وأخيرا حان الوقت.

“الحاجة! تفضلي”.

هكذا نودي عليها من طرف شابة أنيقة في مقتبل العمر بزي أبيض ناصع. بعد التأكد من هويتها في مدخل القاعة، اقتيدت إلى غرفة ثانية.

فجأة وجدت الحاجة نفسها وسط حشد هائل من النسوة، تجاعيد وجوههن تكشف عدد السنين الذي هو بحوزتهن. لمحت عيناها كرسيا فارغا في آخر القاعة، وبدون تردد اتجهت صوبه جاعلة منه كرسيا لها، محافظة كعادتها على مسافة التباعد.

لقد أثرت الأخبار المتداولة حول جائحة كورونا من طرف القنوات الرسمية وكذا أخبار التواصل الاجتماعي بشكل كبير على حياة الجميع. وأصبح الحديث اليومي داخل المنازل، في الحي مع الجيران أو في العمل لا يمكن أن يتخطى مستجدات ومخلفات الجائحة. صفحات الجرائد أصبحت هي الأخرى لا تخلو من سرد غرائب وعجائب الظاهرة من مختلف البلدان.

بعد توقف دروس محاربة الأمية وحفظ سور القرآن التي دأبت الحاجة على حضورها في السنين الأخيرة بكل جدية، انقطعت صيلتها بزميلاتها الحاجات / “الطالبات”. وبالتالي لم تعد تستقي الأخبار -كما كانت من قبل- إلا من أحفادها وأبنائها. أما الأخبار التلفزية والإذاعية فما زالت تشكل لغتها عائقا لها.

لقد كانت هذه الدروس بالأهمية بما كان بالنسبة للحاجة. فهي مناسبة عرفتها على مجموعة جديدة من الصديقات في مثل سنها، يتقاسمن نفس الوضع ويتبادلن المعلومات بينهن. مناسبة منحتها تذوق نعمة القراءة والكتابة التي حرمت منها طيلة حياتها. مناسبة أيضا أشعرتها بأن أبواب الحياة دائما مفتوحة في وجه من يريد أن يطرقها ليحقق ما يريده. ومناسبة أعادت لها ثقتها في نفسها من جديد.

“ليس لدي وقت كثير. يجب أن أراجع وأنجز واجباتي المدرسية للغد”.

كم رُددت هذه المقولة من طرف الحاجة. بينما كانت صفحات أجندتها من قبل دائما بيضاء. شيء جميل للغاية وأنت تعايش غبطة الحاجة في اكتشافها نكهة القراءة.

حملقت الحاجة من جديد في الحشد المتواجد داخل القاعة. تاه ذهنها وهي تتابع الحركة المستمرة أمامها. فئة من السيدات تدخل وأخرى تخرج. بينما تظل سيدات الوزرة البيضاء قابعة داخل القاعة في حركة دائمة تتنقل من جهة لأخرى. تستقبل، تستفسر، تساعد، تواسي وتبتسم في وجوه النسوة.

“باسم الله. ناولني ذراعك يا حاجة”.

لقد استعصى في البداية على الممرضة الوصول إلى ذراعها. فبالإضافة إلى جلبابها، كان جسمها مغلفا بباقي الألبسة. مما استدعى مساعدة إضافية من إحدى الممرضات. لم تكن الحاجة تتوقع حدوث هذه الحالة. كل تفكيرها كان منصبا على الحقنة بالذات. لقد ترددت كثيرا قبل الإقدام على هذه الخطوة. انتظرت وانتظرت قبل قبول الدعوة ثم استسلمت أخيرا للأمر الواقع. إنها تكره الأدوية بصفة عامة والحقنة على الخصوص.
“بالشفاء إن شاء الله يا حاجة. انتظري ربع ساعة في القاعة قبل الانصراف”.

شكرت الحاجة الممرضات على معاملتهن وعنايتهن الكبيرة ثم تابعت السير.

في الضفة الأخرى من هذا البلد كان ابنها هو الآخر على موعد لأخذ نفس الحقنة. فبمجرد التأكد من هويته وجد نفسه أمام شابة شقراء متأهبة لحقنه.

باشرته بتحية المساء. تحية تختلف بالطبع عن تحية الحاجة. ناولها مستسلما ذراعه الأيسر. لم يتعبها في البحث عن مكان لتلقي الإبرة. لقد كان مستعدا لذلك بارتدائه ملابس خفيفة يسرت الأمور. لمسة أناملها الناعمة هي الإحساس الوحيد الذي راوده.

“لقد انتهينا، تفضل”.

ناولته نصف ورقة خطت فيها: “الساعة الثانية عشرة والنصف”. ثم أضافت:

“عليك بالانتظار ربع ساعة في القاعة الخلفية”.

يا لها من صدفة غريبة! كم من مرة مر أمام هذه البناية الضخمة الغامضة ولم يخطر على باله أبدا أنه سيقتحم يوما ما بابها ويتجول بداخلها ويتعرف عن قرب على معالمها. بل ويمكث وهلة بقاعتها الكبيرة للتمعن في أسرارها المحجوبة عن الأنظار. لقد كان بإمكانه أن يجوب العالم الإلكتروني عبر هاتفه. لكنه استغل هذه الفرصة للتمحص في تماثيل القاعة المتنوعة، في البيانو الأبيض الذي يجلب الأنظار، في ألوان زجاج النوافذ الذي يحجب الرؤية وفي الزخارف المتميزة التي تغطي سقف القاعة. بحث بنظره عن موقع الأجراس التي تدوي أصواتها كل يوم أحد، لكنه لم ينعم برؤيتها.

تاه في كل هذا وهو جالس في إحدى الكراسي الموضوعة خصيصا لذلك. ورغم الاكتظاظ فإن الصمت الرهيب هو المخيم على القاعة. من حين لحين تودع القاعة أحد زوارها. ربع ساعة انقضت. إنه موعد مغادرة القاعة. مغادرة قاعة الكنيسة التي لم يكن يتوقع أن يزورها.

لم تتوقف الحاجة عن سيرها. شاهدت القاعة وهي تغص بالنساء اللواتي انتهين من أخذ الحقنة. نساء جلسن في انتظار نتائج الربع الساعة الأولى بعد التلقيح. تابعت الحاجة المشي في خطى ثابتة في اتجاه الباب الرئيسي. لم تطق المكوث أكثر من تلك المدة. ولم تمتثل للبقاء مدة إضافية تنتظر وسط هذا الجمع.

“كل شيء بيد الله”.

هكذا ردت على طلب الممرضة ثم انصرفت.

hespress.com