لا يخفي قادة حزب المصباح المغربي علاقاتهم المتشعبة والمتينة بحزب العدالة والتنمية التركي، فهم يعملون كل ما في وسعهم ليكونوا في مستوى انتظارات العثمانيين الجدد. فعلاقة حزب العدالة والتنمية المغربي بحزب المصباح التركي تتجاوز العلاقات التقليدية التي تجمع عادة بين الأحزاب التي تنهل من نفس المرجعية الفكرية؛ فلتلك العلاقة أبعاد جيوستراتيجية وُظفَ للتأسيس لها كل من الدين والانتماء الحركي والتاريخ والحلم المشترك بإعادة أمجاد الخلافة الإسلامية التي ستوحد الأمة مجددا!
يقول المحلل الاستراتيجي جورج فريدمان: “تركيا قوة اقتصادية الآن، لكن دورها المستقبلي يتمحور حول نموذجها الثقافي، حيث ستتمكن من قيادة الدول الإسلامية في الشرق الأوسط كما فعلت الإمبراطورية العثمانية”. فمشروع قيادة الأمة الإسلامية في حاجة إلى حلفاء وتابعين لها داخل كل البلدان الإسلامية، ومن أجل ذلك تشتغل القوة الناعمة التركية على تكوين وتدريب الآلاف من الشباب من كل البلدان الإسلامية ليكونوا سندا لها في مجهود إعادة أمجاد الخلافة العثمانية.
مخطئ من يعتقد بأن أقصى ما يمكن أن يقوم به قادة حزب المصباح المغربي لصالح إخوانهم الأتراك لن يتجاوز الدفاع المستميت عن المصالح الاقتصادية التركية بالمغرب، كما حصل سنة 2020 حينما هاجم نوابه بالبرلمان كل من سولت له نفسه المساس باتفاقية التبادل الحر بين المغرب وتركيا أو مواجهة الاختراق الاقتصادي والثقافي التركي للمغرب. فلتركيا اليوم ذئابها الرمادية بالمغرب يتجاوز ولاؤهم لتركيا الأردوغانية ولاء الجيل الحالي من قيادات المصباح للعثمانيين الجدد؛ فهذه الذئاب وأغلبهم من أبناء قيادات حزب المصباح وشبيبته، استفادوا من منح سخية للدراسة في كبريات الجامعات التركية وتم تكوينهم على الاستعداد للتضحية في سبيل إعادة أمجاد الخلافة العثمانية.
فما حكاية الذئاب الرمادية التي تشغل بال السياسيين في الدول التي كانت تنتمي سابقا إلى المجال العثماني؟ لماذا تلاحقها العديد من وكالات الاستخبارات لفك خيوط أسرارها؟ وماذا عن الذئاب الرمادية التركية في المغرب؟
الرقص مع الذئاب
يعتبر الأستاذ “داوود أحمد أوغلو” المنظر والاستراتيجي الأكثر تأثيرا في حزب العدالة والتنمية التركي قبل أن ينسحب منه، بعد صراع مرير مع الزعيم المطلق للحزب الرئيس “طيب رجب أردوغان”. كما يعتبر صاحب نظرية العمق الاستراتيجي و”صفر مشاكل” التي شرحها بالتفصيل في كتاب له يحمل نفس العنوان. لذلك حينما تحدث لأول مرة عن المجال العثماني سنة 2010، غضب الكثير من القادة العرب، لأن الموضوع جدي وقد يحمل في ثناياه الكثير من المفاجآت الجيوستراتيجية، بما أنه صادر عن منظر من طينة “داوود أوغلو” ولما يشكله الأمر من تهديد لسيادة الكثير من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي كانت سابقا تحت حكم الإمبراطورية العثمانية.
المفاجآت الجيوستراتيجية التي أغضبت وأخافت الكثير من القادة العرب، بدأت تتضح معالمها الأولى بعد أن تحالف الرئيس أردوغان مع أقصى اليمين التركي الذي يتوفر على الملايين من المنخرطين يعرفون بالذئاب الرمادية وكلهم من غلاة المتعصبين المؤمنين بأحقية تركيا في استعادة كل مجالها العثماني. فقد أشار تقرير نشرته مجلة “إيكونوميست” البريطانية عام 2018، بعنوان “الرقص مع الذئاب” إلى أن القوميين خرجوا أقوى في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أُجريت في وقت واحد يوم 24 يونيو 2018. فازت مجموعتهم السياسية الرئيسية، بقيادة حزب الحركة القومية، بأكثر من 11% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية وهو ضعف ما توقعته معظم استطلاعات الرأي، وساعدوا أردوغان على حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى”.
ويعود ظهور الذئاب الرمادية إلى منظرها الفكري الكاتب “حسين نيهال أتسيز”، الذي بدأ في التنظير لهذه الحركة القومية عام 1944، موظفا أسطورة قديمة تحكي أن قبائل الأتراك حينما كانوا يعيشون في وسط آسيا تعرّضوا لهجوم عنيف أدى إلى إبادتهم جميعا إلا طفلا هرب إلى الغابة. تمكّن الطفل من العيش في تلك الغابة بفضل ذئبة وجدته جريحا فاعتنت به حتى كبر واستطاع أن يحافظ على العرق التركي. بحسب الأسطورة، أنجبت هذه الذئبة من هذا الولد 12 طفلا، أنصاف بشر وأنصاف ذئاب، فساهمت في الحفاظ على العرق التركي! القوميون الأتراك المتشددون يجتهدون ليكونوا ذئابا مثل ذئبة الأسطورة للحفاظ على عرقهم، ومن هنا اختاروا تسمية منظمتهم بـالذئاب الرمادية.
بعد تحالف رجب طيب أردوغان مع الذئاب الرمادية أصبحت أكثر قوة مما كانت عليه سابقا، فقد أصبح الرئيس أردوغان من أهم أعضائها ويشجع أنصاره في كل بلدان العالم على الالتحاق بالذئاب الرمادية من خلال توظيفه رمز الذئاب (وهو حركة بأصابع اليد تحيل إلى رأس الذئب) كلما سنحت له فرصة القيام بذلك. فالحكومة التركية توفر الغطاء السياسي لعمل الذئاب الرمادية في كل أنحاء العالم، في حين يواكبها جهاز الاستخبارات التركية (MIT) بالمعلومات والسند المالي والتأطيري.
ذئاب على الأبواب
بعد انضمام الرئيس رجب أردوغان إلى الذئاب الرمادية أو انضمامها إليه، حسب زاوية قراءتنا للمشهد التركي، أصبحت الذئاب قوة ضاربة تؤرق بال العديد من الحكومات التي تتواجد بها جالية تركية أو مسلمة تدين بالولاء للأردوغانية. فقد وجهت الحكومة الفرنسية أصابع الاتهام لمنظمة الذئاب الرمادية (Les loups gris) بممارسة العنف والإرهاب في حق المعارضين الأتراك والأقليات الأرمينية، واتخذت في شهر نونبر من سنة 2020 قرارا بحل حركة الذئاب الرمادية التركية في فرنسا وحظر كل أنشطتها.
غَضَبُ الحكومة التركية وتهديدها بالرد المناسب على قرار الحكومة الفرنسية، لم يمنع العديد من المجموعات النيابية الألمانية من رفع طلب إلى حكومتهم قصد حظر منظمة الذئاب الرمادية بسبب ممارستها للعنف والإرهاب. في آسيا أيضا تشتكي العديد من البلدان من أعمال حركة الذئاب التركية؛ ففي عام 2015 قامت الذئاب الرمادية بهجوم بالقنابل في بانكوك أسفر عن مقتل 19 شخصا وإصابة 123 آخرين، احتجاجا على قرار الحكومة التايلاندية بترحيل مجموعة من الأويغور التركمان إلى الصين بدلا من السماح لهم بالسفر إلى تركيا حيث كانوا سيحصلون على اللجوء.
في سوريا حيث اقتطعت تركيا لنفسها جزءا من التراب السوري كمنطقة عازلة كما تسميها، تنشط ميليشيات الذئاب الرمادية ويشارك أعضاؤها في الحرب الأهلية السورية بحجة حماية الأقلية التركمانية من الأكراد السوريين والروس. وقد ساهمت ظروف الحرب في الشام على تجنيد الذئاب الرمادية للعديد من السورين المقتنعين بمشروع إعادة أمجاد الخلافة العثمانية للقتال في ليبيا إلى جانب حكومة فايز السراج.
لم يتوقف الكثيرون عند تفصيل مهم في أحد خطابات رجب أردوغان بشأن الحرب الأهلية بليبيا، فقد قال بأن ليبيا هي من إرث الأتراك وأنها كانت جزءا مهما من الدولة العثمانية. قد لا يعرف البعض أن للأتراك علاقاتٍ قوية وقديمة مع ليبيا لا سيما في الغرب الليبي؛ فمنذ دخول العثمانيين إليها سنة 1551 بعد استنجاد سكانها بالسلطان سليمان القانوني لمساعدتهم على إخراج فرسان مالطا، تعزز الحضور التركي بها حتى أصبحت مدينة مصراتة الليبية تلقب بقلب العثمانيين النابض. فما يسميه أردوغان بالإرث التركي بليبيا ليس شيئا آخر سوى 100 ألف ليبي من “الكراغلة” حفدة العثمانيين، بينهم ما يكفي من الذئاب الرمادية لإعادة ليبيا إلى المجال العثماني.
ليست ليبيا البلد المغاربي الوحيد الذي بدأ يعود تدريجيا إلى المجال العثماني؛ في تونس لا تخفي غالبية التونسيين انبهارهم بتركيا، كما يدين لها أقوى أحزابها السياسية بالولاء. فقد لاحظ العديد من المهتمين بالشأن التونسي أن الدعم التركي لتونس يتوقف على النتائج الانتخابية لحركة النهضة الإسلامية، فحينما كانت تلك النتائج في مستوى تطلعات تركيا، كانت الاستثمارات التركية في تونس مهمة وبعد أفول نجم حركة النهضة تراجعت تلك الاستثمارات، فالأمر أشبه بالدعم مقابل حكم النهضة. أما عودة الجزائر إلى المجال العثماني فليست سوى مسألة وقت فقط، خصوصا في ظل الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعصف بالبلاد.
ذئاب رمادية بيننا
في تقرير حول التسويق السياسي عند حزبي العدالة والتنمية التركي والمغربي صادر عن مركز إدراك للدراسات والاستشارات، أشار الباحث زهير عطوف إلى أنه في ثمانينيات القرن الماضي كان أعضاء حزب العدالة والتنمية المغربي المنتمون آنذاك إلى تنظيمات إسلامية مختلفة، يراقبون عن كثب التجربة التركية ويحاولون الاقتداء بها لكونها سابقة في الانفتاح على المدخل السياسي عن أي تجربة مغربية، كانوا يقتبسون حينها من التجربة التركية الجانب التصوري والنظري والفكري فَقَّطْ.
تأكيد زهير عطوف على “فَقَّطْ” تلك تحوم حوله شكوك كثيرة، خصوصا وأن هذا الباحث المغربي المختص في التسويق السياسي بعد تخرجه من إحدى الجامعات التركية كان في قلب جدل كبير يهم دعما تركيا لحزب العدالة والتنمية المغربي ليفوز في الاستحقاقات الانتخابية سنة 2016. كما أن ذات الباحث يعمل رئيسا لأحد مراكز الدراسات بإسطنبول التركية، ويشتغل من حين لآخر في التسويق السياسي للتجربة الأردوغانية ومشاريعها.
منذ انفتاح تركيا على الطلبة المغاربة تخرج من جامعاتها بضعة آلاف من الشباب ينتمي أغلبهم إلى شبيبة حزب العدالة والتنمية ومنهم الكثير من أبناء قيادات الحزب. كما أن جمعية الطلبة المغاربة بتركيا (تأسست سنة 2012) كانت القناة التي بواسطتها يتم تأطير الطلبة المغاربة بتركيا من طرف قيادات من حزب العدالة والتنمية. كان المقرئ أبوزيد الإدريسي يؤطر الطلبة هناك بين الفينة والأخرى في مواضيع تهم تاريخ العلاقات المغربية التركية، والرّجُل من غلاة الذئاب الرمادية المدافعين عن المصالح التركية بالمغرب وفي إفريقيا (أنظر مقالا لنا بعنوان: لمصلحة من ينشر الإسلاميون الأضاليل والفتنة؟).
تَصْرفُ الحكومة التركية بسخاء على الطلبة المغاربة المنتمين إلى حزب المصباح، كما تخصص لهم مقاعد للدراسة في أفخم جامعاتها ومنها جامعة بهتشه شهير (Bahçeşehir üniversitesi)، كما يستفيدون من التكوين اللازم لأداء المهام المنوطة بهم كذئاب رمادية في خدمة العثمانيين الجدد. فأبناء وبنات العثماني والشوباني والحمداوي وبنخلدون وأبوزيد وبوانو وغيرهم من قيادات المصباح، كانوا جميعا هناك في تركيا واستفادوا من نفس الدعم والمنح والتكوين إياه!
على سبيل الختم
في لحظة احتفال على هامش المنتدى الخامس للتعاون العربي التركي، شهر دجنبر 2012، تابع المغاربة عبر وسائل الإعلام مشهدا مخجلا مس كرامتهم وكبرياءهم؛ تابعوا صورا للرئيس التركي بابتسامته الماكرة يُطْعمُ وزير خارجيتهم آنذاك الدكتور سعد الدين العثماني. أدان الكثير من المغاربة ما اعتبروه إساءة للمغرب ومؤسساته، في الوقت الذي خرج فيه الجيش الإلكتروني لحزب العدالة والتنمية المغربي للدفاع عن أردوغان وحقه في إطعام وزير خارجيتنا … وانتهت الحكاية.
بعد ثماني سنوات على ذلك المشهد المثير والمقزز سُلطَت الأضواء مجددا على ما حدث ذلك اليوم، بعد أن تابع المغاربة الشهر الماضي أطوار أزمة ديبلوماسية حادة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. الأزمة نتجت عن خطأ في البروتوكول ارتكبته الرئاسة التركية يوم استقبال أردوغان لمسؤولين كبيرين في الاتحاد الأوروبي، أزمة أرغمت الأتراك على تقديم التوضيحات اللازمة على ما بات يعرف بفضيحة الأريكة.
اكتشف المغاربة بعد ثماني سنوات على فضيحة إطعام وزير خارجيتهم من طرف أردوغان بأن للعثمانيين الجدد خدامهم الأوفياء بالمغرب، وسيصدمون عما قريب عندما يكتشفون بأن للأتراك أيضا ذئاب رمادية، تدافع بشراسة عن مصالحهم في بلد صمد أمام الإمبراطورية العثمانية في عز جبروتها وفي زمن سيطرت فيه على ما تَيَسرَ لها من الأقطار في أوروبا وآسيا وكل شمال إفريقيا ما عدا المغرب.