يلاحظ عبد الله بوصوف، الخبير في العلوم الإنسانية، تشابه صك الاتهام بين الدكتاتور الشيلي أوغوستو بينوشي وزعيم المرتزقة إبراهيم غالي؛ فكلاهما “متهم بجرائم ضد الإنسانية والتعذيب والاختطاف، وكلاهما تواجد خارج النطاق الترابي لحمايته أثناء توجيه الاتهام، وكلاهما يحتمي بالظروف الإنسانية”.
من جهة أخرى، يرصد بوصوف تشابها آخر في عناصر صك الاتهام والتواجد فوق التراب الإسباني مع غياب عنصر “الظروف الإنسانية” في ملف الرئيس الصيني السابق “جِيانغ زيمين” وثلاثة من وزرائه مع ملف الجلاد “غالي”.
ولكي لا يتكرر التاريخ لا على شكل “مأساة” أو “مهزلة”، يطرح بوصوف في مقاله الجديد حلولا مفترضة لقضية “إبراهيم غالي”.
وهذا نص المقال:
لا يمكن تجاهل الإحراج الذي تعيشه الحكومة الإسبانية الناتج عن تورطها أو توريطها بالسماح للسفاح “غالي/بنبطوش” بالمرور الحدودي بهوية مزورة والاستشفاء في إحدى مستشفياتها؛ فقد وصلت تفاصيل الفضيحة إلى البرلمان الأوروبي وأصبحت حديث الإعلام العالمي وشبكات التواصل الاجتماعي. وهو الإحراج الذي بدا من خلال تصريحات ملتوية للخارجية الإسبانية التي رمت بكرة النار في ملعب القضاء.
كما لا يمكن تجاهل السقوط المدوي لحزب “بوديموس” في انتخابات يوم 4 ماي بجهة مدريد وإعلان زعيمه بابلو اغليسياس (حليف سانشيز في الحكومة) الانسحاب من المشهد السياسي بصفة عامة. لكن التاريخ لن يسجل عليه فقط هذا السقوط، بل أيضا الفضائح المالية وتمويلات إيران (حوالي 700 ألف يورو سنويا) وفنزويلا، مقابل تبني أطروحة جنرالات الجزائر وإعلانه نُصرة عقيدة الانفصال، سواء في كاطالونيا أو مع البوليساريو.
إلا أن تصريح الخارجية الإسبانية بأنه “إذا أراد القضاء مثول غالي، فسيمثل غالي أمام القضاء. ليس للحكومة الإسبانية أن تتدخل في استقلالية عمل القضاء”، جعلنا نستحضر سابقة قضائية شهيرة شبيهة بملفات المجرم “غالي”، ويتعلق الأمر بقضية الديكتاتور الشيلي “أوغوستو بينوشي”. بحيث قام القاضي الإسباني ذائع الصيت “بالتازار غارثون” بتوجيه تهم التعذيب وتأكيد مسؤولية بينوشي عن جرائم القتل والاختطاف والاختفاء القسري بين سنوات 1988 و1990.
لقد وجه القاضي الإسباني هذه التهم أثناء تواجد الجنرال بينوشي بالعاصمة البريطانية لندن للعلاج في أكتوبر من سنة 1998، وتقدم إلى القضاء البريطاني بطلب تسليمه إلى العدالة الإسبانية لمحاكمته على خلفية جرائم تعذيب كان ضحيتها مواطنون إسبان فُقِدُوا في الشيلي إبان حكم الجنرال الدكتاتور.
وشهدت فترة إقامته الاجبارية بأمر قضائي بلندن، التي امتدت لحوالي سنة ونصف، سجالات قانونية وقضائية ارتكزت حول ما يعرف “بمبدأ عالمية الاختصاص القضائي”. وأقرت السلطات البريطانية في مارس/أبريل 1999 بشرعية اتهامات القضاء الإسباني ضد بينوشي، لكن الأخير سيعود إلى بلده الشيلي في مارس 2000 “لأسباب إنسانية”، ناجيا بذلك من مطرقة القاضي الإسباني “بالتازار غارثون”.
من جهة أخرى، فإن قضية براهيم غالي في إسبانيا تجعلنا نستحضر واقعة قضائية أخرى بطلها القاضي الإسباني “إسماعيل مورينو” سنة 2014، الذي أمر باعتقال كل من الرئيس الصيني السابق “جِيانغ زيمين” والوزير السابق الصيني “لي بينغ” مع ثلاثة موظفين سامين، على خلفية اتهامهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي والإبادة الجماعية بإقليم التيبت في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، بعد أن رفعت دعوى ضدهم سنة 2006 من طرف جمعية غير حكومية ومواطن إسباني أصول من منطقة “التيبت”.
وخلف إصدار مذكرة توقيف المسؤولين الصينيين رد فعل قوي من بيكين التي صرحت بلغة فيها الكثير من التهديد بأن السلطات الإسبانية عليها ألّا تقوم بأعمال يمكن أن تسيئ إلى الصين والعلاقات الصينية الإسبانية، وهو ما يفيد تهديد حجم الاستثمارات الصينية والمعاملات المالية الكبيرة والمبادلات التجارية القوية بينهما.
وأمام هذا الوضع، اضطرت سلطات مدريد إلى السعي من أجل تقليم وتعديل “مبدأ عالمية الاختصاص القضائي” للقضاء الإسباني من خلال الإسراع بتصديق البرلمان على بنود الإصلاح القضائي، وبتغيير مضمون الفصل 23 من القانون التنظيمي رقم 6 لسنة 1985 المتعلق بالسلطة القضائية، وهو بالمناسبة الفصل نفسه الذي استند إليه القاضي “غارثون” في دعواه ضد الدكتاتور بينوشي سنة 1998.
هذا التعديل الذي صوت لصالحه في البرلمان الإسباني أيضا الحزب الاشتراكي المعارض، مكن الحكومة الإسبانية من الحد من الاختصاص القضائي للمحاكم الإسبانية وإيقاف مفعول مذكرة القاضي “إسماعيل مورينو”، وبالتالي إسقاط متابعة القادة الصينيين بتهم جرائم ضد الإنسانية.
وهكذا فتحت مساحة جديدة للسجال القانوني والقضائي والفقه القانوني والدستوري بخصوص الفصل 23 وما عرفه من تأويلات وتعديلات، سواء سنة 2009 أو سنة 2014، تحت الضغط الصيني، وعلاقة ذلك بالاتفاقيات الموقعة من طرف الدولة الإسبانية واختصاصات المحكمة الجنائية الدولية.
ما نلاحظه هنا من جهة أولى، هو تشابه صك الاتهام بين الدكتاتور الشيلي بينوشي والسفاح غالي، فكلاهما متهم بجرائم ضد الإنسانية والتعذيب والاختطاف، وكلاهما تواجد خارج النطاق الترابي لحمايته أثناء توجيه الاتهام، وكلاهما يحتمي “بالظروف الإنسانية”. كما نلاحظ من جهة ثانية، تشابه عناصر صك الاتهام والتواجد فوق التراب الإسباني مع غياب عنصر “الظروف الإنسانية” في ملف القادة الصينيين مع ملف الجلاد “غالي”.
والواضح من تصريح وزارة الخارجية الإسبانية أنها تجعل مصير زعيم المرتزقة بين يدي القضاء الإسباني، لكن قولها إنه “عندما تزول هذه الأسباب الإنسانية سيغادر بالطبع غالي إسبانيا”، يرمي بالقضية في دائرة الشك، وأن من سيُقرر مصير الانفصالي “الهارب” ليس بالأساس هو القضاء الإسباني، ولكن عوامل أخرى!
يفتح هذا التصريح الدبلوماسي الملتبس المجال أمام المزيد من التأويلات حول ماهية هذه “الأسباب الإنسانية البحت”، وأولوية هذه الأسباب الإنسانية والوضعية الصحية للمجرم أمام فظاعة جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والقتل والاختفاء القسري والتعذيب والاغتصاب وغيرها من التهم الثقيلة التي رفعها ضحايا إبراهيم غالي أمام القضاء الاسباني، بالإضافة إلى مدى استقلالية القرار القضائي أمام الصفقات السياسية في قضية أصبحت مادة إعلامية عالمية وملفا حقوقيا قويا يتم تداوله في إسبانيا ولدى مؤسسات حقوقية عالمية بجنيف وباريس ولندن وواشنطن وإقليمية كأديس أبابا، مقر الاتحاد الإفريقي وقبله منظمة الوحدة الإفريقية.
ونستحضر في الأخير قول المفكر والفيلسوف “كارل ماركس” إن التاريخ يُعاد مرتين؛ الأولى في شكل مأساة والثانية مهزلة. فإذا كانت المأساة يمكن التعبير عنها باستعمال الظروف الإنسانية في حالة الجنرال “بينوشي” كمطية للهروب من مساءلة القضاء الإسباني عن جرائم اختفاء مواطنين إسبان في الشيلي؛ فإن القضاء الاسباني نفسه مَعْنِي اليوم بعدم استعمال التبرير ذاته، أي “الظروف الإنسانية البحت”، لمساعدة المجرم “غالي” على الإفلات من العقاب، لأننا سنكون حينها أمام ما سماه كارل ماركس بالمهزلة.