عن دار ملتقى الطرق بالبيضاء صدرت الترجمة العربية الكاملة لكتاب “مديح الهُويات المرِنة” للأنثربولوجي المغربي حسن رشيق، التي أنجزها المترجم حسن الطالب.
وجاء في مقدمة المترجم، وفق الورقة التقديمية للكتاب، أنّ “مفهومَ الهويةِ هو أحدُ أكثرِ المفاهيمِ تداولا في أيامنا، سواء بين المتخصِّصينَ الأكاديميين في العلوم الاجتماعية والإنسانية أو بين المهتمين من مختلف المشارب. واللافتُ للانتباه أنَّ هذا الاهتمام ما انفكَّ يتنامى في ظل التَّحولات الكبرى -الاقتصادية والثقافية-التي شهدها القرن الماضي، مع ظهور مفهومٍ وإشكالٍ أثارا، هما كذلك، على التوالي، جدلا كبيرا بين المثقفين”.
أوّل المفهومَين مفهوم “العولمة”، الذي “كان له أبلغ الأثر في إعادة تشكيل إدراك الإنسانِ، ووعيه بالمكانِ والزمانِ؛ وما يوجد بينه وبين مفهوم الهوية من تداخلٍ، وتفاعُلٍ، كلما أُثيرا في نقاشٍ خاصٍّ أو عامٍّ. إذ يستدعي مفهومُ العولمةِ، بالضَّرورةِ، الحديثَ عن مفهوم الهويةِ، والعكسُ صحيحٌ”، وثانيهما إشكال “الهجرةِ”، بانعكاسَاته الدولية، المختلفة، في فضاءاتٍ متباينةٍ من المعمور”؛ الذي من بين آثارهِ الجانبية “تعميق النقاش بشأنِ الهوية، وإعادة النظَرِ في ماهيَتِها وقضَاياها، فرديةً كانت أم جماعيةً”.
ويضيف التقديم: “ورثت البشرية، قبل إشكالية الهجرة ومفهوم العولمة، أدبيات لا حصر لها، من القديم والحديث، قريبة من المفهوم، من قبيل ‘القومية’، و’الوطنية’، و’العرقية’، اختلفَت مصادرها، وأجناسُها، وصيغُ التعبير عنها باختلاف الثقافات، والسِّياقات، من شعر، وملاحم، ومنظومات، ونصوص رحلية، ودينية، وفلسفية، وقصة، ورواية…”.
وقد يكون النقاش الدائر حاليا في العالَمِ بأسْرهِ بشأنِ الهجرةِ، بصرف النَّظر عن انعكاساتها الاجتماعية، والسياسية، “خير دليل”، وفق المصدر نفسه، على “الأهمية التي أصبح يكتَسيها البحثُ الأكاديميُّ في مفهوم الهوية، وفي أبعادِه العلمية، والثقافية، والسياسية”، وهي أهميّة “تزدادُ مع تدفُّقِ آلافِ المهاجرينِ، الباحثين عن مستوى عيشٍ أفضلَ، في مناطق عديدة من المعمور، واختلافِ الآراءِ بين مَن ينادي بدمْجِهم، وحُسْن استقبالهم، لضروراتٍ أخلاقيةٍ، وإنسانيةٍ من ناحية، وبين من يُطالب بإبعادهم، أو طرْدِهم نحو بلدانهم، وتضييقِ الخناقِ عليهم من ناحية أخرى، خوفاً من هوياتهم المغايرة، أو الغامضة، أو العدوانية، أو حتى القاتلة”.
ضمن هذا السياق العامِّ، يزيد التقديم: “يمكنُ تأطيرُ كتاب حسن رشيق الأخيرِ ‘مديحُ الهوياتِ المرِنَةِ’؛ وهو موضوع حظيَ لدى الباحث بمكانةٍ رئيسةٍ في مسار مشروعه الأنثروبولوجي، بل إنهُ أحدَ المباحثِ الأثيرةِ لديهِ. فقد سبق أن تناولَه بصورة معمقةٍ، في إطار آخر مُرتبِطٍ بالهوية المغربيةِ. بيد أن الذي يميزُ هذا الكتابَ هو أنه يروم مقاربةً مبسَّطةً وديداكتيكيةً لإشكالات الهويةِ”.
ويضيف المصدر نفسه: “هذا الكتاب وإن كان يتَّخذ من المغرب مُنطلقا في مساءلة الهوية، فإنه يمدِّدُ رُقْعةَ الدراسة كي تَشمَل الأشكالَ الهوياتية، وتجلياتها المختلفةِ داخل منظوماتٍ فكرية، وإيديولوجيةٍ في العالم العربيِّ، والإسلاميِّ، منذ عصر النَّهضةِ، أي مع محمد عبده والأفغاني، مرورا بالحركات الإسلاميةِ، والأصولية (النّصوصيّة) عند حسن البنا والمودودي، وانتهاء بالرؤى المعاصرة على اختلافِ مرجعياتها، قومية، وعروبية، وأمازيغية، وسلفية، ولغوية”.
ويقول المترجِم إن الهوية التي يسائلها الأنثربولوجي حسن رشيق “ليست هي الهويةُ الفرديةُ، ولا الهويات الاجتماعية المرتبطة بالجنْسِ، والمِهنة، وإنما هوياتٍ تستدعي تقاليدَ جماعيةً، وثقافيةً، ودينيةً، ولغويةً؛ من ثم فإن ما يسترعي الانتباه هو رصْد التَّشابهات، والاختلافات التي تتحكَّم في كلِّ مطالبةٍ أو ادِّعاءٍ بتقمُّصِ هوية محددةٍ، أو حتى رفْع السلاحِ من أجلِها. فكل من ينادي بهوية مّا ينادي، في الوقتِ نفسه، بالرَّغبةِ في التميُّز عن الآخرينَ، أو الانفصالِ عنهم، وفي أقصى الحالات الدخول معهم في ضُروب من المواجهة والصِّدامِ”.
مثل هذا المعطى، وفق المصدر ذاته، هو “ما دفَع الباحثين في الهويات إلى مساءلةِ الخصائِصِ والطباع النفسية، والثقافية، التي تميزُ شعبا عن آخر، أو أمةٍ عن أخرى، أو دينٍ عن دينٍ”؛ ولذلك فإنَّ “المطالبة بهويةٍ مّا إقرارٌ بما يجمَعُ بين أفراد مجموعة معينة مِن خصائصَ تُميزهم، وتُفْردُهم، وبما يجعل الفرد يشتركُ مع جماعتهِ في عدد من الخصائص والمواصفات، والمقوِّمات، والطُّموحات، والمطالبِ… التي يمكن تَصْريفُها في سلوكياتٍ يوميةٍ ومعايير، ورموز، وصور، وتمثيلات، من لباس، وغذاء، وتقاليد، واحتفالات، وطقوس، وفنون، وعلاقات الاجتماعية…”.
ويحددُ رشيق في المقدمة السؤالَ الذي وجَّه مقاربته لإشكالية الهويات قائلا: “إن السؤال الرئيس الذي يوجِّه بحثنا هذا سؤالٌ كلاسيكيٌّ في حقليْ السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا.. سؤالٌ مرتبطٌ بالعلاقة بين الفرديِّ والجماعيِّ، وبدرجةٍ الاستقلالية المتروكة للأفراد المنتمين إلى هذه الهوية أو تلك. وفي عالم ما فتئت قائمة الهويات تزداد طولا، ما أحوجنا اليوم إلى معرفة كيف نتعامل مع هويات جماعاتنا الدينية والسياسية واللغوية مع احتفاظنا، في الوقت نفسه، باستقلاليتنا”.
وتقول الورقة التقديمية إنه في سبيل الإجابة عن أسئلة الهوية، فضّل الباحث “منهجا تحليليا تصنيفيا يقدم من خلاله أكثر الهويات حضورا في الثقافات الوطنية؛ فاستهلَّ مقاربته بمقدِّمةٍ تناول فيها الهويةَ والاستقلاليةَ، وناقشَ وظائفَ الهويةِ، ولاسيما ما يتَّصل بوظيفتها التَّصنيفيةِ، أي اللغة، القبيلة، الجنس، الدين، الأصل، والوطن، ووظيفتها العملية، بوصفها مجموعة من الأفكار والقيم التي تُنظِّم علاقات الأفراد فيما بينهم، مثل الصداقة، والزواج، والمصاهرة، والزبائن وغيرها”.
كما تطرَّق الأنثروبولوجي لأشكال الهوياتِ ومحتَواها، مع التنبيه إلى أنَّ مقاربته تُسائِل الأشكال، أكثر من مساءلتها للمحتويات الهوياتيةِ، بالتركيزِ على أكثرها تداوُلا، في المحيطيْنِ السياسي والثقافي، في المغرب على الخصوص، وفي العالم العربي على العموم.
وتذكر الورقة التقديمية لكتاب “مديح الهويات المرِنة” أن الباحث تناول في الفصل الأول “أدلجةَ الهوياتِ”، التي هي “أدلجةٌ تتخذُ طابعا دفاعيا في الأغلبِ، وتهدف إلى حماية نفسها من أيِّ خطر محتمل، ولا تتوانى في إخراج كلِّ ما في جُعْبتِها من موروث ثقافي، أو ديني، أو تقاليد، للدفاع عن وجودها”، ويزيد: “تتضح ملامح البعد الإيديولوجي عندما تنتقل مجموعات معينةٌ من التَّعبيرِ شفهيا عما هو ضمنيٌّ، أو مُضمر، إلى التعبير خطابيا، عبر إنتاج ممارسة خطابيةٍ، صريحة ومُفكَّر فيها”.
وتنبه الورقة، هنا، إلى أن حديث رشيق عن البعد الإيديولوجي في الهوية “لا يقصد جانبها السّلبي التحقيري، بل جانبها الذي يرى فيها منظومةً ثقافيةً، من قيم، وطقوس، ومعتقدات، وأفكار، لا مناص منها في العمل السياسيّ الحديث”.
كما تذكر الورقة أن الهوية الجماعية تتجلَّى مثلا في مجموعةٍ من القيم، والمعارف، والمشاعر، والطقوس، والمعتقدات؛ وما يتفرَّع عنها هو تعبير عنها، وتصريف لها، وبه تتحدَّدُ مستويات أخرى كمستوى الانتماءِ (من أكون أنا؟ ومن هو الآخر؟ كيف أحدِّدُ علاقتي بالآخر؟) والهرمية (المسلم قبل العربي أو العكس، المغربي قبل الأمازيغي أو العكس..إلخ)، ومستوى طبيعةِ الرموز، والشعارات التي تعبِّر عن هويةٍ معينةٍ، ومستوى الشعورِ (متى نحزن؟ متى نفرح؟ متى نفخر؟ متى نغضب؟ متى نحب؟ متى نكره…)، ومستوى السلوك (تبادُل التَّحية، اللباس، طريقة تأثيث البيت…).
بعد هذا، صنَّف الباحث الهويات المدروسةَ وَفقاً للسياق الثقافي، والسياسي الذي برزت فيه، وقدَّم أمثلةً عديدةً عنها، وعن المنظِّرين لها على اختلاف مرجعياتهم الإيديولوجية؛ فـ”عرَض لأكثر الهوِيّاتِ تجليا في العالم العربي، مثل الهُويةِ الأُحاديةِ (الفصل الثاني)، والهوية التَّراكُميةِ (الفصل الثاني)، والهوية المفروضَةِ (الفصل الرابع)، والهويةِ المكتَسَبةِ (الفصل الخامس)، والهويةِ الشُّموليةِ (الفصل السادس)، والهويةِ الانتقائيةِ (الفصل السابع)، والعلاقةِ بالآخَرِ (الفصل الثامن)”.
وختَم حسن رشيق عملهُ بالحديث عن “الهُوّيّاتِ المرنَةِ”، في الفصل التاسع من كتابه، الذي خلص فيه إلى كونها “تتيحُ قدْراً من التَّعايُش، والانفتاح، والتفاعل والتناغم بين مكوناتها، والاعتراف المتبادل بين الأفراد، بما يتيحُ فتح أفُقٍ رحْبٍ للحوار الدائم والمتسالمِ، والعيْشِ تحت سقْفٍ مُشتَركٍ في منأى عن أيِّ اختزالٍ أو إقصاءٍ أو تهميشٍ”.
وتقول الورقة التقديمية إن كتاب حسن رشيق استطاع أن يصوغ “إطاراً نظرياً ومعرفيّاً ومنهجيّا للتعامل مع الهويات باختلافها”، قبل أن تزيد: “على الرغم من الطابع الديداكتيكي الذي وسم به مقاربتَه لها، إلا أن دراسته هذه (…) تصلُح منطلقا وجيها ومناسبا لمقاربات أوسع وأعمق لتجليات الهوية في المغرب، أو في العالم العربي”.