عبد الجبار السحيمي هرم صحافي، عاشق المستحيل الذي أسقطه مكر الممكن، فأضاع صواب أدبه في تصحيح خطأ الصحافة..هو الحكمة مثل سفينة تضيع في موانئ منسية لكنها تظل تشع مثل منارات قديمة.. تعلم بحكمة صوفي أن يقيم وحدة الأضداد.. في كتاباته وحدها، يشمر الضحك على ساعد الجد وتقوم الدموع على قدم وساق الفرح، بخط يده كان عاصفة.. كان عاطفة، مدرستنا الأولى في المزج بين الفكاهة الساخرة والاستعارات التي تقول ما فينا من وجع وحلم، بدا ممتلئا بصليل الحروب وأنين الناي..
كان عبد الجبار السحيمي صحافيا في الأدب، وأديبا في الصحافة..لذلك استطاع بعشق صوفي أن يجعل المسافة جد قريبة بين الممكن والمستحيل، كان فناناً حيا في الكتابة ومبدعاً في الحياة.. ظل يحمل في شغاف قلبه حباً رومانسياً قاهراً ما أفنته نوازل الدنيا ومشاغل العمل، في مكتبه بجريدة “العلم”، أم الجرائد التي أصبحت اسما علما للصحيفة في المغرب، حصل معظم صحافيي جيلي على بصمة الجودة من خلال تشجيع ومعاضدة السحيمي… ومثلما كان هاوياً للصيد إلى جانب كرة التنس، ظل يقتنص اليراعات التي تعبر أمامه بعين بارعة، يحرص على رعايتها بحنو العشاق. ومن لم يمر من “العلم” أو لم يقرأ عموده “بخط اليد” أو همزات “عزيز”.. كأنه ما تعلم فن الصحافة على عهدنا!..
بحيرة من نجوم متعانقة تدندن بقربها البلابل كان.. من معطفه ولدت الكثير من الأقلام الرصينة، ومن “الممكن من المستحيل” جاءت انفلاتات قصصية عديدة محملة بخصوصية مغربية تقول أسئلة زمنها دون أن توصد الباب على الحلم القادم خارج التبشيرية الساذجة التي ابتلعت الكثيرين، وما بدل تبديلا.. هو الاستقلالي بلا بطاقة كما كتب يوما، الصامت الهادئ مثل جبل، لا تحسبوه من الموتى..سيظل بيننا قامة هيفاء مثل نخلة نفيء إليها من صهد اليومي والعابر..فما مات من لم يخلف وعده مع عشق مهنة نبيلة بتواضع نادر لذلك
رفعته إلى سماء الكبار.
تعرفت على الراحل عبد الجبار السحيمي في ردهات جريدة “العلم” حين كان مقرها بشارع علال بن عبد الله، لم أكن أتجرأ على النظر في عينيه.. قصيرا، خفيفا، رشيقا يمر بجانبي مثل نسمة هواء، كان مهاب الجانب، الكل يناديه “السي عبد الجبار” فيما كان يبدو “الممكن من المستحيل” يسير على قدمين بلا خوف من “الفاركونيط”، كنت يومها أداوم على قسم أرشيف جريدة “العلم” أُجري بحثا عن تاريخ الشبيبة المدرسية نهاية عام 1992.. ذات يوم لمحت شابا يدخن بشراهة ويبدو قلقا بحيث لا يتسع له مقعد المكتب الذي كان قبالتي، يكتب على قصاصة مما يتبقى من ورق الجرائد بيد ويمزق بالأخرى ما خطه، ليدخن سيجارة بين العمليتين، ولا أدري كيف استرعى انتباهي، فلم أرفع عيني عنه.. بفضول تقدمت نحوه مدعيا أني أريد أن يشعل سيجارتي، وسألته عن المشكل، أعرف حين تخاصمك الفكرة ابنة الكلب، فقدم لي نص مقال كان يتعلق بتغطية حدث اجتماعي لا أتذكره في إحدى المدن، أخذت من بين يديه الورقة التي كانت كلها خطوطا حمراء، هو ذا إذن عبد الجبار السحيمي بخط يده، خططت المقال وفق ما فهمت، ورأيت أسارير الصحافي تنفرج رويدا.. وعدت إلى ما كنت أخوض فيه.
لكن الحدث لم ينته هنا، إذ وجدت الصحافي يطلب مني الحضور لمقابلة عبد الجبار السحيمي، ارتفعت نبضات قلبي: “يا إلهي ماذا حدث؟ أي مصيبة وضعت نفسي فيها حتى يطلبني “السي عبد الجبار” بلحمه وشحمه؟”، لم تدر بخلدي إلا حوادث النقل في المدرسة، حين تحب أن تنقذ تلميذا لتصبح مذنبا يتلقى العقاب..وأثناء نزولنا من طابق الأرشيف، شرح لي الصحافي أن السحيمي عرف أن الأمر لا يتعلق بأسلوبه، وأن هناك من تولى ذلك بدلا منه، ولم يكذب الصحافي، يا سلام على نزاهة أيام زمان.. سأتذكر هذه الحادثة أكثر من مرة، في وقت متأخر، حين كنت أجد صحافيا قد سلخ مقالا بشكل حرفي لكاتب آخر، وحين أواجهه بالحقيقة، يخرج عينيه فيّ ويقول إن الأمر مجرد توارد خواطر، حتى ولو كان الأمر يتعلق بالنقطة والفاصلة والأخطاء اللغوية ذاتها.. لأجد نفسي في حضرة عبد الجبار السحيمي، ورغم أني حاولت التبرير بأن كل شيء هو للصحافي وبأنني ساعدته فقط في التقديم… ابتسم بشكل ماكر، وطلب من الصحافي الانصراف، بعد أن أشّر بالموافقة على طبع المقال ونشره، استقبلني بتواضع الكبار، ظللت واقفا أقرأ ملامح وجهه وهو يطالعني.. كنت مرتجفا، مرتبكا مثل فتاة تقدم إليها شاب لخطبتها، قبل أن ينتبه إلى وقوفي ويطلب مني الجلوس.. من يومها كنت أحمل نصوصي وأقصد السحيمي الذي كانت الكلمات تخرج من شفتيه واضحة ودودة، ملاحظاته الموجعة كان يحرص على أن تصل إلى مستمعه بلا أشواك مؤلمة، مثل حكيم صيني يداوي مرضاه بوخز الإبر.
وكانت بداية علاقة متينة، ظلت بالنسبة لي مصدر اعتزاز..تراكمت بيننا اللقاءات وبعدها المراسلات الخاصة، كان يحرص حتى قبل أن يغالبه المرض على كتابة ملاحظاته عتاباً أو تنويها وإرسالها عبر فاكس جريدة “العلم”، مثل شذرات أو حلم كانت تأتيني مراسلاته، وفي أحايين كثيرة كان هناك ثلاثة قراء مفترضين صرت أكتب من أجلهم وفي مقدمتهم السحيمي ومحمد سبيلا..
فقدنا في عبد الجبار السحيمي أديباً كبيراً، ابتلعته الصحافة ابنة الكلب، كما ضيعتنا في مهاو سحيقة، ومات وفي نفسه شيء من تبدلات الزمان، كان يعي كما قال ذات يوم في مؤتمر عام لحزب الاستقلال أن “حمارنا عرج”، وأن السير إلى أبعد مدى في الحلم لم يعد ممكنا، لكنه لم يهجر أبداً إعجابه بالنبيل والممتع والحالم.. قبل أن يقتحم البوليس مقر “الأسبوعية الجديدة” بديور الجامع بالرباط في يونيو 2005، وجدته في مكتبي، وأنا ألتمس منه الجلوس، استعدت لحظة اللقاء الأول مع السحيمي، وأنا في مكتبه، قال لي: “أقدر جرأتك.. لكننا لم نصل بعد إلى ما تحلم به، ويجب ألا تعصف بما بنيناه..أقدر مهنيتك وحماستك لكني أخاف عليك، لست متفقا معك وسأكتب ما أعبر لك عنه الآن”، وخرج غاضباً.. قدَّرت نبله وتقبلت انتقاداته الحكيمة في مقاله الجميل حول “جمهورية الموز” في جريدة “العلم”، واستمر حبل الود بيننا، حتى وهو يستفيق من غيبوبته يصر على مراسلتي مرة في الشهر على الأقل.
هذا نموذج للمراسلة بيني وبين الراحل عبد الجبار السحيمي، فقد كتب إلي يوما: “لا أدري من أي معجم تستقي كلماتك المرحة وهذه التعابير التي ترشح بحيوية نادرة، حتى وهي ترصد أحزاننا وسقطاتنا تحافظ على رشاقتها وحبورها الأدبي، ظللت أداوم على تتبع كتاباتك كحبات الدواء اللازم لتوازني الوجودي، وها أنا أصبحت مدمنا على كلماتك الأنيقة.. لو تدرك إلى أي حد أصبحت دائي الضروري للاستمرار في التفاؤل”. رسالة مؤرخة ب5 مارس 2002.. ثم كتب يقول في أخرى بتاريخ 28 يونيو 2006: “خرجت من سرير الغيبوبة على كلماتك المؤثرة، أرجو أن أكون قادرا على ترميم الروح والجسد والعقل مستأنسا بتفاؤلك الصعب في كل الأيام الصعبة.. لك صادق التقدير ودائم المودة”.
ومن نماذج رسائلي إليه ما كتبته ردا على رسالة مؤثرة له: “رسالة ودية إلى العزيز عبد الجبار السحيمي صحفيا مبدعاً وإنساناً حميما: تفاؤلي بضعة منك.
وصلتني رسالتك، وأدركت إلى أي حد تحافظ الروح على وهجها ودفئها وهي تترجل في أحذية اللغة، فإذا كانت النفوس كباراً تعبت في حمل مرادها أجسام الحروف، وأصوات الكلمات… لقد تعلمت منك أن صدق الكتابة هو أقرب طريق إلى الحقيقة، حين تكون تجسيداً للمشترك الإنساني فينا، فمن بذرة “بخط اليد” نبتت سنابل تفاؤلي “الصعب”، سنابل خضراء تنفعني في سنوات السنابل اليابسات!..
ثق أن تفاؤلنا لن يموت، تتذكر جان كوكتو عندما كتب سيناريو فيلم يتصور فيه موته المسبق، لقد توجه إلى أصدقائه وضمنهم الساحر بيكاسو الذي وقف يبكي موت صديقه بدمع حارق، فقال لهم كوكتو: “لا تبكوا هكذا، تظاهروا فقط بالبكاء، فالشعراء لا يموتون، إنهم يتظاهرون بالموت فقط! وماذا يكون الشعر غير التفاؤل الإنساني فينا”.
لقد قرأت مقالك حول الكتابة والإبداع وفاجعة الموت بالمغرب، وكيف يتساقط فنانونا في غفلة منا كأوراق الخريف، يعانقون بؤسهم أمام صمت جنائزي للأحياء، وكيف يغيب هؤلاء دون وضع اعتباري، كأننا نرثي أنفسنا فيهم وتذكرت كلام أدونيس: “مازال الموت المكان الأكثر صداقة للمبدع العربي”! صدقني إنهم يتظاهرون بالموت فقط، ونحن من نحس بانهيار أشياء عديدة فينا، إذ لا يخشى الموت سوى الموتى، حقيقة ومجازا! أشعر أحيانا بأننا نقتلهم لنتزاحم على موائد تكريمهم، أو لننشد في مواكبهم مرثية تليق بطقوس جنائزهم. ألم يقل صلاح عبد الصبور في “مأساة الحلاج”: “أحببنا كلماته أكثر مما أحببناه، فتركناه يموت لكي تبقى كلماته”.
رغم بساطة ما أكتب، أحس أحيانا بلا جدوى الكتابة، وأبحث دوماً عن كلمات سوداء مثل الفحم تكون قادرة على رسم كل السواد المحيط بنا، كلمات تحضن الجمر وتستطيع أن تترك في وجه كل من يقرؤها حرقة الألم.. لقد تعلمت أن الكتابة مسؤولية وعذاب رحيم، لذلك حين أقرأ كلماتك أحس بنفس الوجع الذي أحسست به وأنت تلتقط الأصوات الملائمة لاشتعال الروح.. وحتى في الزوايا الملتبسة للأسماء المستعارة لعمود “بخط اليد” والمنتشرة على صفحات “العلم” كنت أميز الممكن من المستحيل، الضروري للاستهلاك اليومي، من المكتوب المقتنص بعناية فائقة، لذلك ثق أيها العزيز أن تفاؤلي هو بضعة منك، فاستأنس وأنت الخارج من سرير الغيبوبة على تفاؤلي الصعب، تفاؤلك حقيقة لا مجازاً!