوريد المتعلقة بالصناعات التكنولوجية تتسم بهيمنة غربية، فإن تقدم الصين سيظل مهددا.

كما دعا الرئيس الصيني إلى ضرورة “استثمار الصين لمزيد من الموارد البشرية والمادية في البحث والتطوير التكنولوجي”، بالإضافة إلى جمع أفضل الكوادر لصياغة إستراتيجية تطوير التكنولوجيا والتقنيات التكنولوجية الرئيسية.

وشدد “شي جينغ بينغ” في الخطاب ذاته على أهمية صياغة خارطة طريق، وجدول زمني، وقائمة من المهام لإنجازها على المدى القريب والمتوسط والطويل.

الارتباط بالأمن القومي

أشار الرئيس الصيني “شي جينغ بينغ” إلى أن تحقيق التقدم التكنولوجي والأمن السيبراني هما جناحان رئيسيان للتنمية الصينية، وصرح عام 2014 بأنه “بدون تحقيق الأمن السيبراني والمعلوماتي لا يمكن الحديث عن تحقيق الأمن القومي الصيني”.

وتناول التقرير التخوفات التي أبداها العديد من الباحثين المقربين من النظام الصيني من وجود “ثغرة أمنية” في البنية التكنولوجية الصينية بسبب الاعتماد على الرقائق وأنظمة التشغيل الغربية، لذا يوصي الباحثون الصينيون بضرورة تطوير الصين لآليات وتقنيات للردع السيبراني، وإلا فإن جهود الصين للتطور التكنولوجي لن تؤتي ثمارها ولن تقوم بتعزيز وحماية أمنها القومي.

وأوردت المقالة أن هناك بنية رقمية عالمية جديدة في طور التشكل، وهو ما سوف يؤثر على ميزان القوى الدولي، حيث تسعى الصين إلى لعب دور أساسي في تطوير وتوجيه هذه البنية الرقمية الجديدة من خلال طريق الحرير الرقمي الذي تسعى الصين من خلاله إلى إعادة هيكلة نظام حوكمة الإنترنت العالمي.

وحال تمكن الصين من بناء شبكات الجيل الخامس من خلال اعتمادها على مكونات محلية بشكل كامل، فضلا عن تمكنها من وضع المعايير الدولية لعمل هذه الشبكات والتقنيات؛ فإن ذلك سيعني أنها قد أصبحت قوة سيبرانية عظمى مما يعني تعظيم قدرتها على الترويج لأفكار وقيم وخطاب معين؛ وهو ما قد يؤهلها إلى قيادة النظام الدولي المستقبلي، الذي سيعتمد بشكل أساسي على التقدم التكنولوجي.

hespress.com