صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال في حديث صحيح مروي عن أبي هريرة: “سيأتِي على الناسِ سنواتٌ خدّاعاتٌ؛ يُصدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادِقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائِنُ، ويخَوَّنُ فيها الأمينُ، وينطِقُ فيها الرُّويْبِضَةُ.
قِيلَ: وما الرُّويْبِضةُ؟
قال: الرجُلُ التّافِهُ يتَكلَّمُ في أمرِ العامةِ”.
ويُعرف الرويبضة بأنه الإنسان العاجز الذي رَبَض عن معالي الأُمور، أي قعد عن طلبها، وهي تصغيرٌ لكلمة رابضة؛ كما جاء في تعريفه في بعض الأحاديث أنّه الرجل التافه الذي يتكلّم في الأمور العامة، وقيل: هو الرجل الذي لا يُنظرُ إليه، ولا قيمة له، ويتكلّم في ما شاء من أمور العامة، ويرفع من يشاء من الناس، ويحطّ من يشاء منهم، ويحوّل الرأي العام بما يتناسب مع جهله وهواه. ومما ورد في صفات الرويبضة: الفسق؛ ومع ذلك يتكلّم في أمر الجماعة والعامة مع عدم قُدرته على ذلك، أتفه وأصغر الناس وأخسّهم، ضعف في العلم والقدْر والعقل، السُّعادة بالمناصب المال وكثرة الكلام، والتوسّع فيه من غير احتياطٍ أو احتراز، حتى إن النبيّ عليه الصلاةُ والسلام قال: “وإنَّ أبغَضَكم إليَّ وأبعَدَكم منِّي في الآخرةِ أسوَؤُكم أخلاقًا المُتشدِّقونَ المُتفيهقونَ الثَّرثارونَ”.
هذا حديث صادر عن نبي أمي منذ خمسة عشر قرنا (15) لم يدخل لا مدرسة ولم يلتحق بجامعة، وبعد كل هذه السنين يصدر “آلان دونو” جامعي – (مواليد 26 سبتمبر 1970) – وهو دكتور في الفلسفة من جامعة باريس وأستاذ محاضر في علم الاجتماع بجامعة “كيبك”، التابعة لقسم العلوم السياسية، كتابه “نظام التفاهة” – (La médiocratie)- سنة 2015.
وفي الحقيقة ما قاله النبي محمد صلى الله عليه وسلم في سطرين حاول الكاتب شرحه في 366 صفحة (بمعدل 8400 سطر تقريبا)؛ فأنت تقلب صفحات كتاب “نظام التفاهة” وكأنك تقرأ “حديث الرويبضة” بتفصيل؛ حيث يتمثل “نظام التفاهة” في أن النظام السائد أدّى إلى سيطرة التافهين على مواقع أساسية من الخريطة الاجتماعية. يكفي أن تنظر حولك، يقول “آلان دونو”، لترى هؤلاء وقد اخترقوا السياسة والإعلام والتعليم والفن… وهو واقع يصفه بتسيّد شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية. لكن “دونو” يقف على معنى فريد لكلمة Mediocre – التي باتت تفيد ما هو سيئ – سليلة جذر يشير إلى معاني التوسّط؛ وبذلك فإن المتواضع والتافه هو المتوسط، أي ذلك الذي لا يلمع في أي مجال.. بعبارة شائعة اليوم، هو ذلك الذي هو بلا موهبة وبلا مهارات.
ويشرح “دونو” ذلك من خلال توضيح كيف جرى هزّ معايير الكفاءة، إذ يشير إلى أن تحصيل التافهين للمواقع لأي سبب من الأسباب يجعلهم يبحثون عن أشخاص تافهين مثلهم لتحصين موقعهم، وعلى أساس هذا التخوّف على الموقع تُبنى بالتدريج شبكة من التافهين تُحصّن فيها كل نقطة بقية النقاط في الخريطة الاجتماعية، ومن ثمّ إسباغ التفاهة على كل شيء. ويضرب المؤلف هنا أمثلة شتّى من التربية إلى الاقتصاد.
لهذا فلا تستغرب وأنت تفتح حاسوبك فيغمرك “تسونامي” من المحللين والمفكرين والخبراء وغيرهم من الرويبضاء التافهين، مصداقا لقول الشاعر:
خنافسُ الأرض تجـري في أعِنَّتِها * * * وسـابحُ الخيل مربوطٌ إلى الوتـدِ
وأكرمُ الأُسْدِ محبـوسٌ ومُضطهدٌ * * * وأحقرُ الدودِ يسعى غير مضطهـدِ
وأتفهُ الناس يقضي في مصالحهمْ * * * حكمَ الرويبضـةِ المذكورِ في السنَدِ