يؤكد خلدون النبواني، المفكّر السوري، أن عودة السلفية الدينية إلى مجتمعات المنطقة بدأت قبل جائحة “كورونا” بكثير، إذ ترجع عودتها القوية، بحسبه، إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي، بعد سقوط المشاريع القومية العربية وتحالف السلطات الحاكمة مع السلطات الدينية.

ويوضح النبواني، ضمن المقابلة التي أجرتها معه جريدة هسبريس الإلكترونية، أن المنطقة تعيش مرحلة استفحل فيها “السرطان الديني السلفي الرقابي العقابي المتحكم”، ليبرز أن الإسلام السياسي نجح في فرض نفسه كقوة مشاركة للسلطات الحاكمة، وربما صاحبة الكلمة الأولى في السياسة، وامتلك أدوات هائلة في التأثير على الرأي العام وغسل العقول.

ويشير الفيلسوف السوري إلى أنه حين تبرز قضايا طارئة في الواقع، ويعجز العلم والرؤى السائدة للكون والعالم عن الإجابة عنها بشكلٍ كاف ومُرضٍ، تجد الفلسفة نفسها مدعوة للتفكير في تلك القضايا، لكن ذلك لا يعني أن العلم والدين والمعرفة التي أخذت شكل الخبرات الاعتيادية اليومية بما تتضمنه من تصورات وميراث فكري أسطوري قد أفلست، لكنها لا تجد نفسها مع قدوم “الحدث” قادرة على الإقناع أو الطمأنة، بل أحياناً تجد نفسها ضائعة متعثرة كما حصل مع تفشي وباء كوفيد-19.

وإليكم المقابلة كاملةً:

أرغمت “الجائحة الكورونية” المشتغلين في الحقل الاجتماعي والفلسفي على إعادة التفكير في ظواهر المرض والصحة والاقتصاد والدولة وغيرها من الظواهر المتعلقة بالمستقبل الإنساني. وتباينت أشكال النظر إلى الجائحة بين الباحثين، لكنها طرحت كذلك الكثير من الأسئلة المهمة لدى الأفراد، خاصة ما يتعلق بالأسطورة والعقل. لماذا أعادت الجائحة الفلسفة إلى واجهة الاهتمام العام؟.

حين تبرز قضايا طارئة في الواقع، ويعجز العلم والرؤى السائدة للكون والعالم عن الإجابة عنها بشكلٍ كاف ومُرضٍ، تجد الفلسفة نفسها مدعوة للتفكير في تلك القضايا. لا يعني هذا أن العلم والدين أو المعرفة العامة التي أخذت شكل الخبرات الاعتيادية اليومية بما تتضمنه من تصورات وميراث فكري أسطوري قد أفلست جميعها، لكنها تفقد مع قدوم (الحدث) القدرة على الإقناع والطمأنة، بل أحياناً تجد نفسها ضائعة متعثرة وتائهة كما حصل بها مع تفشي وباء كوفيد-19.

وضعت كلمة الحدث أعلاه بين قوسين لأن الحدث فلسفياً -أو كما أفهمه على الأقل- هو شيء ليس حديث تماماً، وإنما أمر قد يتكرر ويعود مراراً عبر الزمن، لكنه ومع كل ظهور له يبدو جديداً كلياً، غريباً، طارئاً، غير مألوف فيثير؛ بالتالي، كل تلك الحالة من الاضطراب والضياع كما لو أنه يحصل للمرة الأولى دون أن يكون هناك تراكم خبرات في مواجهته، أو التعامل معه واحتوائه.

الأوبئة والأمراض ليست جديدة على العلم ولا على التاريخ البشري ولا على الفلسفة، بل كانت في السابق تثير رعباً أكبر، ويكون ضحاياها أكثر بكثير قياساً بأيامنا هذه، حيث تطورت المؤسسات الطبية، وتقدم الطب، وتراكمت المعرفة الوقائية والعلاجية. ليس كوفيد-19 بكل تحوّراته التي لا تني تتنوع بأخطر على البشرية مثلاً من الطاعون الأسود، ولا الأنفلونزا الإسبانية، لكن وسائل السفر السريعة والتنقل وازدياد أعداد البشر بشكل مبالغ جداً فيه جعل من كورونا جائحة عالمية لم تستثنِ جيباً ولو صغيراً من الكرة الأرضية.. وكان لتركيز وسائل الإعلام وانفجار الثورة التكنولوجية أن عاظم من حضورها وبالغ في استعراض أخطارها.

في مثل هذه “الأحداث” الطبيعية الخطيرة يعود سؤال الحياة العضوية والفلسفة الحيوية والبيولوجيا والبيوتيقا إلى واجهة مسرح الفلسفة والتأمل الفلسفي، ويعود، على النقيض من ذلك أحياناً، العقل ليتصالح مع الأسطورة ويتفكر في ما يحصل بوصف الوجود قوى أسطورية هائلة تحركها غايات فوق بشرية، ويحكمها صراع الخير مع الشر، وتسود فيها رؤى الانتقام والحساب إلخ. لكن حضور الفلسفة العضوية والحيوية يظل طارئاً وقصير الدور على مسرح الفلسفة، فينسحب طويلاً مع انتهاء الحدث ليعود “الروتين” إلى الحياة والفلسفة.

ليس عجباً، إذن، مع الجائحة أن يتم نفض الغبار عن مؤلفات ميشال فوكو حول القوة الحيوية biopouvoir، أو السياسة البيولوجية biopolitique التي كتبها في سبعينيات القرن الماضي كجزء من وفائه للإرث النيتشوي في فلسفة الحياة، والتي كانت شبه منسية قبل الجائحة. في مثل هذه الأحداث تعود البيولوجيا لتفرض نفسها على الفلسفة السياسية والاجتماعية، وتمنح الفلسفة فرصة لتصفية حسابها مع العلموية التي تحاول سلب الفكر الفلسفي من كل حقيقة بيولوجية وصحية.

هنا يعود سؤال الجسد الفردي، وقلق الموت بالأمراض، ونهاية الموجود (وربما الوجود) كأسئلة ميتافيزيقية أصيلة يبدو العلم أمامها ضعيفاً عاجزاً. وهذا يشرح لنا مثلاً رأي هابرماس النقدي (وأنا أتفق معه هنا) في عجز المعرفة العلمية، إذ نكتشف -كما لو متفاجئين- “محدودية معرفتنا”. وهذا صحيح، فرغم ذلك التقدم الطبي الهائل، وتراكم الخبرات العلمية والتجارب التاريخية في مواجهة الجوائح والأوبئة، وقف أكبر البيولوجيين وعلماء الأوبئة والفيروسات والأطباء وأهم المؤسسات الطبية والمخبرية في العالم عاجزين مترددين أمام هذا “الحدث” القديم/الجديد (الوباء)، فتضاربت آراؤهم ومواقفهم حد التناقض، بل وأكثر مما يقع حتى بين الميتافيزيقيين.

ولم يقتصر هذا الضياع على العلم والعلماء، وإنما على الساسة والسياسيين، فحصل تخبط مرعب آثار مخاوف الناس، إذ شعروا بأنهم مكشوفون أمام الجائحة لوحدهم. كل ذلك الاطمئنان بوهم الأمن الوجودي الذي كانت تمثله الدولة الراعية أو دول الرفاهية كما نسميها في علم الاجتماع السياسي الغربي تبخر فجأة، بل حتى الثقة في الرعاية الإلهية هنا خلخلها القلق والشك، فبدا كما لو أن السماء تنتقم من أهل الأرض بسبب ضلالهم. في وسط كل ذلك الضياع تبدو الفلسفة كمنارة أخيرة وسط بحر القلق الوجودي المرعب.

تأكد لدى المجتمعات أن الفلسفة مازالت تملك ما تقدمه للإنسان، لاسيما في لحظات القلق؛ بينها لحظة الجائحة التي طرحت العديد من الإشكالات الفلسفية والأخلاقية على طاولة النقاش، نظرا لاحتمال الموت الذي بات يلاحق الأفراد في الحياة اليومية، وهو ما يعتبره الفيلسوف البريطاني “كريتشلي” قلقا وجوديا لا يمكن تجاوزه سوى بالتصالح معه. في نظرك، ما الذي يعنيه الموت بالنسبة إلى الإنسان خلال الجائحة؟.

الموت سؤال وجودي مُطلق، لكنه يغيب أو يُغيَّب حتى يستطيع الناس الاستمرار في الحياة دون قلق الموت الذي قد يفسد حياة الإنسان. في حالات غياب المرض الشخصي الخطير أو الشيخوخة التي تنذر باقتراب النهاية، لا يحضر الموت في حياتنا المعاصرة سوى كشبح باهت غير مرئي تقريباً في خلفية مسرح الحياة وكواليسها. مع تطور الطب الكبير، وتوفر الرعاية الطبية، وأنظمة الضمان الصحي والاجتماعي في المجتمع المتقدم، ومع ضجيج مجتمعات الاستهلاك بكل ما تمارسه من استلاب للوعي الوجودي والفكر النقدي، يغيب الموت وتحضر الحياة كطوفان من المتع والاحتياجات المُصنَّعة والمسوقة والصور التي تعمي الناس عن رؤية الواقع، فيلهث الناس وراء السلعة ومجتمع الفرجة الذي تحول إلى سيمولاكرات لا تحجب الموت فقط، بل تحجب قبله الحياة.

في حياة السيمولاكرات لا تصبح الحياة نماذج وصورا عن الحياة فقط، وإنما يصبح الموت موتا لصورة عن الموت أو لشكلٍ منه. تأتي الجائحة لتوقظ الإنسان من سباته الدائم في عالم الصورة والشراء والتسليع، فينتبه الموجود فجأة إلى نهائيته ووجوده أو بمفردات هايدجر ينتبه الموجود أنه دازاين. ولعل تذكر الموت هو ما عبر عنه الرئيس الفرنسي ماكرون في أحد خطاباته الأخيرة بعد إصابته بكورونا، بما معناه أن المرء كان يظن نفسه بمنأى عن الخطر والموت فانتبه فجأة أنه هش جداً.

ومع ذلك يأتي الموت في الجوائح – كما في الحروب – ناقص القيمة وباهت الحضور، فالموت هنا لا يعود شخصياً فقط، بل جماعياً يصيب أعدادا كبيرة من الناس ويتهددهم. حين يُعمم الموت يفقد سطوته وهيبته التي يتجلى عليها حين يستفرد بشخص بذاته. إن وقع موت شخص ما في زمنٍ روتيني في حادث سير مثلاً أكثر فجائعية ومُصاباً وتراجيدية منه لو مات وهو يقاتل في حرب يُقتل فيها المئات يومياً أو في جائحة معممة على الكون.

لا يأتي الموت هنا كخاطف مخيف يستفرد بالفرد، وإنما كلعنة تخيم على الأفق وتهدد الجميع، فيخف القلق من الموت ويخف التمسك بشآبيب الحياة. لكن تأمل الموت فلسفياً هو أمر مختلف ربما. هناك من الفلاسفة من تصالحوا مع فكرة الموت كما نقرأ مثلاً في محاورة “فيدون” لأفلاطون أو في أعمال الفلاسفة الرواقيين أو في الفلسفات الشرقية. لكن، بالمقابل هناك من الفلاسفة من شد وتر العلاقة بين الحياة والموت حتى كاد ينقطع كما فعل هايدجر ودريدا مثلاً. شخصياً أواجه وجه الموت في الجائحة بتصالح مقلق، أقاوم دعوته المُلحة لي وزيارته المفاجئة، لكن لا أدري إلى متى…

بالحديث عن علاقة الفلسفة بجائحة “كورونا”، يسائل الطارئ الصحي العالمي الواقع الفسلفي العربي في يومنا هذا، خاصة أنك سبق أن تحدثت عن معضلة عدم تفلسف العرب بنبرة تشاؤمية. هل يتفلسف العرب حقيقة أثناء الجائحة؟.

أظنك تشير هنا إلى مقال “سريع” وقديم لي بعنوان “لماذا لا يتفلسف العرب؟”. في ذلك المقال الذي يشبه الصرخة كنت أحتج على ما كان يحدث من قتل في غزة (وهو ما نعيشه اليوم أيضاً)، وكان سؤالي استنكارياً متمرداً على الموت الذي لا يترك لنا فرصة للتفكير في الحياة وفي الفلسفة. لكن بعيداً عن تلك الحالة الطارئة فقد دافعت ومازلت أدافع عن فكر عربي وفلسفة عربية موجودة وقائمة، لكنها، للأسف، كسولة ومترهلة مثلنا نحن العرب.

حوارنا هذا مثلاً هو ممارسة فلسفية بكل معنى الكلمة. وقد طرح العديد من الفلاسفة والمفكرين العرب –كغيرهم من الفلاسفة والمفكرين في بقية أنحاء الأرض- العديد من الأفكار حول الجائحة، وتفكروا فيها، وفي مستقبل الإنسان والمرض إلخ. العرب يتفلسفون، لكن ليس بانقطاع إلى الفلسفة أو بوفاء جدير بالفلسفة. لا يمكن مثلاً أن نقول إنه لا زراعة في العالم العربي، وإنها فقط موجودة في أوروبا، لأن أدواتهم أكثر حداثة وجِدة، ومحاصيلهم أوفر. هناك زراعة عربية وفلسفة عربية تحتاج إلى تحديث واهتمام وحب وإخلاص في العمل، وجهد أكبر في التعامل مع الأرض والطبيعة والفكر والحياة العضوية والعقلية.

عادت السلفية الدينية لتهيمن على المنطقة العربية، وهو ما أمكنت ملاحظته في “فترة كورونا”، بالإضافة إلى سيادة “الشعبوية الدينية” بعدد من الفواعل الإسلامية. هل أدى تراجع المشاريع السياسية الحداثية إلى عودة السلفية بالمنطقة العربية؟.

بدأت السلفية الدينية برأيي قبل كورونا بكثير؛ عودتها القوية للمجتمعات العربية ربما ترجع إلى سبعينيات القرن الماضي، أي بتوازٍ مع سقوط المشاريع القومية العربية وتحالف السلطات الحاكمة مع السلطات الدينية. مع مرور الوقت ستستفحل السلفية الدينية (ليس فقط الإسلامية عندنا، بل والمسيحية كذلك – لبنان مثلاً)، بحيث يحكم الأجداد حياة الأحفاد، وتطبق السماء بخناق الأرض، وتشل الرجعية كل إمكانية للتحرر والمدنية والانعتاق.

وكان لاحتكار السلطات الحاكمة للسياسة، وتحويل الدولة إلى ملك عائلي عضوض، وتسليم السماء لفقهاء/خياطين يفصِّلون الدين على مقاس سلطة الحاكم ومصالحهم الخاصة، أن تفشت السلفيات التي ضيّقت الحريات الدينية فصار الإيمان وزراً لا خلاصاً، وتحول الدين إلى طقوس عبودية وخضوع وإخضاع يغدو فيها الخروج على الحاكم معصية لأوامر الله، ويصبح الفقهاء سيمولاكر الآلهة والناطقين الحصريين باسمها.

إن حرمان الشعوب من تقرير مصائرها وتفقيرها وتجهيلها وتخويفها من الإله والحاكم، من الموت والحياة، لا يترك للناس سوى الدين السلفي الشعبوي البسيط، دين الدراويش أو الناس البسطاء المسالمين الذين ينسحبون من الحياة في انتظار عدالة ما بعد دنيوية وحياة أخرى يستردون بها حقوقهم وحيواتهم المسروقة في الدنيا. حين يكون الحاضر كابوساً ورعباً وفقراً، يفر الناس إما إلى ماضٍ مؤمثل يتم تحويله إلى فردوس مفقود، أو إلى مستقبلٍ متخيل مُنتظر. الفردوس المفقود والجنة الموعودة هما وجها الهروب الخلاصي من الحاضر والواقع.

في هذا الفراغ السياسي الاجتماعي الفكري يمكن للإسلام السياسيّ أن يحشد أنصاره الذين سيجدون فيه الخلاص الأخير وينتسبون إليه زرافاتٍ ووحدانا. لقد ابتلع الإسلام السياسيّ عندنا كل شيء حتى الفلسفة والفكر النقدي، وتراجع الفن والحريات مع ازدياد القيود الاجتماعية، حيث صار الكل رقيبا على الأخلاق وتصرفات الناس وشرطة السماء لمعاقبة الضلال على الأرض.

العودة الجديدة للمسألة الدينية إلى الفضاء العام باتت ملحوظة في البلدان الغربية، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، الأمر الذي يفنّد المقولات والتنبؤات القائلة بنهاية الدين وزواله، لأن ما حدث هو العكس تماما، إذ عرف رجوعا قويا في الفضاء الثقافي والاجتماعي الغربي مثلما تحدث عن ذلك الفيلسوف هابرماس. ما سرّ هذه العودة القوية للدين في الفضاء العام؟.

إن الفضاء العام بالصيغة التي يقدمها هابرماس في مفهوم Öffentlichkeit غير موجود في العالم العربي. يمكن لنا الحديث بدلاً عن الفضاء العام الذي يشهد النقاشات الشعبية بحرية ودون رقابة في مجتمعات ديمقراطية عن مفهوم الكل الاجتماعي العربي، الذي سقط عن حوامله الطبقية وصار الناس فيه مجرد حشود كميّة أقرب إلى مفهوم الرعايا منه إلى المواطنين. وكما شرحت أعلاه فإن تجريد الشعوب من حق المشاركة السياسية والتفاعل الاجتماعي الحر، بل ومن الحياة الاقتصادية الكريمة، دفع بها إلى الجدار الأخير، وهو الدين الشعبوي، وهو أرض خصبة لتنمو فيها فطور التعصب الديني السامة. وقد نجح الإسلام السياسي في استغلال هذا الوضع وتلاعب بمشاعر الناس الذين فقدوا كل شيء، ولم يبق لديهم ما يخسرونه سوى ذُلهم.

لا أعتقد أن لأحداث 11 سبتمبر ذلك الأثر المباشر على استشراء الإسلام السياسي في العالم العربي، فهو كان ينتشر بسرعة قبل ذلك بعقود منذ سبعينيات القرن العشرين، كما سبق وأشرت، لكنه فتح أبواب اضطهاد المسلمين في الخارج، وساهم في تشكيل صورة المسلم الإرهابي لدى الشعوب غير المسلمة ووتر العلاقة مع الغرب الذي شهد بدوره وبقوة، لكن على نحوٍ خفي، عودة الديني كبديل، وربما كتعويذة ضد الإسلام الذي راح ينتشر بسرعة في بلدانه.

أتحدث غالباً عن مسيحية مكبوتة في الغرب، قمعتها الحداثة لكنها تعود، اليوم، لتطل متنكرة بثياب الشعبوية السياسية والنزعات القومجية الغربية. فككل المكبوتات لا يعبر المكبوت عن نفسه بشكل مباشر وإنما بشكل موارب، وهذا حال جماعات اليمين المتطرف التي راحت تنتشر كسرطان الجلد على جسد العلمانية الغربية؛ وهذا برأيي مظهر من مظاهر تفجر المكبوت الديني على نحوٍ ما.

في الختام، هناك خطاب ديني متشدد ينتشر بأغلب مجتمعات شمال إفريقيا والشرق الأوسط، يزداد حجمه في شهر رمضان، حيث لم يستسغ بعض المسلمين حظر صلاة التراويح، مثلما لاحظنا، بالنظر إلى الوضعية الوبائية المقلقة رغم أنها تندرج ضمن النوافل. ما رأيك في “التدين الفلكلوري” الذي يُغيّب جوهر الدين بالمنطقة؟.

نعم، فنحن في مرحلة تغولت فيها السلفيات المراقبة المعاقبة المتحكمة. لقد نجح الإسلام السياسي في فرض نفسه كقوة مشاركة للسلطات الحاكمة، وربما صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في شؤون الأرض والسماء، وامتلك أدوات هائلة في التأثير على الرأي العام وغسل العقول. فلك أن تتصور ذلك الأثر الهائل لقناة كالجزيرة تحولت من قناة إخبارية احترافية إلى الناطق الرسمي باسم الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي على الرأي العام العربي.

لقد تمّ تحويل الإسلام عندنا إما إلى دين خضوع وامتثال وقبول، والتصوف إلى سُكر وشُكر ونسيان للواقع وطقوس استعراضية أو فولكلورية مفرغة من أي كامن تحرري، أو إلى جيوش تتقاتل في ما بينها (سنة وشيعة مثلاً)، وجنود يظنون أن مملكة السماء ستسقط دون خناجرهم وعمائمهم ولحاهم. الحق يقال، إذا لم تنشئ مقاومة تنويرية للفكر الظلامي ولأسباب نشوئه في السياسة والفقه الظلامي فإن ما تبقى اليوم من قوى مدنية تحرص على الحريات، وعلى إقامة دول عربية ديمقراطية قابلة للحياة بكرامة، ستنقرض وينقرض معها العرب كحضارة.

hespress.com