ظهرت الأحزاب السياسية مع ظهور الدولة الحديثة، كتنظيمات تقوم بأدوار مفصلية داخل دولة المؤسسات. وإن كانت تعريفات مفهوم “الحزب السياسي” متعددة ومتشعبة، فإنها تلتقي جميعها في أن الأمر يتعلق بتنظيم يتشكل من عدد من الأفراد الذين يتبنون تصورا سياسيا منسجما أو متقاربا حول عدد من القضايا، يعمل هذا التنظيم على نشر أفكاره ونسج مشروع مجتمعي وبرنامج يتعاقد به مع الناخبين في أفق الوصول إلى مراكز اتخاذ القرار، لتنفيذ معالمه لوحده، أو من خلال المساهمة في ذلك مع مؤسسات وقوى سياسية أخرى، ووصوله إلى مراكز اتخاذ القرار يتم أساسا عبر العملية الانتخابية.

لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بدون وجود أحزاب سياسية، وكلما كانت هناك أحزاب قوية وقادرة على القيام بجميع أدوارها، بدءا بالتأطير وصولا إلى تطبيق برامجها والوفاء بتعاقدها الاجتماعي مع الناخبين، كلما تحدثنا عن الدولة الديمقراطية ودولة المؤسسات، وكلما ضعفت الأحزاب ضعفت الديمقراطية أو صارت صورية.

لا شك في أن الحياة الحزبية بالمغرب عرفت أزمة بنيوية جعلت من الكثير من الأحزاب مجرد تنظيمات شكلية وأدوات للوصول إلى المناصب وتوزيع الغنائم، بعدما انحازت عن أدوارها وأهدافها الحقيقية؛ فمنذ استقلال المغرب ضاعت مجهودات بناء دولة ديمقراطية عصرية بأحزاب حقيقية، بين الصراع حول السلطة، وخلق أحزاب “الكوكوت مينيت” لتحقيق توازن مصطنع مع معارضة كان سعيها الأول الاستيلاء على السلطة أو توجيه الدولة لخدمة مصالح الحزب الواحد، إلى ظهور تنظيمات تركب على الدين وتستغله للوصول إلى المناصب واختراق المؤسسات حاملة لمرجعية مستوردة، وصولا إلى تنظيمات “الكوبيي كولي” الصغيرة التي تشبه دكاكين صغرى بممارسات أسوء من نظيرتها التي تسمى “أحزابا كبرى”.

إن التحليل الموضوعي الساعي إلى التشخيص الواقعي الذي يتيح لنا اقتراح بدائل للخروج من الأزمة يفرض علينا تقبل حقيقة لا يمكن أن نتجاهلها، مفادها أن الحياة السياسية بالمغرب تفتقر إلى مقومات متنوعة ومتعددة؛ مما يجعلنا أمام مشهد سياسي مرتبك ومختل يصير فيه وجود الأحزاب كمثل غيابها.

غياب الديمقراطية الداخلية

إن كانت الديمقراطية غائبة عن الفضاء التي تسيره، فلا حق لك في المطالبة بها في فضاءات أخرى، فكيف نتقبل من أحزاب تغيب فيها الديمقراطية الداخلية أن تتدافع وتناضل لتنفيذ سياسات ترسخ الديمقراطية وتوسع هوامشها؟، كيف سيثق المواطن في إمكانية مساهمتها في تحقيق التغيير الديمقراطي والاستجابة لتطلعاته؟، لا تخفى على الجميع عدد من مظاهر دحر الديمقراطية داخل الأحزاب، انطلاقا من غياب الشفافية وتكافؤ الفرص، وتغييب التيارات واختلاف الآراء، وتصفية كل الأصوات المعارضة للزعيم وتعبيد الطريق أمام بقائه كيفما كان الثمن، وصولا إلى الزبونية والمحسوبية والقرب العائلي وغلبة الولاءات والمصالح…

من جهة أخرى، ففقدان المواطن للثقة في الأحزاب نابع كذلك من ممارستها السياسية وسلوك قياداتها وأعضائها الذين تحول الكثير منهم إلى أوليغارشيات سياسية تساهم في إطالة أمد الفساد وترسيخه عوض محاربته، أحزاب تستفيد من المال العام ومن دعم الدولة دون أن يظهر أثر لذلك على أداء الكثير منها، وقيادات تورث المناصب وتبيع التزكيات وتشغل أناسها المطيعين بالتلفونات، وتستفيد من العقارات بأثمنة زهيدة، وتتهرب من الضرائب وتراكم الأموال في بنوك خارجية.

بسبب هذا الوضع ولأسباب أخرى، أصبحنا أمام أحزاب بعيدة عن المواطن وهمومه، الذي صار غير مهتم بها ولا يثق في وعودها ولا يحضر أنشطتها؛ فوفق دراسة قام بها المعهد الديمقراطي الوطني (NDI) بعد انتخابات 2011، فإن أغلبية الشباب المغربي غير راضية على أداء الأحزاب السياسية، بل إن معرفتهم بمرجعياتها وإيديولوجياتها سطحية، ومعرفتهم بالانتخابات والمنتخبين ضئيلة جدا.

البلقنة الحزبية، اضمحلال التمايز المرجعي، وموت اليسار..

إن كثرة التنظيمات السياسية أو ما يسميه البعض بـ”البلقنة الحزبية” ليست سببا فقط للأزمة البنيوية التي يعيشها المشهد السياسي، بل هي في الآن نفسه نتيجة للأزمة نفسها، أحزاب يصعب التمييز بين توجهاتها وبرامجها التي صارت متشابهة، لا يتم تطبيق معظم مضامينها ولا يتم تحيينها لتواكب التطورات والمستجدات.

إن جزءا من الأزمة التي تتخبط فيها معظم الأحزاب التي تأسست منذ الاستقلال، باستثناء الأحزاب التاريخية، يرتبط بسياقات تأسيسها، حيث يتعلق الأمر إما بأحزاب وظيفية صنعت للعب دور التوازن وإيقاف زحف المعارضة في مراحل معينة، أو أحزاب منشقة تعبر بالملموس عن أزمة الديمقراطية الداخلية في الأحزاب التاريخية نفسها التي لم تستطع تدبير تنوع الأفكار والتيارات داخلها، بسبب نخب حزبية شخصنت هذه التنظيمات ووجهتها لخدمة أهداف أخرى غير تلك التي من المفترض أن يتأسس الحزب من أجلها، دون الحديث عن نخب أخرى أسست تنظيمات جديدة بسبب عدم تمكنها من فرض نفسها أو مواقفها أو بعد فشلها في الوصول إلى القيادة والحصول على جزء من المنافع، مع أن هناك من انشق فعلا بسبب وجيه يتعلق بانحياز الحزب الأم عن المرجعية والمبادئ أو بفعل غياب الديمقراطية الداخلية، وصولا إلى أحزاب “الكريما” التي صارت تنظيمات أشبه بدكاكين صغرى لا يعرفها أحد، وهناك من يطلع على أسمائها وشعاراتها الاعتباطية في كل موعد انتخابي.

ولأن أغلبنا مهتم بشؤون الأحزاب الكبرى التي ننتقد ممارستها وسلوك أعضائها، فإن الكثير من الأحزاب الصغرى أسوء من حيث أدائها وممارستها السياسية؛ إننا أمام تنظيمات استبدادية يتحكم فيها زعيم أو جماعة من الأشخاص، بدون برامج حقيقية، تعيش غيابا تاما للديمقراطية الداخلية، ولا تقوم بأي مجهود لتحقيق التموقع في الساحة السياسية، يتذرع من يسيرها بضآلة الدعم المقدم لها بالمقارنة مع أحزاب كبرى بميزانيات ضخمة، إلا أن هذا التبرير يجد ما يهدمه في أحزاب بنفس الميزانيات تحضر في الساحة بخطابها ومواقفها أكثر حتى من بعض الأحزاب الكبرى، مثل فيدرالية اليسار الديمقراطي، وإن كان هذا التنظيم مثله مثل الأحزاب اليسارية الأخرى يعاني من مشاكل مركبة.

أزمة هذا اليسار تتوزع بين أحزاب صغرى كالتي ذكرناها، تعاني مما يمكن تسميته بـ”الكساح السياسي”، أفكار كبيرة وقواعد هزيلة، وربما يكون خطابها النخبوي والطوباوي أحيانا وارتباطها بقضايا مشرقية جزءا من أمراضها، بالإضافة إلى تضررها من “علمانيتها المعلنة” التي تفهمها الأغلبية بشكل سطحي يرتبط بمعاداة الدين والانتصار لما يسميه البعض بـ”الانحلال الأخلاقي”، ومحاولتها الدفع بمرشحين مناضلين أمام أعيان بميزانيات كثيرة تدعمهم الأمية والفقر أحيانا، مما يجعل تمثيليتها شبه منعدمة.

أما أحزاب اليسار التاريخية كالاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، فقد انتبهت إلى أن المثقفين والمناضلين غير قادرين على مواجهة الأعيان وأصحاب “الشكارة”، فانخرطت هي الأخرى في استمالة الفئة نفسها للحفاظ على نزر قليل من المقاعد والمناصب التي صارت هدفا ذا أولوية لقادتها.

دون أن ننسى أن الكثير من الأحزاب المغربية، بما فيها قوى اليسار، تبنت مرجعيات وأفكارا وإيديولوجيات مستوردة بعيدة عن الخصوصيات السوسيوثقافية للمغاربة، متخلية عن تطلعات وأهداف واهتمامات وثقافة الشعب الذي تريد تمثيله، وهنا نتحدث عن التحليل غير الملموس للواقع غير الملموس، عوض بناء مرجعياتها على خصوصياتنا الوطنية أي على “تمغربيت”.

انتصار المقاربة الانتخابية، غياب التأطير، وأزمة الكفاءات…

من الأدوار الأساسية التي يفترض أن تضطلع بها المؤسسات الحزبية تأطير المواطنين عن طريق تنظيمهم وتكوينهم وإشراكهم في تدبير شؤونهم والدفاع عن قضاياهم وقضايا وطنهم، وتوعيتهم سياسيا وتمكينهم من آليات إدراك حقوقهم وواجباتهم، وإعدادهم للمشاركة في اتخاذ القرارات التي تهمهم.

وينص الفصل السابع من دستور 2011 على أن الأحزاب “تعمل على تأطير وتمثيل المواطنات والمواطنين وتكوينهم سياسيا وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين والمشاركة في ممارسة السلطة على أساس التعددية والتناوب بالوسائل الديمقراطية وفي نطاق المؤسسات الدستورية”. إن الأمر يتعلق هنا أيضا بتحريك المواطنين وتعبئتهم للمشاركة في القرارات السياسية، وتحويل آرائهم وتصوراتهم وتطلعاتهم إلى خيارات سياسية واقعية، بهذه الطريقة يمكنها إدماج المواطن داخل مؤسسات الدولة وجعله يلمس ذاته في مشاريعها وبرامجها.

وحتى تتمكن الأحزاب بالاضطلاع بهذا الدور، فعليها أولا التوفر على نخبة مثقفة ترسم البرنامج المجتمعي الذي يقترحه الحزب من داخل مرجعيته وتوجهه، وهي نخبة تنتج الأفكار السياسية وتجسدها في برامج ومخططات واضحة لتأطير وتكوين المنخرطين والمتعاطفين وعموم المواطنين باستمرار، من خلال ورشات تكوينية وندوات ومهرجانات خطابية وحملات تواصلية وتدخلات إعلامية وغيرها…،

وهنا يفترض أن تتوفر المؤسسة الحزبية على خبراء في مختلف المجالات، حتى لا نكون أمام أحزاب شعبوية تدغدغ العواطف وتقدم اقتراحات وبدائل غير واقعية موجهة للاستهلاك من أجل التعبئة للانتخابات فقط.. أتحدث عن نخب متعددة المشارب تساهم في التنوير وخلق النقاش الوطني، وبلورة أفكار سياسية جديدة ومتجددة تواكب وتتأقلم مع كل المستجدات والتطورات على جميع المستويات، نخب تبني عقل الحزب ليشكل قوة اقتراحية لا قوة انتخابية.

إذا كانت أحزاب المعارضة بعيد الاستقلال تتوفر على خبراء من مختلف الفئات والمجالات، وهو الأمر الذي ساعد بالإضافة إلى أمور أخرى في بناء شعبيتها ذات زمن، فإن أحزابنا اليوم تفتقر إلى كفاءات تؤمن بفكرة الحزب وتنتج الأفكار والاقتراحات وتساهم في إصلاح الأخطاء والاختلالات، وتساهم في تأطير المواطنين وإدماجهم في الحياة السياسية بشكلها المؤسساتي؛ بل إن بعض الأحزاب لا تنسج حتى برامجها السياسية سوى عبر التعاقد مع مكاتب الدراسات والخبرات، عوض النزول إلى المداشر والأحياء والصحاري والواحات والجبال للاطلاع على الواقع المعاش وتقييم السياسات التنموية وبناء البدائل، مع إدماج آراء واقتراحات الساكنة في أي إستراتيجية تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة.

لقد تحولت فعلا الأحزاب من قوى اقتراحية إلى قوى انتخابية، حيث لا يخفى على الجميع غياب الكثير منها عن الساحة طوال الشهور والسنوات، ولا يخرج قادتها من الجحور سوى مع كل موعد انتخابي، لقيادة معارك ومناوشات داخلية لفرض هيمنة الزعيم ومن يحوم حوله، وانفرادها بتوزيع التزكيات والاقتراح لتولي المناصب بناء على معايير يعرفها الجميع، بالإضافة إلى صراعات بين-حزبية تسيء إلى التدافع السياسي بين مختلف مكونات الحقل السياسي للفوز بالانتخابات..

وهنا يسهل علينا التمييز بين مؤسسات حزبية هدفها الوصول إلى مراكز اتخاذ القرار لتنفيذ برامجها وتعهداتها، وأخرى أقرب إلى مقاولات تستعمل جميع الوسائل للوصول إلى المال العام والمناصب بناء على الولاءات.

لذلك كله فليس غريبا أن نجد تشابها كبيرا يصل حد التطابق بين برامج الكثير من الأحزاب التي يصعب على نخبة المجتمع تحديد توجهها ومرجعيتها، فما بالك بالإنسان العادي؛ فقد بات من البديهي أن نسجل غيابا للتمايزات الإيديولوجية حتى لدى الأحزاب التاريخية التي صارت تتحالف مع أحزاب يمينية كانت تصفها بـ”أحزاب الكوكوت مينيت” أو “الأحزاب الإدارية” وبعضها بـ”الأحزاب الرجعية والظلامية” في وقت ما، دون مركب نقص، في الحكومات ومجالس الجهات والجماعات، مغلبة مصالح لا علاقة لها بالخط الإيديولوجي والمرجعية وبمضمون التعاقد الاجتماعي الذي وصلت بموجبه إلى مختلف مراكز اتخاذ القرار، فصار المواطن غير قادر على التمييز بينها، ويجعل ثقته فيها تتآكل سنة بعد سنة..

وهنا يكفي أن نشير إلى بعض القفشات والعبارات التي انتشرت على نطاق واسع واصفة الوضع الذي تعيشه الأحزاب، من قبيل “كاع ولاد عبد الواحد واحد” “ليس في القنافذ أملس” “أحزاب الكوبيي كولي”…

وهنا لابد من الإشارة إلى عوامل أخرى خارج بنية الأحزاب، ساهمت كثيرا في إضعافها وجعلها غير قادرة على لعب أدوارها؛ لكن النتيجة قد تكون معاكسة، لأن انهيار هذه التنظيمات سيؤدي إلى إضعاف الديمقراطية، وسيجعلها غير قادرة على لعب بعض الأدوار المصيرية التي تساهم في استقرار الوطن، بما فيها دور الوساطة في الأزمات والاحتقانات.

انعدام الثقة يعدم دور الوساطة…

بالإضافة إلى غياب الديمقراطية الداخلية، وعدم أدائها لأدوارها الأساسية وعلى رأسها التأطير، فإن هناك دورا آخر فشلت الأحزاب المغربية في القيام به أو على الأقل في المساهمة في ذلك ولو بنزر قليل، يتعلق الأمر بالوساطة كآلية يمكنها أن تساهم في تجنب الأزمات الاجتماعية والعنف، والتدبير المؤسساتي والتفاوضي لعدد من الاحتجاجات والمسيرات.. إنها أسلوب لإدارة الجدل والاحتقان الاجتماعي، فالمواطن في حاجة إلى أحزاب يمكنها لعب دور الوساطة، أحزاب تحمل مطالبه لتنفذها عبر المؤسسات التمثيلية أو غير التمثيلية التي تسيرها أو تساهم في تدبيرها، عوض تركه وجها لوجه في صدام مع مؤسسات الدولة، مما يؤدي أحيانا إلى تهديد الاستقرار.

وليس غريبا أن تفشل الأحزاب وتتقاعس عن لعب دور الوساطة والتهدئة خلال الكثير من الأحداث الاجتماعية والحراكات منذ 2011.. والاحتجاجات الكبرى التي شهدها المغرب منذ ذلك الوقت هي تعبير عن خيبة أمل المواطنين تجاه التدبير غير الناجع للشأن العام محليا وجهويا ووطنيا. وتتحمل الأحزاب هنا حصة الأسد من المسؤولية، خاصة أن المطالب تتعلق غالبا بالشغل ورفع العزلة وتأهيل البنيات التحتية، التي بإمكان المجالس الجماعية والإقليمية والجهوية ومؤسستي البرلمان والحكومة الاستجابة لأغلبها.

ولذلك، فمن الطبيعي أن يرفض المحتجون في الكثير من المرات عروضا من عدد من الأحزاب التي تسعى إلى لعب دور الوساطة من أجل حل المشاكل العالقة؛ لأنها بالنسبة إليهم جزء من المشكل وليست جزءا من الحل، ولأن الأمور ما كانت لتصل بهم إلى اللجوء إلى الاحتجاج لو وفت الأحزاب بوعودها التي تقدمها خلال كل انتخابات، ولأي منكم أن يطلع مثلا على البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية لسنة2011 أو 2016، وسيخرج بنتيجة حتمية، أنه لو طبقت 50 في المائة فقط من ذلك البرنامج لما احتاج أحد اللجوء إلى الاحتجاج.

العمل “السياسي-الخيري” والمال الانتخابي، كوسيلتين للحسم

إن غياب خطاب سياسي واضح وتأطير فعال للمواطنين، ورداءة السلوك السياسي، وعدم الوفاء بالوعود والتعاقدات الاجتماعية، إلى جانب انتشار الأمية والهشاشة بشكل واسع، عوامل من بين أخرى تؤدي إلى ترسيخ ممارسات نتنة تتجسد من جهة في العمل الخيري المغلف بالسياسة، ودغدغة مشاعر المواطنين باستغلال الدين الذي من المفترض أنه “مقدس مشترك” لا حق لأحد في احتكاره، خصوصا مع وجود مؤسسة إمارة المؤمنين التي تضمن وحدة العقيدة والمذهب وتحمي الأمن الروحي للمغاربة، وتساهم في محاربة الأفكار التخريبية والإرهاب.

ومن جهة أخرى في استعمال المال الفاسد لحسم الخريطة الانتخابية، من خلال تجييش عدد من الأعيان والإقطاعيين ورجال الأعمال، الذين يسعى أغلبهم إلى الوصول إلى الكراسي الرتيبة، لحماية مصالحهم وربما لتسهيل مراكمة المزيد من الأموال، ضاربة عرض الحائط للممارسات السياسية القويمة ومعرقلة لأي محاولة لانبثاق أحزاب حقيقية تمثل فعليا المواطنين من خلال تدافع شريف مؤسس على برامج واقعية وقابلة للتطبيق، أحزاب بمرجعيات واضحة وتتوفر على كفاءات عالية وترسخ سلوكا مستقيما.

إن مهاجمة حزب بنى قاعدته على العمل الخيري والدعوي من خلال أجنحته الصامتة، واتهامه لأحزاب أخرى بعدم الالتزام بقواعد المنافسة الشريفة، غير موضوعي؛ لأن الفرق يوجد فقط بين من يستثمر الأموال بأشكال مبتكرة باستمرار تحت يافطة “العمل الخيري” وبين من يوزعها بشكل مباشر قبيل كل موعد انتخابي.

وهنا لا بد أن نشير إلى أننا لا نعمم؛ فهناك الكثير من المواطنين يصوتون لاعتبارات أخرى، منهم من يؤمن فعلا ببعض من مواقف حزب معين، أو ربما بسبب الارتباط التاريخي به. كما أن هناك عددا مهما من المنتخبين يحصلون على مقاعد في مختلف المجالس التمثيلية خارج المعيارين، بعضهم بدعم من القبيلة، والكثير منهم يتم اختيارهم كأشخاص خارج اعتبارات تهم الأحزاب التي يترشحون باسمها، ومناضلون أيضا يتفوقون من داخل مرجعيات أحزابهم مع قلتهم. كما أن الموضوعية تقتضي عدم وضع الأحزاب كلها في سلة واحدة.

الرهان على الشباب المتحزب… تجديد النخب أم استنساخها؟

إن الشبيبات الحزبية التي كانت بمثابة البنية و”الدينامو” المحرك والمصحح لمسارات الأحزاب تم إضعاف بعضها، وبعضها الآخر لم يكن أصلا قويا ذات يوم. وقد ساهمت مجموعة من العوامل في إنتاج نخب جديدة تسير في نفس منحى القيادات الجاثمة على أجساد تنظيماتنا السياسية، شباب تم تأثيث المشهد السياسي بهم، والكثير منهم لم يلج السياسة من أجل الحصول على تكوين سياسي، وبناء ارتقاء تدريجي داخل متاهات الهياكل الحزبية حسب الاستحقاق، وصولا إلى قيادة هذه الأحزاب للقيام بأدوارها التنويرية والتأطيرية والتنموية؛ بل يكون الهدف غالبا، للأسف، الحصول على مناصب في مؤسسات وقطاعات متعددة، ولنيل مكاسب غير مشروعة، والصراعات والمعارك الرهيبة التي يتم إشعالها من أجل مقاعد كوطا الشباب في البرلمان، وكذا على مناصب الدواوين الوزارية، والترقي المفاجئ في المؤسسات التي يشتغلون بها، تبين بالملموس ما نشير إليه.

كما أن التتلمذ على أيدي زعماء بممارسات غير سوية يؤدي إلى اتخاذ الشباب لهم كنموذج يبنون عليهم مساراتهم الحزبية، مع سيادة الصوت الواحد وغياب أو تغييب كل اختلاف في الآراء والمواقف داخل التنظيم نفسه؛ مما سيؤدي حتما إلى جعل “تجديد النخب الحزبية” شعارا مفرغا من مضمونه، ليصير في الحقيقة إعادة إنتاج نفس الممارسات والسلوكات من خلال أشخاص مختلفين، لأن “الماكينة” نفسها تصنع لنا المنتوج نفسه، وهو أمر ينذر بإطالة أمد الأزمة الحزبية.

تشخيص واقعي للخروج من الأزمة

إن محاولة تشخيص واقعنا الحزبي والسياسي بكل تجرد وموضوعية ليس الهدف منه تعميق الأزمة وفقدان المزيد من الثقة في العمل السياسي الحزبي، أو ممارسة الأستاذية على الأحزاب وتبخيس عملها بشكل مطلق، أو الدعوة إلى التخلي عنها؛ بل الهدف من هذا التشخيص والوصف الواقعي بصرامته هو محاولة لوصف العلاج المناسب، ودق ناقوس الخطر، لاستنهاض ما تبقى من الهمم والضمائر، والتنبيه إلى مخاطر التمادي في إفساد الحياة السياسية بما له من تداعيات وكلفة باهظة على مستقبل الوطن والمواطنين.

إنها دعوة إلى إجراء رجة وإصلاح عميقين للأحزاب حتى تستطيع أداء أدوارها الحقيقية، لتكون قادرة على المساهمة في التنمية المستدامة والتغيير الديمقراطي، وتتمكن بذلك من إجراء مصالحة مع المواطنين الذين فقدوا فعلا الثقة فيها، دعوة صريحة تفرض نفسها بعدما بلغ السيل الزبى، لفتح المجال أمام الشباب والكفاءات لخلق أحزاب جديدة بنفس جديد وفكر وسلوك سياسي جديد، لدعم إصلاح الحياة السياسية.

في المقال المقبل، سأحاول طرح عدد من الحلول والاقتراحات والبدائل الكفيلة بالخروج من الأزمة، أو على الأقل تلك التي من شأنها المساهمة في تخفيفها، واستفزاز العقل الجماعي لفتح نقاش وحوار وطني جدي حول هذه القضية المصيرية، وذلك أقل الإيمان.. الدافع يبقى غيرتنا على وطننا ومكاسبه الديمقراطية، ورهاننا على الإصلاح الحزبي كأداة من أدوات تحقيق التنمية المستدامة والتغيير الديمقراطي لصالح وطننا ومواطنينا.

*صحافي وفاعل سياسي

hespress.com